الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -3-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر
‏-3-‏
لو اكتفينا بالمثال الأفلاطوني عن ظله، وغصنا في لجته، وتماهينا في حقيقته، فإننا لن نسمع جمال صوت ‏الإله بين الديار الساهمة، ولن نحاكي كمال فعله غير المتناهي في صورة الأحداث الغامضة، لأننا لن نجد ‏طريقا نركبه في بناء حقائقنا، ولا منزلا نرده في حصر هوياتنا، ما دمنا لسنا إلا خيالا في حقيقة غير ‏موجودة، وظلالا لطبيعة غير محدودة. وأنى لنا أن ننفخ فيها روحا تسعفنا بالحرية، وتنجدنا بالسعادة.؟ ربما ‏قد يبدو هذا غريبا لدارس الفلسفة بلا فحص لما يُدهش من تنظيم الكون، وتعقيد الطبيعة، وتعنيف الحياة، ‏لأنه إن لم يختبر أثر الحكيمين على سير البشرية إلى استكناه الحقيقة، لن يدرك أن ما يتركب فينا من وعي، ‏وما ننتجه من فعل، وما يتراكم معنا من خلق، ما هو إلا نتيجةُ صراع المثال لواقعه في الطبيعة الإنسانية، ‏وحقيقة لما ننزع إليه عند تحديد العلامات الدالة على رغباتنا وغاياتنا في الحقيقة الإنسانية، إذ بمقدار ما ‏انتهى المعنى إلى الماهية المتعالية عن الحدود الحسية، لكون ما يتراءى لنا من حوادثنا النازفة بجهدنا، ‏وكبدنا، ليس إلا مظاهر مزيفة لما يختفي وراء العالم المرئي، فإنها بالجدل تنطلق من دالها إلى مدلولها، ومن ‏كلياتها إلى جزئياتها، ومن عمومها إلى خصوصها، لكي تلبس بتذكر ما كمن فيها من علوم ومعارف لبوس ‏النسبية، فتظهر بمظهر يمزج بين الطبيعتين المتنافرتين في برزخ الثبات، والتغير، والمتحدتين في الموضوع ‏على صناعة ما خلق له الإنسان من الخير، والصلاح، وإن كان في بعض لؤم طبعه، وشؤم سربه، لا يميل إلى ‏الوحدة المتعانقة، إلا إذا أيقن بها محفوظة بدافع العنف، والتخويف.‏
‏ ومن هنا كانت العقول المقدسة صورا أفلاطونية مع موجودات الفارابي، لأنها دلت بمفارقتها لمحتوى ‏مضمونها على أقنوم ينفي مطلقُه عن غيره حقَّه في نقش صورة عوالمه المثالية، ويرفض حاجته إلى الحرية ‏في صناعة آثاره الواقعية، إذ يفصل بين الطبيعتين بحدود العالمين، عالم الأزل، وهو الأزلي، الثابت، وعالم ‏الصيرورة، وهو الخاضع للكون، والفساد، ثم يمزج الأولى مع فيضها الفاعل في دورة الوصل، وهي حضور ‏الكل في الكل، لكي تتخلف التي هي أدنى عن التي هي أعلى في محل الفصل، وهو مقام انفصال الجزء عن ‏الكل، ثم تكون وجودا فيما دونها بالقوة، وفعلا في سائر مراتب دوران العقول والنفوس والأجسام حول درجات ‏عالمها الفوقي، والتحتي، لأنها إن لم تتصل في موطن، وتنفصل في منزل، لن تكون قادرة على صياغة الدلالة ‏المعبرة عنها، لئلا يتحد مختلِف المعنى في المبنى، فيغدو الربط بين الهيولي والمادة متعذرا، وبين الفعل ‏والقوة متعسرا، وبين الذات والموضوع متأخرا. ولذا، فإن