الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانقلاب الأول في سوريا

آرام كربيت

2017 / 7 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


يقول مايلز كوبلاند، مدير وكالة الاستخبارات المركزية في دمشق: “كان من الواضح أن (شكري) القوتلي ونظامه، غافلان عن حقيقة وجود انفجار سياسي وشيك. وكما قال الوزير كيلي، فلم يكن أمامنا إلا خياران أحلاهما مر، احتمال قيام الانتهازيين السياسيين بدعم سوفياتي مستور أو قيام الجيش السوري، بدعم مستور منا باقتناص الحكومة. وقد كان يعتقد كيلي أن الخيار الثاني قد يتيح فرصة طيبة على الأقل.. للعناصر المسؤولة في المجتمع السوري. وهكذا قام فريق عمل سياسي بقيادة الرائد ميد، وهو معاون المحلق العسكري، ووطد أواصر الصداقة مع الزعيم توطيدًا منهجيًا. وأوحى له بفكرة الانقلاب العسكري، وأشار إليه بكيفية تدبيره، كما قاده خلال عملية التحضير المعقدة في وضع الأسس الضرورية له”.
ولقد عمد الأكاديمي الأميركي، دوغلاس ليتل، إلى تأييده ما ورد في تقرير كوبلاند، وذلك في دراسته الحديثة للوثائق التي أفشت أسرارها الولايات المتحدة بعد أن عفا الزمن على سرية تلك القضايا.
فليتل هذا، ساق الحجج على الإحباطات التي واجهت الولايات المتحدة الأميركية في علاقتها مع الرئيس شكري القوتلي في خريف العام 1948 من جراء رفضه قبول اقتراح الهدنة الذي اقترحته الأمم المتحدة، واحتمال تجدد الاضطرابات حول مسألة لواء اسكندرون، وتعاظم النزعة المعادية لأميركا، علاوة على تعثر مفاوضات خط أنابيب “التابلاين”، دفعت ميد إلى استهلال المباحثات مع حسني الزعيم في تشرين الثاني/ نوفمبر. وفي هذه المباحثات شجّع ميد حسني الزعيم على الانقلاب الذي جرى التخطيط له خلال فصل الشتاء. وفي نهاية آذار/ مارس، زار مساعد وزير الخارجية، جورج ماك غي، دمشق، حيث أعطيت الموافقة النهائية في هذه الآونة، كما يتصور ليتل.
ليس مهمًا إن كانت الولايات المتحدة وراء الانقلاب من عدمه، بيد أن ما فعله الزعيم أنه سار إلى الأمام وفق ما تريده. لقد وضع مجرى السواقي كلها في الطاحونة الأميركية. فانقلب على الدستور والنظام الديمقراطي وعطل الحياة السياسية وصادرها وأرسى حجر الأساس للنظام الأمني السوري، والعربي في ما بعد، بديلًا للحياة النيابية والدستورية، ووضع اللبنة الأولى أو حجر الزاوية للمنظومة الأمنية العربية التابعة للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، كما ذكر ذلك وزير خارجيتها، كيسنجر في بداية السبعينيات، والأخطر من هذا وذاك أنه فرّط في الحقوق الوطنية السورية دون أي مردود سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي على الدولة السورية.
في الثلاثين من آذار/ مارس 1949، أطاح الزعيم، المولود في حلب (1889 – 1949)، بالحكومة المُنتخبة، وفي الأول من نيسان/ أبريل حلّ البرلمان، واعتقل الرئيس المنتخب، شكري القوتلي، ورئيس الوزراء خالد العظم، وهما في ثياب النوم، ووضعهما في سجن المزة، وأجبر الرئيس القوتلي على تقديم استقالته في السابع من نيسان/ أبريل. ثم شن حملة أمنية على معارضيه، كالحزب الشيوعي السوري وشخصيات وطنية وغيره.
لم يُضيّع زعيم الانقلاب وقته قط، وكأنه في سباق مع الزمن، فقد اشتغل ضد إرادة الشعب السوري وطموحه وتطلعاته بسرعة جنونية، وكأنه كان مُجهّزًا نفسه لهذه التحولات قبل الانقلاب بمدة طويلة. وكأن جميع الملفات العالقة والصعبة كانت على طاولته قبل أن تكون له طاولة، ومكتب. وخاصة باتجاه الصلح مع العدو.
بدأ مفاوضات الهدنة مع إسرائيل في الخامس من نيسان/ أبريل، أي بعد أقل من أسبوع من وصوله إلى السلطة، متغافلًا عن الرفض الشعبي لها، ورفض البرلمان السوري لها في الخامس عشر من آذار/ مارس 1949، أي قبل الانقلاب بأسبوعين. وفضلوا الانسحاب من المستعمرات اليهودية التي دخلها الجيش السوري في العاشر من حزيران/ يونيو، والتاسع عشر من تموز/ يوليو من العام 1948 دون اتفاق هدنة مع الدولة اليهودية، والعودة إلى الحدود الدولية لعام 1923، حتى لا تسجل على سورية أي اعتراف بالمحتل للأرض العربية، فلسطين.
في السادس عشر من نيسان/ أبريل، اقترح الزعيم، سلمًا منفردًا مع إسرائيل، في مقابل عودة نصف بحيرة طبرية إلى سورية، حجةً من أجل تأكيد حسن نيته. وفي الخامس عشر من حزيران/ يونيو، اجتمع مع وزير الخارجية الإسرائيلي، موشيه شاريت، في فندق بلودان بدمشق، لمناقشة أمور عدة، منها كيفية إشعال ثورة مسلحة في لبنان.
في السادس من الشهر نفسه، كشف الوزير الأميركي كيلي، سرًا، لوزير الخارجية السوري عادل أرسلان، وفق مذكرات الأخير، في مقر وزارة الخارجية: أن حسني الزعيم اقترح أن يجتمع مع بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل.
في العشرين من تموز/ يوليو، وقعت سورية اتفاق هدنة مع إسرائيل، دون أي ضمانات أو مكسب سياسي لسورية.
هذا غيض من فيض ممارسات سلطة الانقلاب، وعبثها في القضايا الوطنية العليا، دون العودة إلى أي مرجعية سياسية أو اجتماعية، في عملية تخريب ممنهج لمصالح سورية وشعبها.
كثيرون قالوا عن حسني الزعيم إنه رجل أحمق، بيد أن الواقع يُثبت أنه رجل مخادع وكاذب، ويعرف مصلحته الخاصة، ويُفضّلها على المصلحة العامة، مثل أغلب الحكام العرب المنفصلين عن قضايا أوطانهم ومصالح شعبهم. كما، مرر سياسات مدمرة، لم يكن يجرؤ أي إنسان القيام بها، وكل ذلك، من أجل الحصول على الدعم الأميركي والبريطاني لتكريس بقائه حاكمًا لسورية. واكتشافه المُبكّر أن البوابة الأمنية هي المدخل لتكريس حكمه.
إن الآثار المدمرة لهذا الانقلاب، كبير جدًا، أخذ سورية من سياقها التاريخي، وتطورها الطبيعي، ومحاولة ارتقائها السياسي والاجتماعي، عبر المشاركة الاجتماعية الفعلية في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، عبر دولة قانون والمؤسسات والنظام التعددي.
ما فعله الانقلاب، أنه أطاح بالتراتبية الاجتماعية التي كانت سائدة، وبالقوى السياسية، زعماء سورية بعد الاستقلال، كشكري القوتلي وجميل مردم بك ورشدي كيخيا، وناظم القدسي، أسعد هارون، سعد الله الجابري، فارس الخوري، أكرم الحوراني، نجيب الريس، حلمي الأتاسي، الشاعر بدوي الجبل، عبد الرحمن العظم، وخالد العظم وغيرهم -على سبيل المثال لا الحصر- دون بديل يعتد به.
وضع الفراغ السياسي الذي شكّله الانقلاب سورية على مفترق الطرق، وكسر الحلقة التي كانت تربط الماضي بالحاضر، ومزق القوى السياسية الصاعدة التي ولدت في ظل الانتداب وما بعده.
نستطيع القول، إن الانقلاب هو ولادة قيصرية لمولود ميت. وكسرٌ للسياق الطبيعي لنهوض الدولة والمجتمع عبر شريحة جاهلة وأمنية، كالعسكر الذين لا يفهمون إلا لغة الأوامر والعنف وإصدار القرارات الفوقية، وخلق تراتبية اجتماعية جديدة منفصلة عن الدولة والمجتمع تنتعش على مقاس الشريحة الحاكمة، وخلق قاعدة اجتماعية قريبة من الحاكم يكتنفها التزلف والرياء والكذب ومحاولة إرضائه بأي شكل، فيتكاثر حوله المنافقون والمهرولون ورخيصو الضمير والوجدان.
وُلِدت الدولة السورية الجديدة بعد الاستقلال، بعد انقطاع عن سياقها التاريخي بحدود عشرة قرون وأكثر، محملة بتراتبية اجتماعية، نشأت ونمت في ظل النفوذ الفرنسي، محملة بقيم مدنية، وتراث الثورة الفرنسية الكبرى وفكر النهضة، وفي ظل الليبرالية الرأسمالية الثورية.
بنت فرنسا، نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا في سورية، فيه دستور نافذ وقيم ليبرالية، وبرلمان منتخب وفصل للسلطات، بوصفه شكلًا من أشكال الدولة الحديثة القائم على تمثيل مصالح القوى الاجتماعية المختلفة من خلال برلمان منتخب.
ندرك أن فرنسا مستعمِرة، حوّلت سورية إلى منطقة نفوذ لها ولمصالحها، وأدخلتها في إشكالية عميقة، بين القيم المدنية وراية الحرية والنهل من الدولة الحديثة، تمثيلًا وممارسةً، وبين الخضوع لسياساتها، وتكون سوقًا صِرفًا وموردًا طبيعيًا لأسواقها. بيد أن السياسية السورية كان لها نزوع نحو الاستقلال السياسي بدوافع سياسية، محلية وإقليمية ودولية، من أجل تحسين وضعها السياسي والاقتصادي وتطويره وتحسين أدائه.
ما حدث في البيئة العربية عامة، والسورية خاصة، أن هذه البيئة تلاقحت مع الليبرالية الرأسمالية بدايةَ القرن العشرين، ونفضت عن كاهلها، غبار الاستبداد والاحتلال العثماني، الذي دام وساد مدة أربعمئة عام، ومحاولة الاستعداد للانطلاق إلى النهضة الوطنية والاجتماعية وفضاء الحرية.
كان ممكن أن ترتقي الدولة السورية، خاصة بعد ولادة أحزاب سورية جديدة في ظل الانتداب، وبعد الاستقلال، ربما التلاقح بين قوى الاستقلال وما بعد الاستقلال، كان من الممكن أن يدفع سورية نحو مسارات متقدمة على الصعيد السياسي والاقتصادي لولا الانقلاب وتدخل الدول المهيمنة.
الانقلاب العسكري، وما تلاه من انقلابات أخرى، كان كارثة وطنية بامتياز، فوّت على السوريين فرصة النهوض الوطني وتحقيق الاستقلال الحقيقي، الاقتصادي والسياسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس