الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الواعظون

فارس تركي محمود

2017 / 6 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


شكّل الوعظ عبر آلاف السنين واحداً من أهم الركائز التي استندت إليها المجتمعات البشرية في بقائها وتماسكها وضبط تفاعلاتها الحياتية وصيانة وتجديد منظومتها الأخلاقية ، وكم من الممالك والدول قامت وازدهرت وسادت وكان الوعظ عاملاً مهماً وحاسماً في قيامها واستمرارها ، وكم من خطيبٍ مفوه تمكن من حشد المئات والآلاف خلف قيادته ليغير بهم مسار التاريخ والأحداث ولم تكن عدته في ذلك سوى قدرته على الإقناع واستخدام أساليب الترغيب والترهيب ، وتوظيف الثنائيات الأخلاقية كالخير والشر والحق والباطل والنور والظلام ، وتفعيل أفكار الإنتقاء والإصطفاء كالأمة الأفضل والعرق الأنقى والجماعة الأرقى والمنهج الأصح والفكر الأصلح . . . . الخ .
وقد تعددت أنواع الوعظ فمنه الوعظ الديني والوعظ القومي والوعظ الوطني والوعظ العرقي والوعظ المذهبي وغيرها ، وعلى الرغم من تعدد أنواعه فالوعظ في النهاية لا يهدف إلا إلى تحقيق معادلة ( افعل ولا تفعل) ودفع الناس الى الالتزام بها مثل : أحبوا ، تعاونوا ، أخلصوا ، أصدقوا ، اعملوا ، تنظفوا ، اجتهدوا ، جاهدوا ، ناضلوا ، لا تسرقوا ، لا تخونوا ، لا تغشوا ، لا تكذبوا ، لا تكرهوا ، لا تتفرقوا وهكذا دواليك افعل افعل افعل . . . لا تفعل لا تفعل لا تفعل . . . الخ .
كان الوعظ في سالف الايام يلاقي نجاحاً هائلاً ويحقق نتائج ذات اهمية كبيرة ، وكان يعد واحداً من أهم الآليات والوسائل المطلوبة – إن لم يكن أهمها على الاطلاق - في إحداث اي تغيير اجتماعي أو سياسي والسبب في ذلك يعود الى التطابق شبه الكامل بين طبيعة الوعظ أو طبيعة العملية الوعظية وبين الطبيعة البدائية للعقلية البشرية التي كانت تتلقى الوعظ في الايام الخوالي ، فالوعظ في النهاية ليس حوار بين عقلاء أو تبادل وتلاقح معرفي بل هو خطاب مرسل حماسي تحريضي تهييجي مانوي لا منطقي – في أغلب الاحيان – يستند على مسلمات مسلم بها مسبقاً من قبل المخاطِب والمخاطَب بغض النظر عن كون هذه المسلمات تنطبق أو تتطابق مع العقل والمنطق ، يستهدف المشاعر والعواطف ويشتمل على الصراخ والتهديد والوعد والوعيد وهو اقرب الى حالة من الهوس والاهتياج الغير منضبط بأية ضوابط عقلية .
هذه المواصفات التي إتصف وما زال يتصف بها الوعظ كانت تتسق وتتناغم تماما مع الطريقة البدائية في التفكير ومع عقلية ما قبل الحداثة والتي ظلت سائدة ومسيطرة لقرون طويلة على أنماط التفكير والسلوك للجنس البشري الذي لم يبدأ بمغادرتها لصالح عقلية أكثر نضوجاً إلا مع إطلالة عصر التنوير والنهضة ، إذ بدأ المنهج العقلي التحليلي التجريبي المتسائل المتشكك يحل بشكل تدريجي محل المنهج الخطابي الوعظي الاخلاقي ، وبدأت العقلية العلمية تحل محل عقلية الخرافات والأساطير والمسلمات المسبقة والموروثات المقدسة ، وكلما ازداد النضوج العقلي البشري كلما ابتعد البشر عن الوعظ وكلما قل تأثير الوعظ في حياتهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا إلى ان أقترب من التلاشي في الوقت الراهن .
فمثلما تطورت البشرية في مختلف مناحي الحياة كذلك تطورت في وسائلها وآلياتها التي تبني بها الدول وتقيم بها المجتمعات البشرية وتحفظ تماسكها وتوازنها وتدفعها باتجاه التقدم والازدهار بعيداً عن الاسلوب الوعظي الخطابي ، إذ تبنت المنهج العقلي بدلا عنه . ففي المجتمعات المتقدمة لم نعد نسمع بمعادلة ( إفعل ولا تفعل ) الوعظية ، ولم يعد فيها قائدا ملهَماً او ملهِماً أو خطيبا مفوها أو ثائرا يجمع حوله حفنة من المهووسين ليقلب الدنيا رأساً على عقب ، وغادرت هذه المجتمعات نهائيا التنميطات الأخلاقية وفكرة الخير المطلق والشر المطلق وثنائية الاسود والابيض ، واستعاضت عن ذلك كله بالمنهج العقلي التحليلي الذي قادها في النهاية إلى ما يمكن أن نسميه مرحلة ( التمأسس ) ، حيث تمكنت من مأسسة المجتمع برمته بسياسته باقتصاده بعلاقاته البينية بأخلاقه ، بل ان المجتمع الحديث تحول الى مؤسسة متكاملة متناغمة ، يعمل وينتج ويتفاعل ويوافق ويرفض ويأخذ ويعطي وينصح ويعظ بمنطق وعقلية المؤسسة وليس بعقلية ومنطق القبيلة والجماعة والعرق والمذهب .
إن المجتمعات التي تبنت المنهج العقلي التحليلي التجريبي تمكنت من التوصل – نتيجة لاستخدامها هذا المنهج - إلى الحقيقية العلمية البسيطة التي تقول بأن الانسان - أي انسان -تتحكم بسلوكه مجموعة من الدوافع والنوازع أهمها على الاطلاق دافعي الربح والخسارة فالإنسان يبحث دائما عن تحقيق الأرباح ويتجنب الخسارة ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وبالتالي لا يمكن ولا يجوز منطقا وعقلا أن نعظ الانسان ونطلب منه أن يتبنى قيما أخلاقية بعينها أو يسلك سلوكا محددا إذا كانت هذه القيم وهذا السلوك سيسبب له الخسارة ويحرمه من الربح ، فلا يمكن أن نطلب من انسانٍ ما أن يكون صادقاً ومخلصاً وهو يرى أن الكذابين والغشاشين في مجتمعه هم الذين يحققون أعلى الارباح المادية والمعنوية ، والصادقين والمخلصين هم الذين يخسرون دائماً ، ولا يمكن أن نعظه بالأمانة والعفة والنزاهة والتفاني في العمل وطلب العلم وهو يرى بأم عينيه أن اللصوص والسراق والأفاقين وأهل المحسوبية والمنسوبية في مجتمعه هم السادة وهم الطبقة المترفة وهم الذين يتنعمون بالخيرات ويحصلون على أحسن الفرص ، بينما الأمناء وأهل النزاهة والعمل الجاد – إن وجدوا - يعيشون حياة الضنك والفاقة ، كذلك لا يمكن أن نصرخ ليل نهار في وجوه الناس ونصدع رؤوسهم بأن العرق العلاني أو المذهب الفلاني هو الأفضل ، أو الأمة والجماعة الفلانية هي الأرقى ، أو هذه الفكرة أو تلك هي الاصح ، بينما هم يروا ويدركوا أن الواقع يؤكد عكس ما نقوله وندعيه بالضبط ، وقس على ذلك الكثير والكثير مما نعيشه ونعرفه من تناقضات وخزعبلات وكلام مرسل لا يحمل بين طياته أدنى قدر من العقل والمنطق ويتصادم بشكل فاضح مع الواقع .
إن المجتمعات المتقدمة ادركت هذه الحقيقة البسيطة المتعلقة بدافعي الربح والخسارة لذلك عمدت – نتيجة لذلك ولعوامل أخرى لا يتسع المجال لذكرها - إلى جعل القيم الايجابية قيما مربحة لكي يلتزم بها الانسان ، والقيم السلبية قيما تسبب الخسارة لكي يتجنبها ، فلم تعد تعظ مواطنيها ليل نهار بالصدق وتجنب الكذب وتمكنت بدلاً من ذلك من جعل الصدق صفقة مربحة لمن يصدق والكذب صفقة خاسرة لمن يكذب . إن المواطن في هذه المجتمعات المتقدمة لا يسمع من يعظه بضرورة الالتزام بالصدق وتجنب الكذب ، لكنه بالمقابل يسمع المجتمع كله بكل تفاعلاته وتجاذباته وفعالياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وهو يطلب منه - وبدون صراخ وكلام عبيط - أن يكون صادقا وإلا فانه لن يكون ، وان يتجنب الكذب وإلا فانه لن يحقق نجاحاً ، وأن يصبح فاعلاً منتجاً مبدعاً جاداً نزيهاً . . . الخ ، ليس لان هذه القيم هي قيم أخلاقية إيجابية فحسب بل فوق ذلك والأهم من ذلك لكون هذه القيم هي الشرط الاساس لكي يستحق أن يكون فرداً محترماً وناجحاً في ذلك المجتمع .