إدراك هذا الخلط بين مراتب الفصل، والوصل، ‏والمزج بين حقيقة اللغة، ومجازها، هو الذي قاد ابن رشد إلى سكون المعبد، وغبائه، لكي ينحر عقله على ‏مشرحة الإله الهادئ، ويُهدى دمه للعقل الكلي الذي صدرت عنه الأشياء بلا اختيار، ولا إرادة، لأن الاحتكام ‏إلى الغزالي عند انكساف نور العقل الفيزيائي عن قبة السماء، واختياره قاضيا في النازلة، لم يكن إلا حمية ‏في الوفاء للباطن المتوج بتيجان الألوهية، والوفاء لما يرد عليه من موشحات الجمال، أو الجلال، إذ الشيء ‏الذي قدسه خوفُ العقل حين اغتال جهابذة المعرفة، وأساطين الفلسفة، هو تلك الصورة التي نقشها أفلاطون ‏بلا ألوان، وأبعاد، وظلال، ولو لبست لبوس العقل، واللغة، والفكر، لأنها هي المحددة لكل صراع يربط الأرض ‏بالسماء، ويجعل الإنسان مقدسا بعبوديته، لا بحريته، إذ قصارى الجهد فيما يموج بين أكنان المعرفة من ‏تيارات، وإيديولوجيات، هو أن نبني مشتركا بشريا، يمكن له إذا تحددت مفاهيمه، ومضامينه، ودل فيه ‏الشيء على جوهره، وماهيته، أن يخلق نسقا أخلاقيا، وفضاء اجتماعيا، يقوم فيه الإنسان ببناء جهازه ‏الذاتي، والشخصي، وتحديد وظيفته في السياق الكوني، والإنساني. ‏
وإذا كان الشمال الأفريقي مرفأ هرع إلى نجعته ما تبقى من العقل المشرقي المغتال صعوده، وهبوطه، فإن ‏إهراق دماء ابن رشد على رفات المحابر التي امتزج مدادها برماد الغزالي، لم يكن إلا ثورة على الطبيعتين ‏اللتين خلفهما الحكيمان في كبد العقل، وحدس الوجدان، لأن ما حدث بين الديار من اعتلال، وما انحدر إليه ‏الخلاف من اقتتال، لم يكن شدةَ حرارة عطف فيمن أنجب أوغطسين، ورعى ابن رشد، وكان بهما حفيا، ولم ‏يكن حدة ثأر يحمي الذات من عجائب النقص، ويمنح الكيان هوية السماء، إذ ميلادهما من طينه، ومنشأهما ‏على أرضه، لم يكن إلا دليلا على تعقل الجغرافيا، وتبصر التاريخ، واعتدال المناخ، واستواء المجال، لأن نبوة ‏العقل التي اختارت مدار المكين، لم تكن إلا أنفاسا عالقة بتضاريس المكان، إذ قصارى الجهد أن يقال: ‏المغرب بلاد الأولياء، والمشرق بلاد الأنبياء. تلك هي المقولة التي لخصت مساحات العقل في الحواضر، ‏ومسافات العاطفة في البوادي. لكن هل استطاع الأنموذج الشمال الأفريقي أن ينتج معرفة بعد حرق التراثين، ‏وإهالة التراب على الرفاتين.؟ إذا كان الموحدون، وهم قد عاشوا أوج الصراع بين الأفلاطونيين، والأرسطيين، ‏قد انتخبوا منهج الاستبداد بالحق الإلهي، فإن ما نشأ عنهما من دروس التاريخ التي أفادت اللغة، والحساب، ‏والطب، والجغرافيا، والعلوم العرفانية، لم يكن إلا دعما للمغتال الذي ردم عقل ابن رشد، وأحرق كتبه، لكي ‏يخلد إلى نفض الغبار عن أوثانه، وصون ما تبقى من أصنامه، ثم يبني قبته المرمية على حواف البوادي، ‏عساه أن يستحوذ على طرق التجارة في المعاني الخالدة، لأنه ومهما حرك أشجان الذات الحرى، ما أثارها ‏بين مجامع الفكر، والمعرفة، فإن ما آل إليه عقل ابن باجة، وابن زهر، وابن طفيل، لم يكن إلا عِلما مسوِّغا ‏لوقاية الأبدان، وحماية الأعيان، إذ الدرس الكلامي الذي يثير العقل للاستدلال على كبرى اليقينيات بالأدلة ‏النظرية، لم يكن مداره إلا محدودا بما يضمن للوحدة قيمتها، ويفرض أحاديتها على غيرها، ولو عطلت الإرادة ‏عن حرية المشي إلى الحروف المنقوشة على جنان الطبيعة، لكي يكتشف الإنسان طرقا أخرى في طي ‏أنفاسه، تحلق به إلى عالم الحقيقة، لأن إغلاق باب الاجتهاد فيما هو قائم من سبل مهيأة للامتداد، ‏والاستيطان، لن يفتح الأفق لتحريك ما هو ثابت، ومخضِ ما هو مستقر، إذ استفتاح ذلك بوافر كمال العقل، ‏وواجب الخضوع للقوانين المكنونة في الأشياء، لا يبيح في السؤال عنه إلا التجديف، والزندقة. ومن هنا، كان ‏أقنوم المثال الأفلاطوني صنما لا يعقل، وجلمودا لا يفكر، لأنه في سكونه، وهموده، يكون قادرا على تدبير ظله ‏بما يتمحض فيه من خوض لبحار الأمل، والألم، إذ صيرورته في حركة واقعه، لا تتجسد في نظامه، بل في ‏قوته التي لا حدود لها في الفكر، ولا في الأثر، لأنها تدل على الصور غير المتناهية، وتفرض أنموذجها الذي ‏لا افتراض لغيره. وهي في حقيقتها موجودة للفعل الدال على القدرة، لا للفهم الدال على العظمة، إذ لو دلت ‏على ذلك، لكان معها اختيار في اجتياز بحر المعرفة، لأنها في غموض الارتباط بحكمها، لا تريد الأشياء إلا ‏كما ترسم صورها، لا كما يريدها مستجلي سر ناموسها بالإرادة، والغاية .‏
ومن هنا، لم يكن الدرس الفلسفي قادرا على تصحيح أخطاء العقل التي فندها ابن رشد، لأن جنوح لغة الخيال ‏في تحديد المسمى الذي نتآلف حوله، وهو المعبر عن الصورة التي وصلها الكد الإنساني في اكتشاف ‏الناموس القائم بالأشياء، هو الذي أوقف حركية التاريخ عند ماهية لا تقبل التغير، ولا التنقل، لأنها ذلك ‏المطلق الذي حكم به القوي الأرض، وواصل به جند السماء، إذ ما أنجزه عقل الراهب حين سافح فتنة ‏الحظوة، وفاجر قينة الزعامة، لم يكن إلا سندا لما هو قائم من حدود العقل التي رسمت الآلهة فاعلة بمقتضى ‏رغبة الرهبان، ودعما لما توطأ عليه الناس من صيرورة لتثبيت مبدأ التلاقي على غاية عامة، ومقاصد ‏مشتركة. فهل كان مطلق الدولة، هو الذي يحدد الدين، والعقيدة، والفكر، والممارسة.؟ أم كان العقل حرا في ‏اختزان أدواته وقواعده بالملاحظة، والتجربة، والحرية.؟ لعل ما قام به الأمر من تناف بين الحقائق، قد ‏استساغ المزج بين الطبيعتين في مركب مقفل على ذاته، لأنه في تحديد الطريق إلى السماء، يحقق عقل ‏البادية المحكوم بالقبيلة، وفي تدبير المورد على الأرض، يميل إلى عقل المدينة، لأنه الأوفر حظا في المتعة، ‏والأكثر نصيبا في الرفاهية. ومن هنا كان المزج مختلا في الحقيقة، لأنه يجمع بين الأعراض بدون ما ظهرت ‏عليه من ذوات، ثم يركبها في مركب مختلف، فتتحول إلى أسماء بدون مسميات، وصفات بدون موصوفات،. ‏وإذ ذاك، يكون منطقها مجافيا لما أقامه أفلاطون من فراديس المثال، ومنابذا لما عبده أرسطو من طرق يسافر ‏عليها العقل إلى مكامن الطبيعة، ومواطن الحياة، إذا ما تركب من فقد المعنى، وعماء الجدوى، لم يكن عقلا ‏في الثبات، ولا وعيا في التغير، لأنه حين ألغى الإنسان، وحفر له قبر عقله، وبنى عليه معبده، لم يصر صمت ‏الإله، ولا صوت الخليقة. ولذا، احتار العقل العربي، هل يحيى مع الغزالي، فيكتشف في المثال ما فقده في ‏واقعه.؟ أم ينظر مع ابن رشد إلى الأرض، لكي يتعرف على محل أوجاع الأرباب بين وهاد الإنسان.؟
‏ قد يبدو لنا طي هذا السؤال ظاهريا مُعينا على اكتشاف منطقه، لأنه محل الخوض منذ أن وخزه الجابري ‏بمبضعه، لكن لم نتجه صوب الأماكن التي نشم فيها رائحة التاريخ، ونستهدي فيها إلى مهيع الذكريات.؟ ربما ‏تكون هذه قابلية أصيلة في استعدادات الإنسان، وقوة مستولية على ملكاته، لأنه حين يريد أن يفهم ناموس ‏الصراع، أو أن يزيله، أو حين يفجر مواهب عبقريته في الفكر، والوعي، لا بد أن يعود إلى تلك الصورة ‏البريئة التي صنعتها طفولته الموءودة في يفوعته المدبرة لآلام حلمه، وفظائع واقعه، وأن يرجع إلى نقطة ‏ابتدأ منها الخير في كونه، وفي وجود حقيقته، إذ هي اللحظة التي تعيد إلى الكون صفاءه، وتسبل عليه سابغ ‏صفته، وجميل كماله. وإلا، كان ما يدبرنا مفضيا إلى سآمتنا، أو إلى انتحارنا، لأننا من شدة الاختناق نحس ‏بأننا نشيخ بسرعة، أو نموت ببطء، إذ ما يفرض علينا السؤال، ويصيره ضرورة في اختيار ألوان الغد، هو ‏ما عن لغيرنا من آلام تخب بين المناكب، والمجالب، وهو الذي صدع به حين رغب في الحرية، وابتغى أن ‏يعيش هذه اللحظة البسيطة على الطبيعة بكرامة، لأن ما يدفع بنا إلى أن نقول: لِمَ لمْ نتقدم.؟ هو الذي يفرض ‏علينا أن نقول: لم تقدم غيرنا.؟ ‏
شيء واحد يرد علينا حين نريد أن نشرب كأس الأمنية على مائدة الأحلام، وهو الذي يحركنا إلى الأمام، ‏ويجرنا إلى مجهول غائر في المستقبل، لكي نندمج في ضوء المصباح الذي نستنير به بين الغيل، والغوائل، ‏ونستهدي به إلى تلك العوالم الخفية، وهي محل الإطلاع على أسرار الكون، والطبيعة، لأنه في قصارى جهده، ‏وغاية دركه، هو الشعور بشيء موجود فينا، أو محدود معنا، لكنه محتاج إلى تعديل في صفاته، وتأثيل ‏لمعانيه، لكي تدل على الموصوف بالحقيقة، وتحصر المقصود بالإدراك، والمعرفة، إذ هذا الافتقار إلى اكتساب ‏الشجرة، وظلها، والصخرة، وصوتها، هو الذي يعلمنا كيف نمشي بين منابع السؤال، لعلنا نخاطب الأرض، ‏ونناجي السماء، لأن فقدان الطريق نحو العالميْن المتعارضين في كثير من مطلقاتنا البشرية، يربك سير ‏المتعطش إلى النهاية، والمترنح بالبداية، إذ هو الشعور بفقدان الدليل، والاحتياج إلى المرشد الأصيل، لأنه ‏وإن ظهر لنا بمظهر الخاشع في محراب صوته، أو الباكي على قبور غبنه، فإنه يمور في عمقه بالغربة، ‏ويخور بالوحشة، إذ هو لا يريد إلا أن تنتهي اللحظة المتصارعة، لكي يكون سعيدا في حياته بالألفة، ‏والمحبة، لأنه في مقدار كمية إحساسه بما يلفه الزمان من أمداء، ينطوي على ما يجمع كنهه في المكان، ‏وترتب دوره في الزمان، إذ هو لن يكون حريا بوجود نشوته في متعته، ما لم يكن ملتفا على الأشياء بكليته، ‏وممتلكا لها في هويته. وهل هو إلا مجموعة أعراض، وأغراض، يزف إليها عرائس أنفاسه مناجيا، ومناديا، ‏لعلها تسمع صوته، فتكون صدى في آفاقه، وفضائه.؟ ‏
وإذا كانت هذه الرغبة مكنونة في عمقه، ومقرورة في غوره، فإن ما يحاوله من كتمان، أو ما ينشئه من ‏نسيان، لن ينهي حدة السؤال عن مقامه في حياته، وحاله في واقعه، لأنه جزء مما تجره عربة الزمن، ‏وتحركه الهزات، وتزلزله الرجات، وتدنيه الأرواح، وتبعده الأشباح، إذ لم يوجد في ماهيته فاقدا للإحساس ‏بالخلد، والأبد، لكي يكون شلوا ممزعا بين ديار الشتات، والخراب، بل صوته مسموع، ونظره ممدود، فهو ‏ناطق بعقله، وناظر بفكره، لأنه أدرك في ذاته وجودا، فكان به طالبا لما يحميه من نقصه، وزواله. ولذا كان ‏الصراع مجافيا للإنسان، وإن استفزه بالسؤال، واستنهضه بالدهشة، لأن ما قدمه العقل من أرواح الأطهار، ‏وما وهبه إلى القبور من شهداء الأحرار، لم يبق منه على جدران المعاهد رسم، ولا على قباب المعبد وشم. ‏فهل غيبته غزارة الأمطار التي هطلت على الأحبار.؟ أم انمحى الرسم بجدب السنين بين الأكوار.؟ قد يقول ‏قائل بذا، وقائل بذاك، لأن الصنم لا يكون معبودا في صور العقل، ما لم يكن مقدسا في الطبيعة، إذ تقديسه ‏بالاحتباء حوله، هو الذي يمنحنا قوة على معانقته، وقدرة على مجاملته، إذ هو الشيء الذي نجعله بناء ‏للذات، وووقاء للذات، وهو في غوره هدم للمعاني، ونبش للآيات. فهل انزوى العقل عن رداءة الطبع الذي ‏جفت ابن رشد، لكي يخلد إلى ذاته، ثم يحلق منها إلى عليائه.؟ أم ما زلنا نقول: لم يكن ابن رشد إلا قارئا، ‏وشارحا، وأنى له أن يكون نفَسا في الصناعة، وسرا في الحضارة.؟ ‏
ربما قد يثير هذا فضولا عند المتسائل، لأنه يريد أن يعرف مصير ابن رشد، ومجثمه بين القبور، لعله أن ‏يزوره بطيفه، ويطوف حوله بظله، فإذا أدركه، قرأ فيه ذكرى اغتيال العقل في جغرافيا الأحلام، وإذا لم يجد له ‏أثرا، ولا عينا، أرخى بين مسام الأرض صراخا، وعويلا. لكن، ألا يجوز لنا أن نقول: إنْ دفن ابن رشد بين ‏فراديس الغزالي، فإنه قد ولد في بساتين الأكويني. لو قلنا بهذا، فإننا نكون قد أنهينا السؤال، وعثرنا على ‏عقل ابن رشد في إحساس أوربا بذاتها، ووعيها بأحلامها. وهنا يمكن لنا أن نقول: إن الغرب لم يرد معينَ ‏حضارته من بيان أوغسطين، لأنه لم يكن إلا لحنا يعزفه قديس بين الحدائق الناعمة، بل شرب منها كان وحي ‏العقل الرشدي شهدا على لسان الأكويني، لأنه ما كان له أن يسير تحت أديم السماء بنظره المختَطَف، ولا أن ‏يتحدث بلسانه المكتنف، لو لم يتحد ابن رشد بأرسطو في قياس غائبه على شاهده، إذ ما عجزت الرهبان عن ‏قبوله في لحظة كادت تبزغ منها شمس الحقيقة على العقل العربي، هو ما استوطنت أوربا ألمه، وتحملت ‏وخزه، ورضيت بعضته، لأنها تذكرت فيه عقل تاريخها المضمخ بالدماء، وأدركت فيه وعيا يهديها إلى ‏نواميس البقاء، وسنن الفناء، فلم تأبه بما رفعته ألسن الكهان من صوت السماء، ولم تعبأ بما تنادي به ‏الديار من صفاء، إذ ما توقى به التاريخُ ضياعَه، لم يكن إلا سببا في فراغه، وما خاله مرقاة إلى السماء، هو ‏ما دفنه بين ركام العناء. ولذا لم تكن حضارة أوربا إلا نتيجة للصراع بين الإله، والإنسان، وحصيلة للحرب ‏التي أبادت الأكنان، والأوطان، إذ صراعها مع غوائل الزوال، قد أوجد لها فجاجا إلى الطبيعة، ومهادا بين ‏الحقيقة، لأن ما تظاهر عليها من بقايا التاريخ العالقة بشعاب الأذهان، قد فجر فيها غب السؤال عن دور ‏الفكر، ومصير الإرادة، لأن معنى الوجود لا يتحقق إلا بهما، وهما في الصوغ حتيمة لا زمة للإنسان، بها ‏يدرك، ويعقل، ويعي. فهل هما كما وصف الرهبان، فيكون الإنسان أثرا لهما، لا صانعا لآثارهما.؟ أم احتاج ‏السؤال إلى فصل لوثر، وكالفن، لكي يصير صوت الإنسان ثورة في عمقه، ونظره.؟ إن انتحاء الإنسان نِحو ‏أرسطو عند طلب الأرض، لم يبعد المسافة عن الإحساس برغبة أفلاطون في جمال السماء، لأنهما لم يموتا في ‏عقل الحضارة، ولن يفنيا في نص التاريخ، ما دام لن يُنظر إلى مملكة العقل إلا بما أبدعاه من مثال، أو ما ‏حدداه من قياس. وأنى لمن جاء بعدهما أن ينظر إلى السماء بدونهما.؟ بل أنى لمن يتقي الحفر أن يسير على ‏جدد الأرض بلا اقتفاء أثرهما.؟ ‏
إن الأفكار العظيمة، لا تولد إلا من رحم الألم الإنساني، لأنه هو الذي ينفخ فيها الروح، ثم يرسلها في الفضاء ‏هادئة، لكي تخترق حجب الزمان، وأغلال المكان. ولذا ولدت أوروبا مضمخة الوجوه بدماء العقل الذي أهدته ‏محاكم التفتيش إلى الهيكل المقدس بإذعان، لأنها لم تختر أن تعيش على الفتات الذي يعمِّد به الراهب طلاب ‏نبض الحياة على وجه الطبيعة، إذ لم تر فيه إلا احتقارا لإنسانية الإنسان، وإمعانا في استعباده، وإرغاما له ‏على إذلاله، لأنه ما مدى ما يمكن أن يقدمه الكاهن من متعة، وهو لا يتقن إلا طلاسمه التي يتمتم بها عند ‏رعشة قداسه، إذ لو كان قادرا على ضج الرجاء بين غياهب الصدور، أو كان راغبا في أن يبرئ جراحا دامعة ‏في الأعماق، لكان صوت المعبد لحنا يسري بين العقول، ووميضا يجري بين العيون. لكن هل استشعرت ‏أوروبا في معبدها صوتا لهذا المزمار الذي يتلو المزامير.؟ لو سُمع ذلك فيما تتذوقه من ألحان العذوبة، ‏وأنغام الرطوبة، لكانت موسيقى الراهب نسمة تهب بين الديار، ونفحة تفوح بين الآفاق، لأن اختراقها ‏للصمت الذي يقدس به إلهه المنتفش على جدران معبده الشاحب، لم يفتق في العقول إلا هدوءا يسقي ‏الإنسان خمرة الحرية في الوجدان، والإحساس. لكن أنى للراهب أن يفجر بين خان جفوته موسيقى الكون، ‏وهمس الطبيعة، وهدوء الحياة، لكي يكون الإنسان لحنا في السلم العالمي، والأمن البشري، والحرية ‏الإنسانية.! لو أمكن له ذلك، لكان دليلا على خفق الإنسان في حقيقته، وعنوانا على الهداية إلى طرق ‏السعادة، وسبل السلامة.‏
‏ فلا غرابة إذا فجر الراهب من جؤجؤ ورعه صديد الضغينة، وفحيح الكراهية، ما دام محرابه ينزف بما يتورم ‏في غور جرحه من جبن، وما يتلجلج في صدره من خوف، لأنه في حرصه على بقائه سادنا للهيكل المخضل ‏بين ماخور عهره، وحان دعره، لا يثير في حنان النفوس إلا شفقة، ورحمة، إذ هو بالبكاء على جدث غيره، ‏يحس بنشوة في ذاته، لأنها بدون النوح على المصير، لن يكون لها بين مآتم الأرض مسير. ولذا كانت ‏التضحية تقتضي أن يشنق الإقطاعي بمعي الراهب في لعبة الوجود؛ وهي بما يموج فيها من عقد الخلد، ‏والمتعة، لا تنتمي إلا إلى عقيدة اللذة التي ضحى الإنسان فيها بيتم الأرض، ويبس السماء، لأنهما تواءما ‏على طمس الهوية، واتحدا على وأد القضية، فكان الانتقام للعقل أولى من الحرص على الوفاء للألحان ‏الغامضة، إذ لولا تلك الدماء التي أهريقت على فسيلة الحرية؛ "وهي في شدة صبيبها أقدارٌ سيقت إليها حين ‏عشقت شجرة السعادة، لأن ما نشأ على دوحها من طفيليات غريبة، وكائنات رديئة، لم يكن إلا حجابا يصدها ‏عن رؤية عقلها في ذاتها،" لما كان لأروبا محل فصل، ووصل، لأنها في اختلاطها بالعقل، تغدو صانعة، وفي ‏امتزاجها بالقلب، تصير منتجة لأقدس ميثاق أوجده الإنسان بين الأكوان. فلا غرابة إذا كانت أرسطية فيما ‏يحتاج إلى ناموس، وأفلاطونية فيما يحتاج إلى أخلاق، لأنها بالقانون صنعت الحضارة، وبالأخلاق أنجزت ‏مهادا لحرية الإنسان، وحقه في الوجود، ودوره في الحياة، إذ ما نعتبره في الصورة حين نصوغها من ‏تناقضات الضدية، وسوالب الثنائية، هو ما قامت به الحضارة من قوانين، وما تقومت به المدنية من قيم، لا ‏ما استحدث فيها من فناء، وزوال، لأنها بالخروج عن النص الأول الذي دون حقيقة الائتلاف على المعاني ‏الخالدة، قد أنتجت توحش الإنسان، وتغوله بأفضلية النوع، وأهليته لقيادة الكون، والحماية للطبيعة، والرعاية ‏للحياة البشرية. ‏
‏ وهكذا تكون كل الأفكار البشرية بين لغتين متناغمتين في الحدود الكلية، تتسم كل واحدة منهما بالإطلاق في ‏الخصوصية، وبالوحدة في الإدراك. وسواء تلك التي جعلت الفكر عطاء الإله، ومنحته صفة لا تقبل التعديل، ‏ولا ترضى التبديل، أو تلك التي جعلته نبض الإنسان، وحسه الباطني، وحركته الإدراكية في الوجود، وحدسه ‏الجمالي في الطبيعة. لكن كيف تتشكل الأفكار في عالم الأرض، وعالم السماء.؟ لعل ما نهتدي إليه في ‏صيرورة الفكر البشري، وفي توحده مع موضوعه بين بؤر إدراك العقل العاقل، والواعي، هو ما يجعلنا نطمئن ‏إلى أننا قد وجدنا على هذه الأرض أحرارا، لكي نكتب سيرة ذواتنا في تآلفها، وتنافرها، فتقوم الحجة علينا ‏بالبرهان القاطع، والدليل الساطع، فإما أن نكون أوفياء للذمة الذي أرادت الإنسان كائنا خيرا، وصالحا، وإما أن ‏نكون ناكثين للعهد الذي زين الحقائق بصورة الجمال، والكمال. هذه الحجة التي صاغها الإنسان في جريه بين ‏الزمان، والمكان، هي الدليل على الوجود، والطريق إلى الطبيعة التي تفرد كل واحد منا بجهده، وتمتعه بقصده، ‏والغاية التي ترسمنا في لوحة الكون قاصدين، أو قاعدين، لأن ما تقوم به الحجة من براهين، وما تتألف به من ‏عناوين، يؤكد قضية الاحتياج إلى تمام ذواتنا، ويبني حس الافتقار إلى غيرنا، ولو تطاول سيفنا على الرقاب، ‏وحولنا الديار إلى خراب، إذ الشعور بذلك، هو القوة المعنوية التي تدبر سذاجتنا بما يحمي الدائرة، ويفرض ‏الحوزة، ويمرع الكون بالوحدة، ويمتعه بالألفة، لأن لذة القوة في الصفة، لا في الموصوف بها على التبعية، إذ ‏هي في الصفة معان ذاتية، وكل ما أتى من قبيل ذلك في ترتيب المعاني، فهو الأقدس في الوجدان مما تلاحم فيه ‏الجوهر بالمادة، إذ امتزاجهما في الهوية، هو عمل العقل الباقر، وافتراقهما في القضية، صورة للخيال المترع ‏بالحنان إلى الوحدة. ‏
ولذا، تكون القوة بهذا المفهوم مرقاة إلى السماء، ومفتاحا لباب الطبيعة، لأننا ومهما أسرفنا في استكناه ما ‏تختزنه من شراسة، فإن أجمل ما نحصل عليه من مداليلها، هو ما يجعلنا نشعر بالأمان في العائلة البشرية. وإذا ‏طاشت عن هذا الحد، وسفه فيها المراد، واغتمت بالقهر، والتحمت بالإجبار، كانت تخويفا، وترهيبا، لأنها لن ‏تجد لها في الذات مكانا قريبا، ولا في الخارج مراحا رحيبا. وإذ ذاك، تبني عروش انتفاخها بالجبر لغيرها، ‏والعسف على مداره، والطيش بين مجازه. وإذا تحولت إلى رعب، وانتهت إلى خوف، كانت لغة الحوار في ‏الكون رديئة، وأصوات الحقيقة قميئة، وصارت معاني الحقائق التي نعيش بها موتا بطيئا، وفوتا هادئا، لأن ‏فقدان نبل الضعف في خشونة القوي، هو الذي ينسج روابط الأواصر من حبال المجانق، وأعواد المشانق، ‏ويرفع من أنين البشر سجونا للعقل، ومعاقل للحرية. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24