الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البغال تعود الى الشمال

عدنان اللبان

2017 / 7 / 3
سيرة ذاتية


القاضي : رغم ما انت اقسمت بالقران الكريم على ان تحجي الصحيح , المشتكين اثنينهم يدعون الحصان مالهم , وانت سرقته وعندهم شهود . انت ما عندك ولا شاهد وتكَول الحصان مالك , فهمني شلون اصدكَ كلامك ؟! واكذب اربعه حلفوا بالقرآن مثلك ؟
بداي : سيدي الحاكم مرحبه عليك ؟
تفاجأ القاضي باسلوب بداي الذي رفع الكلفة معه , وتحيته بصيغة سؤال وتحدي ايضا . تفرس في بداي الذي يلبس ( الصاية ) ورافعا احد طرفيها في حزامه , وظهر لباسه الابيض الطويل حتى رسغ قدمه المنتعل ( كَيوه ) غبراء جعلها اشبه بالنعل, وعلى كتفه الايمن كوفية سوداء بمربعات بيضاء . اجابه القاضي باستفسار مندهش : هله بيك , احجي .
بداي : سيدي انت الحاكم وتعرف القانون زين . آني , ما محتاج شهود , ولا رايد احلف بالقرآن . هذا الحصان مشتريه قبل خمس سنين من جان مهر , يعني ربيته على ايدي , والحصان نفسه هو الشاهد مالي . انت تصدكَ بذوله لو بالحصان ؟! هذا لا يعرف يحجي ولا يحلف بالقرآن , الولاية كلها تعرف هذا حصان بداي . سيدي الله يخليك من يوم الخميس واليوم احد والحصان موقوف وياي , وحرام عليكم محد يعلفه , سمعت صوته جوعان وآني بغرفة التوقيف . سيدي اطلق سراحه رحمه لوالديك , واثنين من الشرطة خل يمشون وراه , اذا ما راح عدل لبيت بداي الحصان مو مالي , واخذوا الف عافيه عليكم , ومستعد لأى عقوبة . والله ما صايره حيوان اربعة ايام ما ياكل شي ؟!
امام منطق بداي لم يجد القاضي غير الامتثال لكلامه . رغم انه اراد ان يميع قوة حجة بداي لكي لا تكون حديث الساعة , فالكثير من شباب المدينة يترصدون تعليقاته , وكلامه " تصدكَ بذوله لو بالحصان ؟" قوية . والخوف ان يضيف لها واحد من ولد الحرام : يامطي ؟ ويريدوها من الله عليَّ . فطلب منه ان يروي ما حدث له مع نجاح الصفار .
بداي : انه اخو مطلوب , حتى الك وصلت ؟!

عائلة بداي من العوائل القديمة التي سكنت الصويرة , والده خضير كان يعمل بقالا على ظهر حصانه , ويتاجر ايضا بالحمير والاتانات منذ اربعينات القرن الماضي , ومعروف بتجارته هذه بكل المدن والقرى المحيطة بالمدينة . ابنائه اخذوا عنه هذه التجارة ووسعوها , بداي وحده يملك عند سقوط النظام عام 2003 اكثر من خمسين حمارا واتانا , وبداي كلما كان يشتد به الحماس يردد بفخر " انه اخو مطلوب " . ليس لشهامة مطلوب , بل ان والده وقبل ثورة 14 تموز عام 1958 , تعرض له احد الاقطاعيين المعروف بقسوته مع فلاحيه بالسباب والكلام الخشن بعد ان رآه يبيع للفلاحين الذين يعملون في ارضه , حاول خضير ان يسكته بكلام معقول وهوما زاد في غضب الاقطاعي فضرب خضير بالخيزرانه التي في يده , فما كان من خضير الا ان ضربه بالسوط الذي يسوق به حيواناته واجبره على الهرب مع سائقه في سيارة الجيب . الاقطاعي طبعا توعده بالويل والثبور , وخضير رزق بولد سماه " مطلوب " امعانا في اذلال من هدده بالانتقام .

بداي ولد في المدينة , ولم يخرج منها الا لتجارته في المدن القريبة او لزيارة الائمة في المدن المقدسة . المدينة حالها حال اغلب المدن الزراعية في تلك الفترة , التقاليد العشائرية المتشددة , والاختلاط بين الجنسين يعد من الكبائر حتى ولو كان بريئا . بداي يدرك فطريا حاجات بعض الشباب , وساعد قسما منهم , ونجاح الذي سأل عنه القاضي كان احد هؤلاء الشباب . يقول بداي : جاءني لاويا رقبته يريد شراء زماله , هو يعرف اني اعرفه صفار ولا يحتاج في عمله الى الحيوانة , واعرف ماذا يريد منها . وبعد ان اتفقنا على السعر اتجرء وراح الخجل منه, وبدت طلباته , يريدها شوية زغيرة بالعمر , وناصية مو عالية . . المهم نقدني سعرها وركب الحيوانه وراح . بعد ستة اسابيع جاءني يريد ارجاعها ويقول ان سعرها غالي واني اخذت اكثر من استحقاقها . طلبت منه ان يذهب بالعيني والاغاتي ولم يقبل , وزاد في كلامه وسبني . سحبت الخيزرانه , هززتها , وشطبت صدره بضربة قوية , صرخ وركض , ركضت وراءه , الا انه كان اسرع مني . فصحت وراءه تريدني اصير كَواد مالك , الا افضحك بالولاية .. وبعد ساعة وسّط احد اصدقائي يطلب مني ان آخذ الحمارة والفلوس بس اسكت عنه .

بداي قبل ازاحة صدام كان يسكن في بيتهم القريب من سوق المدينة الرئيسي ( المسكف ) , والبيت صغير لا يسع لامتلاك اكثر من اربعة او خمسة حمير في احسن الاحوال , والصويرة مدينة بسيطة مثل اي مدينة زراعية لم يدخل عليها الاعمار الا بعد ثورة 14 تموز عام 1958 , حيث قرر زعيمها عبد الكريم قاسم بناء دارهم والبيوت المجاورة له ثانوية للبنات , وتم بناؤها كصرح معماري عراقي متميز , وعلى يمينها شيد دار استراحة حديث . ويشرف الاثنان على استدارة نهر دجلة حول شبه جزيرة ربيضة التي كان مقررا لها ان تكون مدينة للسفارات والقنصليات وسكن الهيئات الدبلوماسية . واجهض المشروع بانقلاب 8 شباط البعثي عام 1963 . ثانوية الزعيم للبنات ودار استراحة الصويرة شكلتا مع استدارة النهر تحفة فنية رائعة , خلدها الفنان الراحل زكي خلف بعشرات الصور الفوتغرافية , وتصدرت صورتها الروزنامة الوطنية التي اصدرتها وزارة الارشاد عام 1962 .

في الفترة الثانية لمجئ البعث , استولى عضو القيادة القطرية لحزب البعث عزيز صالح النومان بعد ان عينه صدام مسؤولا لمنطقة الجنوب ,على المساحة التي تقع بين دار الاستراحة واعلى ثانوية الزعيم , وبنى عليها سكنه , والتي كانت تمنح الموقعين فراغا يجسد تكاملهما الجمالي في المشهد البانورامي العام . فتحولت البنايتين الى كتلة واحدة واندثر الفراغ بينهما . بعد سقوط النظام الصدامي يوم 9 نيسان 2003 وبداية الفرهود , نهب بيت عزيز صالح النومان ودار الاستراحة بكل اثاثهما وشبابيك وابواب البنايتين . والغريب ان دار الاستراحة تم نهب حتى الطابوق الذي يفصل بين الغرف , وسقطت القطع الزجاجية الكبيرة التي شكلت بعض الجدران في الممرات والصالات . ولم يبق الا هيكل الكونكريت في السقوف والركائز . وتمكن بداي من الاستيلاء على بعض غرف بيت النومان وسكنها مع عائلته . واستغل بقايا بناء دار الاستراحة ( السقف والركائز ) وجعل منها زريبة كبيرة لتجارته التي توسعت الى اكثر من مئة وعشرين حمارا واتانا وبغلا .

علاقة بداي ليست محترمة ولا حميمة مع البغال مثلما تكون مع الحمير . وهو يمتلك ذكرى اليمة عن البغل الوحيد الذي جاء به والده يحمل اوراق التبغ المهرب من طوزخرماتو عبر ديلتاوه ( الخالص ) مرورا باطراف بغداد الى الصويرة . كان طفلا , وعندما رأى البغل ظنه حمارا ايضا , ولو انه اكبر واكثر نشاطا , فاراد ان يلعب معه مثلما يلعب مع الحمير , لكن البغل رفسه بحافره وكان حادا وثقيلا , فسبب له اصابة في رجله لفترة ليست قصيرة . عندما استلم تجارة الاهل لم يأتي على باله الاتجار بالبغال , ولكن بعد سقوط صدام , امتلئت بغداد وضواحيها بالبغال , واصبحت سوقها رائجة مثل الحمير ان لم تكن اكثر , لانها تستطيع ان تحَّمل اكثر . بعد مرور اكثر من سنة على السقوط ادرك بفطرته ان البغال والحمير لا يمكن ان تجمعهم سقيفة واحدة . في كثير من الليالي كان يسمع صوت النطح والرفس والنهيق الغاضب , تجاوزها في البداية , لكنها تكررت حتى اصبحت كل ليلة . اخذ اضوية السفري مع ابنيه وشقيقه ودخلوا دار الاستراحة (الحضيرة) , كانت الحضيرة مسيجة بخشب واسلاك شائكة تمنع على الحيوانات الذهاب كيفما تريد , الحيوانات عندما شاهدت بداي ومجموع الاضوية سكنت وتركت عراكها , ولكن بداي وعائلته في الصباح وجدوا الكثير من الكدمات والجراح ,رغم ان الطرفين يبدوان على احسن ما يكونا من الانسجام . تكررت هذه الحالة في الكثير من الليالي حتى اصبحت يوميا وفي النهار ايضا . بداي يحب راحته , جمع ابنائه وشقيقه واخبرهم بضرورة بيع البغال والتخلص منها . شقيقه لم يوافق , وعلق : نص عيشتنه على البغال . اجابه بدري : كل عمرنا وي المطايا عايشين وماكلين قسمتنه , البغال اول وتالي ما باقيات , متعودات على الجبال مو هنا . وفي احد الايام استفاقت عائلته ولم تجد البغال وكذلك بداي , وادركت ان بداي ذهب بالبغال ليبيعها ولو بنصف قيمتها في جلولاء , وهي اقرب سوق لشرائها . وعندما عاد بعد ثلاثة ايام كان معه بغلان اعادهما اكراما لرغبة شقيقه .

بداي كان يحب حيواناته , ويتعامل معها بلطف و( انسانية ) . يقول صديقه صبيح : شفايتلي لو الله خالقني مطي عند بداي . فيجيبه بداي : والله جان اتخمك شعير واحطلك وياه حنطة . صبيح : اعرفك شريف . بداي كان قد منح كل حيوان اسما , واغلب الحمير لا تعرف اسمائها الا ثلاثة او اربعة تمكنت من حفظ اسمائها . وعندما ينادي احدها يوتر الحيوان اذنيه ويلتفت اليه وياخذ بتدوير ذيله , وعندها بداي لا تلمه الدنيا من الفرح . بعكس ما ينادي آخر لا يعرف اسمه فيشوط بداي وبعصبية : لك معقولة آني كل اسمائكم اعرفها وانت اسمك ما تعرفه ؟! كان بداي يعتز اكثر بالحمير التي تعرف اسمائها ويجد صعوبة في بيعها . يقول صبيح : في احد المرات جاء احد التجار من الحلة واعطاه مبلغا محترما بحمار كان يسميه ودود , وباعه . ودود صغيرا ونشيطا , كان من بين ثلاثة حمير يذهب بهم يوميا الى دجلة الذي يبعد عن دار الاستراحة اكثر من خمسين مترا لكي يسبحهم , وكم كانت فرحة بداي حينما يراه وهو يتقافز ويحرك ذيله بعد ان سبح وتنشط . كان يصفق له حين يراه يدفع برجليه الخلفيتين مهاجما رفيقيه , ورفيقيه يهربان منه . تذكر بداي كل هذا في المساء وودود في الحلة وسالت دمعة كبيرة على وجنتيه ولعن الساعة التي باعه فيها .
صبيح معوق برجله اليسرى الاقصر من اليمنى , يصغر بداي كثيرا , والده قتل في الحرب العراقية الايرانية وتوفيت والدته بعد والده مباشرة , وتربى في بيت عمه محروما من الحنان , وتعلق ببداي الذي كان يسكن جيران بيت عمه بعد ان انتبه لطيب العلاقة التي تربط بداي بحميره . اراد صبيح ان يؤجج لواعج بداي اكثر بعد ان راى دمعته تسقط : ودود لو عند عزيز صالح النومان هم ما جان باعه .
بداي بعصبية : ولك هو هذا يعرف يحب احد ؟! بطل حيلي على ودود , والله احبه اكثر من عباس ( ابنه ) ومنك .(مقلدا صوت صبيح ) عزيز صالح النومان , شذكرك بيه ؟ لان جان نازل هنا . هو اسماء حمايته ما يعرفهم ودود حتى اسمه يعرفه , شيجيبه على ودود ؟
عزيز صالح النومان كان لا يعرف اسماء جنوده فعلا , ليس بسبب كونه اكثر غباءا من ودود كما يقول بداي , بل كان جميع المسؤولين الكبار في زمن صدام ممنوع عليهم اقامة علاقات خاصة او صداقة مع افراد حمايتهم المرتبطين بجهاز مخابرات صدام الخاص , ويجري تبديل افراد الحمايات بعد فترات قصيرة . فلماذا يتعب نفسه بمعرفة اسماء حمايته ؟ صبيح يعرف هذه الحقيقة , ولكنه خاف ان يُقذف بالكَيوة ان هو اكدها لبداي مرة اخرى .
عاد الشرطيان اللذان ارسلهم القاضي خلف حصان بداي . قال العريف للقاضي : سيدي مو بس راح لبيت بداي , باب البيت مسدودة , دفعها براسه ودخل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م