إن هذه الحقيقة العلمية الواقعية التي أدركتها المجتمعات المتقدمة عجزت عن إدراكها المجتمعات غير المتقدمة ومنها مجتمعاتنا العربية التي كانت وما زالت تعيش في عصر الوعظ البدائي وتسيطر عليها حالة من الهوس الوعظي ، فالكل يعظ الكل بكل شيء وحول كل شيء ، والكل واعظ والكل موعوظ ، والكل يتصرف بعكس العظات التي يقولها والتي يسمعها . فالمواطن في المجتمعات العربية – نسميه مواطن بحكم العادة والا فهو أقرب ما يكون إلى الاأسير أو الرهينة أو الضيف الثقيل – يسمع مئات وآلاف الأفواه التي تتقيأ عليه بعظاتها صباحاً ومساءً وتطالبه بمكارم الاخلاق من صدق وامانة ونزاهة وجد واجتهاد و و و و . . . الخ ، بينما هو يرى ويدرك ويعلم تماماً أن كل شيء في مجتمعه يهيب به ويهمس له بأن يكذب وينافق ويغش ويسرق ويظهر خلاف ما يبطن لكي ينجو ولكي يحقق الربح ويتجنب الخسارة ، ويحذره تحذيرا شديدا من الصدق والاستقامة لأنها ستورده المهالك ، ويدفعه دفعا لأن يعتمد على محسوبيته ومنسوبيته وعلاقاته الشخصية وليس على جده واجتهاده في تأمين افضل الفرص لحياته ومستقبله ، ليصبح في النهاية كائناً وعظياً بامتياز ، كائناً مسخاً منافقاً يقول ما لا يفعل ويفعل ما يدينه ويشجبه بأقواله ، خائفاً مرعوباً مهزوزاً يقضي عمره التعيس في محاولة الموازنة والتوفيق بين تحقيق معادلة ( إفعل ولا تفعل ) الوعظية التي تجعل المسوخ الأخرى في مجتمعه راضية عنه من جهة ، وبين تحقيق أهدافه الشخصية التي يسيطر عليها دافعي الربح والخسارة من جهة اخرى .
ومما يزيد من تعاسة وورطة الإنسان العربي أنه سليل أمة وعظية بامتياز فالعرب قديماً وحديثاً كانوا ولا زالوا هم سادة الوعظ وفرسان الخطابة وأرباب الشعر والكلام المرسل بغير ضوابط ، وربما هذا ما يفسر السيادة العالمية للعرب في القرون الخوالي عندما كان الوعظ البدائي يعد من أهم وسائل بناء الدول وقيام الممالك ، وعندما كان الأقدر على الوعظ وعلى تدبيج الكلام هو الأقدر على ان يسود ويتسيّد. إن هذا الإرث الوعظي التليد للعرب ( لم يزل يجري سعيرا في دمانا ) كما يقول الشاعر ، وما زلنا إلى اليوم ندير حياتنا كلها سياسةً واقتصاداً وحرباً وسلماً واتفاقاً واختلافاً بطريقة الوعظ ، وما زلنا نسمع الوعظ والعظات ليس فقط من الناس البسطاء أو رجال الدين بل من القادة والساسة وممن يفترض أنهم نخبة المجتمع ومفكريه وقادته ، فلم نعد نتفاجأ عندما نرى رئيساً للجمهورية أو رئيساً للوزراء أو زيراً أو أكاديمياً أو برلمانياً وهو يعظنا ويقدم لنا النصائح الاخلاقية ، ونلمس في صوته ثقة الأهبل ويقين المعتوه بأن هذا الوعظ هو الطريقة الأمثل لبناء الدولة وتصويب سلوك المجتمع مما يؤكد لنا أننا ما زلنا نعيش بعقلية ونفسية ونضوج القرون الوسطى ولم نتجاوزها أبداً ، وإننا أبداً لم ولن ننجح في إنتاج الدولة الحديثة والمجتمع المتمدن المتقدم لأن انتاجهما بات يتطلب آليات ووسائل أكثر حداثة وعمقا وعقلانية بكثير من الوعظ والخطاب العاطفي وحكايات كان ياما كان في قديم الزمان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة