الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -4-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر 4
-4-
يتبع‏
وإذا كانت غاية الأفكار التحاور فيما بينها، والتجاور مع بعضها، لئلا تتسم بالإطلاق، وتوشم بالإجبار، فتكون حربا على ‏ذاتها، ونارا في واقعها، وآلاما في غاياتها، فإن ما ينشأ فيها من صراع بين الديار التي أفجعها الضجر، وأوهنها الوضر، لن يكون ‏مثيرا للنظر، ما لم يكن يحمل هم الإنسان، وأمله، ويزفر بأحلامه، وأشواقه، وهو يغدو ويروح بين موارد الأرض معولا، ‏ومولولا، ويرنو ببصره نحو مغابن السماء مناديا، ومناجيا، وكأنه فيما يرقبه من آفاق غامضة، وأمداء شاحبة، ما وجدت حقيقته ‏في وهاد الكون، وعلى فراش الطبيعة، وبين لحاف الحياة، إلا ليتشوف إلى ضالة ضائعة، يحوطها بأعطر أنفاسه، وأعذب أذواقه. ‏ربما يحمل هذا المعنى سوداوية منهكة، ومعذبة، ويتدثر في حرفه يأسا، وإحباطا، لأنه يدل على شيء خفي الحقيقة، تعودنا على أن ‏نخب حول ديار حزنه، ونهرع إلى مراح كمده، فنزجر نوقنا بحدة، ونخوض المدى بشراسة، لئلا ندان بسبته، أو نصاب بسمه، أو نلام ‏برؤيته، أو نهان بتخيله، فنكون متهمين بخيانة العهد الذي كتبه القوي حين صار أسدا مفترسا، وغدا من يرتجي الحياة الهنيئة خائفا، ‏وجبانا. ‏
قد يكون هذا الملحظ صحيح القول عند من شهد علقم الألم ساريا في الذوات التي بدها الجلد، وكدها الكمد، فلم تجد لها إلا ‏مناحات للبكاء، أو مباكي للنجاء، أو ربما قد نكون مخطئين في وصفه، ومذنبين في حده، لأننا لم نعثر فيه إلا على ما تحصره ذواتنا ‏من خيالات، وما تقتنصه من أوهام، لا على ما يتقوم به من أسس، وويترسخ عليه من دعائم. لكن، هل يجوز لنا أن ننفي ما ‏يلتاع بين أجواف الإنسان من هموم، وغموم، لكي نقول بهدوء شعوره بيومه، وغده.؟ لو قلنا بذلك، فإننا قد بنينا عالما لن ‏يجد فيه الحكيم شجرة فارعة للتأمل، ولا الشاعر واحة نضرة للتجول، لأننا لن نطيق أن نوجد في لغاتنا، ولا أن نعبر عن ذواتنا، ما ‏لم نجد في الأشياء سر مكابرتها للزمان، ولغز معاندتها للمكان. وإذا لم نعثر على الوجهة التي تستوي فيها القيم على معنى محدود ‏الغاية، فلا محالة، لن نجد حاميا يقينا من أن نصير سديما، أو حارسا يصدنا عن العماء، لأننا لن نحتاج إلى ألم في صناعة أفكارنا، ولا ‏إلى حزن في صياغة أحلامنا، إذ ما يدفعنا إلى سبة سيرنا على حطيم الأحزان التي تنتابنا من شدة شؤم المكان، ولؤم المكين، هو ‏امتزاج حلاوة ذوقنا بمرارة الأوجاع التي تتعاقب علينا في كل إطلالة شمس ترسل أشعة غبنها على محيطنا الهادر بغصصنا المتورمة، ‏وتتوارد علينا في كل ليلة نلمس جبنها على خشونة الأرض بأبدان متعبة، وكأننا ما وجدنا في نقطة الألم، وما حبسنا في بؤرة ‏الشقاء، إلا لنصير ضحايا سائمة بين واقع عليل، ومجتمع كليل، اختلت فيه المباني، واختلطت معه المعاني، وارتج فيه على نداء ‏الحقيقة، وأغلق معه باب الفضيلة، ولم يبق لنا من صديده إلا فتات نأكله، أو سؤر نشربه. تلك هي المعرة التي أنهت لطف ‏اللحظات، وأرسلت زفيرا في الأصوات، وأوقدت سعيرا في الذوات، لأنها تعبر عن وحدة اتجاه المعقول والمخبول في الذات ‏البشرية، وانفصال المشتركات المتآلفة في الإدراك، والمعرفة، وانتقال الإنسان من لحظة الاستنجاد بالمطلقات إلى فضاء الاستهداء ‏بالكونيات.‏
‏ ومن هنا يكون ما تمتلئ به اللحظة خضوعا ضروريا لناموس التطور، ورضوخا طبعيا لسنن التاريخ، لأن صناعة الزمن الذي يحتضن ‏الفعل البشري، وينطوي على سره في القول، ونيته في الفعل، لا تكون مصادفة، ولا توجد مباغتة، إذ ما نزرعه في المكان، ويسقيه ‏الزمان، هو الذي يكسب الأجيال اللاحقة أدوات المعرفة، وآليات في التوجيه، وعلامات في الاهتداء، ونظريات تشق في ‏الطبيعة طريقها نحو السعادة الكونية، والحرية الإنسانية. وإلا، فإن الفراغ لا يحدث في الامتلاء، بل ما نخاله في تكرار الحزن فارغا، ‏وربما تافها، هو القادر على كسر طوق الصمت، وجر النداء إلى الظهور، لكي يقول كلمته في حمأة الضياع، وبؤرة الصراع، لأن ‏امتلاء الفراغ، لا يكون إلا من غور ذاته، إذ لو حدث الامتلاء بما هو في جوهر غير قابل للفراغ، وذلك في منطقه مستحيل، ‏لأثبتنا تعدد الأوعية، وتنوع المورد. وإذ ذاك، لن تكون لنا أمة قادرة على صناعة عقلها، ولا على كسب وعيها، لأن ما ينشأ ‏فيها من تعقل للأشياء المُدركة، وتبصر لحقيقتها في الأجرام، والأعيان، هو كامن فيها بالاحتواء، وموجود معها بالاتصال، وما سمي ‏منه فراغا، وانطوى على فقد الإنسان للمعنى في ذاته، فهو من باب المجاز، إذ المقصود به ضياعها، وتيهها، لا فقدانها لحاسة ‏الإدراك، ومنطق التعامل مع حقائق الأشياء المتعارضة، ولغة التحاور مع صور الوقائع المتعاقبة، إذ لو كان فراغا في نسبة ‏العلة إلى المعلول، أو الأثر إلى المؤثر، فإنه لن يكون امتلاء في زمن من الأزمنة، وإن توهمناه آخذا لصفته بعد خفائها بسياق من ‏السياقات الممكنة. وإذ ذاك لن نسأل عقولنا عن تقدمنا، ولن نتألم لتأخرنا، لأننا قد وجدنا في الحقيقة لئلا نكون موقوفين على ‏عقولنا، بل موجودين بتواكلنا، ومقبولين بتآكلنا. ‏
ولهذا لا ينشأ فكر من فكر، ولا رأي من رأي، إلا إذا كانت ذاته قابلة له بالوصفية، أو التبعية، أو الإضافة، لكن ما يفتت ‏العضد، ويخدر الزناد، هو فقدان ذلك البرزخ الذي يجمع بين الأضداد في محيط الكلية؛ وهي جماع كل الأفهام البشرية في معنى ‏متوحد بالأحدية، إذ هو الأزل لكل ما له زمان، ومكان. لأن وجود البرزخ كمعراج للصعود، والهبوط، هو القادر على ربط ‏الصلات بين الأشياء المتضادة، وحصر القرائن بين المعاني المتشابهة. وذلك ما يجعلنا حيارى بين الدلالات التي فقدت حقيقتها في ‏الطبيعة، ويمرغنا في وحل السؤال عن علاقة اللغة بالذات العاقلة، وعلاقة الذات بالمواضيع المختلفة الحدود، والآثار، لأننا ‏من شدة البؤس الذي نخرنا بكدره، وكسرنا بفجعه، لم نقدر في زمن مجاف للجدوى على أن نتصبر قليلا، ونتحمل بعض وزر التردد ‏في محل الاطمئنان، والشك في مقام اليقين، إذ لو تمكنا من بعض الهدوء الطافح في أعماقنا، ولو كان نسبيا في لحظة عتت بالفوضى، ‏وعبثت بالرداءة، فإن ما نوقن به من أعراض التلاشي، وأحوال التنائي، هو ما يجعلنا نجزم بسير البشرية نحو المجهول بآمال ‏عريضة، وأحلام دفينة، فإما أن ينتصر الفراغ للفراغ، أو الامتلاء للامتلاء، لأن ما يعج به المكان من أوجاع، وما ينزف فيه ‏من أوضاع، لا يطيق أن يستر فواجعه بين جونه، وجوفه، ولا أن تأبطها بين عطفه، ولطفه، لكي يكون ظهورها نادرا، وبروزها ‏يسيرا. ‏
كلا، بل في هذه الغصة نعيش الاستثناء، ونحيى على أمل ظهور مخلص يرد علينا بالخوارق الباهرة، والمعجزات الكاسرة، لعله يكون ‏بلسما لما استصعبه الإنسان من أمراض، واسترابه من أعراض، إذ ما تراكم من صراع بين الظلم، والبؤس، لم يترك لسانا إلا ‏واغتصبه بمرارة كآبته، وحرارة سآمته. لأن ما تتحرك به الدورة التاريخية في حاضرنا، وما نتناوبه من أوهام تجري بنا بين ‏الدروب واجفين، وساهمين، هو الذي يتضمن كل مبادئنا العقلية، وأخلاقنا المعرفية، وسواء ما جعلناه فينا جبلة، أو ما حسبناه ‏معنا سعيا، إذ الطريق الممتلئ بالأصوات المعولة بالخلاص، إن كان مستوعبا لكل الألسن، وقادرا على فهم كل اللغات، فلا ‏محالة، سينفذ إلى حقيقة الاتصال بين التجارب، والتحاور معها في ميدان الحرية، والكرامة، لأنها المعنى الذي يظهر على الإنسان ‏بعد تمحيصه بغيره، والأثر الذي يكسبه صفة الوجود، لكي يتصف بالفعل اللازم لضرورته في الزمان، والمكان.‏
‏ ومن هنا، فإن فقدان البرزخ الذي يجمع الأضداد بين بحر المتنافرات الحدود، والحدوس، يتجاوز الأنظمة الثقافية التي تصر على ‏صناعة نمط خاص من الوعي باليومي المعيش، ويتعالى عن كثير من التصورات الفكرية التي تبني العلاقات الجماعية على قيم ‏المفاضلة، وأخلاق المجاملة، لكي يتفاعل مع ذاته، وينسجم مع واقعه، فينشئ له مهدا، ويذلل له ملاذا، لا تؤثر فيه كل السياقات ‏التي صنعها الإنسان بشراسته، ووضاعته، ثم اختار لها صفة الإطلاق المستحوذة على حرية الذوات العاقلة، لكي تدل على حقيقة ‏الانتساب إلى كمالها، وضرورة الإلتزام بتمامها، لأن تلاشي المطلق في بحر النسبي، وتحلل الرأي الأوحد في حرية الاختيار، هو الذي ‏يجعلنا ننتهج نهجا آخر في صياغة العقل، والتفكير، وننتحي نِحوا آخر في صناعة الإرادة، والتدبير، ويبعدنا عن الاضطراب في لجة ‏المفاهيم التي كشفت أسرارا كثيرة تربط الإنسان بمواضعاته الاجتماعية، وتأليفاته القيمية، وأزالت اللثام عن واقع فقد ثقته ‏بالمعاني التي تحدده بنهايات في المسير، والمصير.‏
‏ ولذا يعسر علينا أن نضبط الوعي في لحظة الانتظار التي نرقب مجهولها بآمال حانية؛ وهي كل زمن تباعدت فيه الحقائق المركبة عن ‏بعضها، وتناءت عن أجزائها، وتلاحمت آثارها مع صوت العقل المقهور، والوعي المغدور، وهو في غلو الوجع، وسلو الفزع، ‏يرخي أنينه بين الأحزان التي دمرته، والأماني التي حطمته، وأقامت على جماجه أبراجا للمراقبة، وعلى قبره حراسا للحماية. لأن ‏ما يسري فينا من عصارة التجربة التي قامت على نظام الرق، واستقوت بلغة الاستعباد، واستعلت ببزة الاستحواذ، وسواء في ‏ذلك ما استبلد به الراهبُ غيره من خوف السماء، وهي محيط الرحمة، وقارب النجاة، أو ما استذل به القوي همة الضعيف، ‏واستوخم به المُقامَ معه، وهو أخوه في المسرات، وضئره في المبرات، لن يبرح دائرة التوفيق بين مجد الإنسان، وكرامة دروبه، ‏وسلامة مساربه، إذ لا تتجسد قوة الأقوياء إلا في ضعف الضعفاء، ولا تقوى شوكة الفقراء إلا في استعلاء الأغنياء. لكن، هل ‏للإنسان صوت سوى ما يضمره في وجدانه، ويخفيه في مشاعره، ويستره في أحاسيسه.؟ لو قيل بأن تمامه في جلاء هذا القفص الذي يسجن ‏الجوانح، ويعذب الحواس، لكان أقذر وعاء من البهائم، لأنه في إدراكه لقوة عقله، وفقدانه لحقيقة عمقه، سيكون أوفى بالحيوانية ‏من غيره، وأفر حظا في الاتصاف بها، والانتساب إليها، إذ لا قيمة له إلا بعقل يدبره بحرية، ويدون خصائص نضجه بما يخترعه من ‏صور الأمن، والسعادة. وإذا فقد ذاته بين فوادح الزمن الرديء، وغربة الوعي الجريح، كان الفيل أضخم منه، والأسد أشجع ‏منه. وإذ ذاك، لا يمكن لنا أن نتحدث عن نظام الأرض إلا بلسان الخوف المستحوذ على أعماقنا، والمستولي على أذواقنا، ‏لأننا سنحتار في تحديد المعنى الذي يمتع إنسانيتنا بحريتها، ويمرع آدميتنا بكرامتها، إذ لا يجوز لنا أن ننفي قانون الغاب عن دائرة ‏الإدراك للنظم، والتنظيمات، ما لم يكن الإنسان حرا في إرادته، وسعيدا في اختياره. ‏
وهكذا يكون الشعور بالوجود هدما لمطلقات عديد من الأفكار الشمولية، وحرقا لمجردات كثير من الروابط التي تشبث بها ‏الإنسان في سكون سياقاته التاريخية، وأنساقه الثقافية، لأن الإحساس بالوجود الذي تواطأ الناس على تسميته بالحياة؛ وسواء ما ‏استهداه العقل بوساطة الناموس المبثوث بين أمداء الكون، ومدارات الطبيعة، أو ما استوحته النفس بعلاقة التجارب الغضة ‏المعاني بالسمو، والعلو، لا يعني سوى الحرية التي تشكلت ضرورتها بما تفرضه شروطها، وتلُْزمه علاقاتها، بل اتحدت مع الوجود في ‏الجوهر عند كل من شهد الأشياء تكسوها حقيقة واحدة، تنتهي إلى معنى مشترك في ماهية الإنسان، وهي ما تكون به كليته فعلا مؤثرا في ‏الطبيعة، ونسقا موجها لدورة العمران إلى التآلف، والرحمة، إذ لا يستساغ أن نبني تصورا للحياة التي نرغب في تآزرها، ونحفد ‏إلى تآلفها، ما لم نشعر بأننا نمتلك حقا في الوجود المطلق بين أفياء الكون؛ وهو كل ما نحس به موجودا في الحقيقة، ولو كان متخيلا ‏فينا، أو متوهما لنا، لأن سرحان الخيال بين الأمداء التي نستكنه منها معنى الحياة المرغوبة، ونسترشد بها إلى معين الحرية المطلوبة، هو ‏الذي يمنحنا لغة الوجود الحق، ويعلمنا كيف ننتقل من لحظات الركود إلى لحظة الانتظار، لكي نؤسس لمهد إنساني متسم بالكونية، ‏والأمان. ‏
وإذا كان الوجود مرتبطا بالحرية، فإن معنى الاستقلال في الإرادة، والاختيار، لا يكون حقيقة تهبنا جوهرة الحياة على بساط ‏الأرض، ما لم يكن فعلا مؤثرا في معدن الإنسان بالاستقرار، والاستمرار، لأن ما تبنيه الأفعال من تحديد لكمال السياقات، ‏وتهذيب لتمام العلاقات، هو المحضن لنشأة حقيقة الحياة التي نبحث عنها بين فكي الزمان، والمكان، لأنها في سمو نظامها، نحس بوافر ‏لباس السعادة، ونشعر بأننا قد وجدنا لقصد، وحددنا بغاية، إذ مقتضى القضية عند تحديد المفاهيم التي تبني منطق الصراع مع ‏الواقع، أن نجعل الحرية ملازمة للوجود، ونربط الكل في جوهر الحقيقة، ثم نجزم بأنها هي كلية الحياة الوديعة. وإذ ذاك يتأسس ‏فينا مركب السعادة الذي يصفنا بصفات الإنسان المسؤول، ويمتعنا بجمال الفعل، وكمال الأثر، لأنها زبدة الجدل القائم في الحياة ‏التي نرفع عماد خيامها، وأركان قلاعها، والخلاصة التي انتهى إليها جهد البشر حين أيقن وجدانه بأنه لحن في الطبيعة، وأدرك نظره ‏بأنه نفَس في السماء.‏
‏ ومن هنا، يعسر علينا أن نفصل بين المثالية والواقعية في حقيقة الذات الحرة في اختيارها، والمدبرة لأفعالها، ونحن نتوهم أنهما ‏مختلفان في الطبيعة البشرية، إذ مقتضاهما أن ينصرفا إلى الصورة، والمادة، وهما لا يتحدان في صياغة الهوية إلا بالامتزاج بين ‏المباني، والتلاقح بين المعاني. وذلك ما يجعلهما صيرورة في كينونة واحدة، وهي إذا دلت على عالم السماء، فإنها تصور السعادة ‏في الصفة التي لا تقع موقعها إلا باتحادها مع الموصوف، وهي فناء الموجود في الوجود الذي هو فيض الواجد. ولو أنكرنا اللفظ ‏الدال على الامتزاج بين الظلال في جوهر الكل، وقلنا بتكفير الحلاج، والسهروردي، وقتل كل فكر يشرب من معين الحرية استقلالا ‏في التعبير، واختيارافي الرأي، لأن الإفصاح عن تلك الومضة بين مدارات العقل، لا تتساوى فيها الإدراكات، ولا تتمايز فيها ‏اللغات، إذ هي محل الخيال في التصوير، وموقع تعدد اللفظ، والمعنى واحد، لأن ما نصل إليه عند إحجام العقول، ونهاية ‏إقدام الآراء، لا يمنح أحدا صفة الإطلاق لقوله، فيكون هو الناجي، وغيره من أهل الضلال، والزيغ، إذ ما نركبه من معان، وما ‏نبنيه من مفاهيم، ليس إلا تلك الصورة النهائية التي أغرقها الإنسان في بحر الجمال، والجلال، لئلا تتصف بما يبعدها عن دائرة ‏الأزلية، والثبات. ومن هنا يكون محدودها مبشرا بكنه سعادتها، لأنها تراها في أفقها، لا في مداها، لكنها إذا نطقت باسم ‏الأرض، فإنها تشهدها في جريان حقيقتها بين الدروب النازفة بكبد الإنسان، وكمده، وتلمسها نابضة فيما تفضي إليه الوفرة من ‏نعيم الرياش، وجميل الرفاهية، إذ غاية الكائن العاقل في جهده، ومنتهى أمله في حياته، أن يزيح غلالة الخوف عن ذاته، وعن ‏لذاته، ثم يصير مأمونا في جلبه، وسربه، لأنه إن لم يدرك ذلك فيما يبنيه من اقتناع بدوره، واعتداد بوظيفته، لن يعيش بين ‏مخاض سعيه إلى رص حقيقته إلا خائفا، ومتأففا. ‏
ولذا، تكون السعادة مقياسا للمثال، وميزانا للواقع، لأنها ولو لم يكن الاستدلال عليها ممكنا بما هو صادر عن الخارج من ‏استمتاع مرتبط بالزمان، والمكان، فإن ما فيها من معنى كلية الذات المُدركة، يجعلها منطقا إنسانيا مشتركا، ولغة كونية متجاوزة ‏للحدود الضيقة التي توهمتها في منية العقل، أو لذة البطن، إذ هي الفكرة التي تسيطر على كياننا، وتستولي على علاقاتنا المرتبطة ‏بكل الحقائق التي تحدث فينا أملا، وتنجز فينا انتشاء. ولذا، فإن فكرة السعادة في دلالتها على قمة عشق للإنسان للهدوء، وعطشه ‏إلى السكينة، ما هي إلا كل الآمال التي دبرتها البشرية بنظمها، وخلدتها بناموسها، لئلا تكون مسلوبة للكل، أومفقودة عن الجزء. ‏ومن ثم، فإن وجودها المجسد لحيز الإدراك لها في الذهن، لا يتأتى إلا بالشعور بصورتها، والإحساس بأنها صفة حقيقية في تمام ‏الكيان، وهوية محددة في غاية الإنسان، إذ لا تحتاج في كسبها إلى عبودية، أو إلى استذلال، لكي تصير منفصلة، ومنقطعة، لأنها المعطى ‏الذي اشترك الناس في الحرص عليه، والرغبة فيه. ولذا، فإن حماية العقود، والوفاء بالعهود، والدفاع عنها بالطرق الممكنة، ‏والوسائل المملوكة، هو في معناه الذي يتضمنه، ويحتويه، لا يعني سوى تحقيق هذه الغاية التي تجعلنا سعداء، وتصرف عنا ما يكدر ‏الصفاء، لأن النظم لا تكون قويمة في الاعتبار، ما لم تنتجها بأفعالها العاقلة، وأغراضها الواعية، إذ هي لا تكون سعيدة فيما تبرمه ‏من أخلاق، وتهذبه من سلوك، إلا إذا أنتجت الفضيلة، وابتغت الخير، والصلاح، لأنها العقد الذي تصالح الناس عليه، ‏واختاروه لمنتهى القصد في الحياة الجميلة، ودافعوا عنه بكل الحروب التي خاض البشر أوحالها للحرية، والاستقلال. وما لم تكن ‏إحساسا عاما، ووعيا تاما، فإنها ستكون استعلاء في أنانية مفرطة، واستقواء في نرجسية متطرفة. ‏
والحق أن صوت الإنسان الباطني أعمق من غيره، وأوفر حظا في ذاته، والأقدر ‏على التعبير عنه، والإفصاح عن رغباته، والإظهار لنزواته. لكن في كثير من ‏الأحيان، نتألم لفقد الصورة معناها الذي نلهج به، فيبدو لنا أنه مفرغ منها، وربما ‏مباين لها، وكأنها ما وجدت في الإنسان إلا ليحاكي صوت غيره، لا لكي يرسل ‏صوته المزموم في عمق ذاته، لأن الإحساس بما يربط بين مخزون الإنسان في باطنه، ‏وموفور ما يموج في ظاهر واقعه، هو الذي يصيره مُدركا لحقيقة المزج بينهما، وإن ‏اختلفا في النظر الذي يجلي ماهية كل واحد منهما، وتنافرا في كسب ما يحقق بهما ‏الهناءة على مهاد الطبيعة، إذ لا يمكن أن يستقيم الميزان في اختبار الأشياء لصناعة ‏الاختيار المستوجب للفعل، والمستلزم للانفعال، إلا إذا عرفنا حدود الذات في ‏صياغة فكرها، وفي تحديد رأيها، لأنها إذا كانت قادرة بفكرها على خلق عش ‏آمن لها في واقعها، كانت نظرتها إلى الحياة انسجاما مع نواميسها، وتفاعلا مع ‏غاياتها، وإذا غاب الإدراك عن الحد الجامع بينهما، صار الواقع عدوا ظاهرا، ‏وغدا كل ما يربط بين الأشياء من علاقات الوصل منفكا، ومتحللا. وإذ ذاك ‏يكون كره الواقع دينا عند من رسم نهاية الاتصاف بالعقل رغبة ممنونة للسماء، ‏لأنه لا يتحرك في الأشياء إلا باعتبارها فاقدة لحقيقتها في ذاتها، وفارغة من محتواها ‏في واقعها، إذ جوهرها لا معنى له إلا في ذات اللامس لها بتلك اللمسة التي تجعلها ‏وافية لما نقشه من جوهر الإله، وخصوصياته في التكوين، والتدبير. ‏
ولذا يكون كره الواقع ناتجا عما حدد من مدار الصورة التي أتعب كمالَُها ‏الإنسان، وأورده موارد العناء، ومواطن الشقاء، لأنها كما تكون مهيأة ‏للاستحواذ بما كمن فيها من رسم الإله، فإنها تكون نازفة بكل ما وجدت به من ‏مقولات، وتصورات، إذ هي العقيدة التي تواطأ الإدراك عليها، أو المبادئ ‏الأولية للعقل، والكليات العامة للتفكير. ومن هنا يكون أثر بناء العقل على ‏المجردات غير المحددة إفلاسا في قيم الفكر، وإعراضا عن سبل الاجتماع، لأن توجيه ‏هذه المتناقضات في سيرة الإنسان، والحرص على تمام صورتها في كلية الذات، لكي ‏تقوم بومضتها الباطنية، وحركتها الظاهرية، هو الذي يمنحنا أدوات قراءة الحقيقة ‏بما فيها من مظاهر متعددة، ومسارب متنوعة، ويهبنا قواعد التفاعل مع الحياة ‏التي نستقي منها معالم وجودنا، وعناوين رؤيتنا إلى الأشياء التي تتضمن محتوى ‏الزمان، ومعنى المكان، وتحتوي على مرمى سعي الإنسان إلى الخير، وحرده في ‏السعادة، وكبده في الحضارة، إذ ما أنتجه الإنسان من صلة بحياته، هو الذي يربطه ‏بالأجيال المتعاقبة بعد موته، ويغذيه بقدرته على المشي إلى الغد بأحلام لطيفة، ‏لأن ولادة هذه الحقيقة في التصورات التي تبني النظام، والقيم، هو الذي يمتعنا ‏بتدارك القصور الحادث فينا عند التحامنا ببؤرة المجتمع، والتفافنا حول الهدف ‏المشترك. وهذا القصور الذي يعترينا في آليات بحثنا عن المعرفة، وعن الحقيقة، هو ‏الذي يعبر عن عجز كامن في الذات، ويعرب عن احتياجها إلى تثوير في مفاهيم ‏أخلاقها، لعلها تبنى قواعدها على دعائم قويمة، يمكن لها أن تكون حضنا لتوجيه ‏الفعل إلى ما يخلد نظام الكون، ويخلف نواميس الحياة الجميلة. ‏
‏ ومن هنا، فإن استجلاء هذه الحقيقة، واستظهار ما تدل عليه من صلات، وما ترشد ‏إليه من علاقات، إن لم يكن قادرا على كشف الالتباس الذي وقع بين الحقيقة، ‏وظلالها التي صنعها الخيال الجانح في بعده الأفقي، أو التحتي؛ وهي كل ما يربط ‏الإنسان بما يريد تحقيقه، ولكنه خاضع للناموس، والأخلاق، لن يعيش إلا مقتنعا ‏بأنه يسير على هدى، ويأمل غاية، وهو في ذلك، يحصر ضرورة وجوده في فقدان ‏حسه الباطني، وإن ظن أنه وفي لما تهيأ له الإنسان من مهاد، وتوافر له من سلوك، ‏إذ رغبته الأكيدة في الحرص على حماية ما بين يديه، وحيازته بمقارعة الخطوب التي ‏تعتاده، وتعانده، هي التي تجعله موقنا بالتضحية بما سواه، وتحركه في الذود عما ‏يسبك هويته مع الحقائق من جذب النزوات، وحصر التنظيمات. ومن هنا، لم ‏يرغب العبيد في الانعتاق، لأنهم لن يقبضوا على شيء موفور مع الحرية، فاختاروا ‏العبودية كدليل على الطاعة، وعنوان على الرضى، إذ لو تخيلوا في مساحات ‏الكون زاوية يمكن لها أن تنجب حق الامتلاك، لابتغوا إلى ذلك سبيلا. لكن اليقين ‏بكسب شيء من اللذة، وقليل من المتعة، ولو كان ساريا في أصلال، أو منطويا على ‏أغلال، هو الذي يمنع من التحرر، ويعطل التنوير، لأن ما يكتنزه هذا الكائن من ‏معان غريبة، ومبان عجيبة، لا يتجسد في كونه بطنا، وفرجا، بل في كونه ذاتا ‏عاقلة، وهوية واعية، يحق لها أن تبني سقف وجودها، وتعبد سبل سعادتها، إذ ‏قيمته في جوهره الباطني الذي يجمع كل إدراكاته في مرتبة الخير، ومستوى الفضيلة، ‏ومدلول الحضارة، وهو صوت وجدانه، وعقله، لأنه بدون أن يشعر بأن ارتباطه ‏بالأرض يتم عن طريقهما، فإنه سيحيى بين أمل يسوقه إلى هوان، أو ألم يحدوه ‏بإدمان.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي




.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي