الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المومس و القديس

صيقع سيف الإسلام

2017 / 7 / 21
الادب والفن



إن من أصعب الأمور التي يجبر امرئ مثلي على العيش معها ، هي تلك الدنانير التي أتصبب عرقا لكسبها حتى يتسنى لي دخول منزل الدعارة . . . تصور أنه لزمني هذه المرة أن أرهن معطفي و نحن نمر بفصل الشتاء القارس ، فقد ذهبت المرة الأولى و رهنت معطفي ، ثم ما فتر البرد ينخر عظامي الرقيقة حتى عدلت عن قراري مسرعا لاستعادة معطفي ، لكن و للزوم ذهابي للكباري ، أقصد بيت الدعارة هذا ، لم اكن املك خيارات كثيرة ، حيث نظرت مجددا الى المعطف ، آه ما أجمل معطفي ذاك ، كان هدية من أبي الفقيد ، أسود اللون ، له ازرار كثيرة ضخمة متناظرة ، تملك شكل قرص ذي تجويف داخلي ، مع ثقبين متجاورين ، أما ما ميز معطفي هذا فهي تلك الأجنحة التي يطويها أحدنا على بعضها على مستوى الاكتاف و الرقبة لتعطي صاحبها قوة في شخصيته و هيبة للناظر الواقف أمامه ، غير مرة أسمع تعليقا يقول : « أنت جنرال عتيد يا ليفين » ، إلا أن باقي تشكيلة ملابسي لم تتوافق مع المعطف الثمين ، يكفي أن أشير إلى النعال التي أضعها في قدمي ، مفتوحة الجانب ومقطعة من الأمام عند إصبعي الكبير ، بل الأسوأ هو إصبعي السادس الذي كان مكشوفا للجميع بسبب نعالي المهترئة ، و الذي لطالما كنت فريسة للمسخرة بسببه ايام المدرسة الابتدائية . إن سرعتي في العدو مقارنة بأصدقائي أعطتني سمعة سيئة جدا ، ذلك أنهم كانوا يقولون : « ليفين يملك ستة أصابع في قدمه ، كيف لا يكون الأسرع » . . . إنني بطيء الفهم جدا ، و طيبة قلبي دوما ما تكون حاجزا يحجب عن رؤية الأمور على حقيقتها ، لا دعني اعتذر عن جملتي الأخيرة هذه ، بل طيبة قلبي دوما ما تجعلني أرى الأمور على حقيقتها ، خلافا لغيري ، كوني أجد من نفسي تفاؤلا ومحبة لكل شيء ، حتى النباتات ، حتى جاري أليكس الذي يكرهني وما يلبث عن إزعاجي بكلبه الهرم ، الذي بسبب عضة من فمه التعبان فقدت شيئا من طرف معطفي مساء ليلة جمعة ، وقد كلفني ذلك بضعة دنانير كنت لأوفرها ساعة عملية الرهن ، لكنني لا أكره أليكس و لا كلبه ، حتى أنني أطعمه خفية على صاحبه ، فهو يبقيه جائعا أياما متواصلة و لا يلتفت إليه إلا نادرا ، و لم لا ؟ ، فأنا أعيش لوحدي ولا آكل كثيرا ، و لأنه لا عمل لي فأنا من أفضل الناس في فهم المشاعر و الأحاسيس ، خصوصا اولئكم المنبوذين الذين لا يجدون مأوى لأنفسهم لا ضمن القلوب ولا ضمن الجدران الإسمنتية ، انني استطرد في هذا الكلام لعلي اتناسى الفاجعة التي حلت بي بعد دخولي لمنزل الدعارة ذاك ، ها أنا أكتب هذه الحروف على جدار زنزانتي ، داخل سجن لا أنيس ولا مؤنس لي فيه ، و فقط داخل السجن فهمت عبارة « أنت جنرال عتيد يا ليفين » أنها سخرية و استهزاء بي ، هذا يؤكد حماقتي من جديد ، وكيف لا أكون أحمقا بعد ما حدث لي :

رهنت معطفي بكيس من الدنانير ، و جمعت ذراعي على صدري طلبا للدفء ، ووجهتي نحو منزل الدعارة الذي كنت أقصده مرة كل أسبوعين ... إن بعض الاغنياء لا يقصده مرة في أسبوعين ، إلا أني كنت مضطرا في كل ليلة ثلاثاء ، حتى صارت تلك الزيارة للكباري عبارة عن هدف في حياتي المتواضعة ، أجمع المال بشتى الوسائل حتى لا أفوت موعد الثلاثاء ذاك ، حتى بلغ بي في إحدى المرات أن استكمل المال اللازم للدخول قبل سويعات فقط من الموعد ، و مما زاد في وعورة القضية أنه لم يكن ضمن بلدتنا نوفغورود أية منازل للدعارة ، حيث كان هذا الأخيرة مقرا سريا يتداوله فقط مجموعة خاصة من الاعضاء ، مع تشديد في حالة المنضمين الجدد ، لقوة السلطة الدينية في نوفغورود . . . إن هذه البلدة تعيش ضمن نظام طبقي يفصل بين الأمراء و الفلاحيين ، وفي حين كان الامراء يعيشون ملذات الحياة ، كان الفلاحون يعانون من أمور كثيرة ، من أهمها : تأخر سن الزواج الى الخامسة و الثلاثين حتى الاربعين ، مما سبب تفشي في حالات الزنا ، بين الأقرباء خاصة و الأجانب عامة ، و ليس ببعيد حادث اكتشاف أحد اصدقائي وهو كالفن ، لقد رجمه المجتمع تحت أمر الكنيسة حتى نال حتفه المسكين ، و لأن الخطورة بلغت مثل هذا الحد ، كان علي لزاما توخي الحذر في ذهابي لموعدي ، موعدي مع كاتيا يوم الثلاثاء ، و أنا أجتمع بها منذ سنة تقريبا ، الثلاثاء الفائت بلغت الثانية و الأربعين ، و هي في حوالي السادسة و العشرين . . . آه كم جميلة هي كاتيا ، إن لها شعرا أسودا طويلا يلاعب خصرها ، و سيقانا رقيقة نحيلة تعطيها رشاقة نادرة ، فلم أرى مثلها فيمن يجيد الرقص ، لا احصر الرقص في الباليه أو الفالس ، انما الرقص الكلاسيكي عموما ، فما أشبهها بآنا كارنينا تولستوي ، كم تبدو ناضجة مع روح شاعرة بين جنبيها ، بل كنت أصفها بأنها فيلسوفة مفقودة ، و السبب عائد أنه في غرفتنا الخاصة لم نجعلها فقط لما هي موضوعة من أجله أساسا ، بل بالاضافة الى الرقص الكلاسيكي ، كنا نتناقش حول الأدب حتى ، ثم آل بنا الحال إلى تجسيد الأحداث التي نقوم بقراءتها بين جدران غرفة الدعارة تلك ، حيث مثلنا في المرة السابقة صراع آل أوبلونسكي بين ستيفا و دولي ، حينذاك اكتشفت كم هي ممثلة بارعة أيضا ، فقد ذرفت الدموع و هي تتصور خيانة ستيفا لها مع مربية المنزل و هي تملك منه سبعة أولاد ، خمسة منهم احياء ، حقا إن القدرة على خلق الاحساس العميق من دون موقفه الخاص لمهارة يعجز عنها إلا الإنسان ، ذاك الإنسان الإلهي . . . بعد ان هرولت مسرعا فرارا من البرد القارس ، بلغت ذاك الشارع الضيق الذي لا أملك المرور فيه بعرض جسمي ، و بعد مسير خطوات هاهو الباب القصير عند الزاوية اليمنى ، كان هناك طرف ثوب أسود يعزف به الريح خارج الباب تارة و للداخل تارة ، لقد كان ثوب القس ماثيو ، و قبل أن أدري ما يجب فعله ، يقف من ورائي أحد افراد جهاز الأمن بنوفغورود ، لقد تم كشف منزل الدعارة..

نسيت أن أقول : أن منزل الدعارة لم يكن إلا مكانا للالتقاء مع كاتيا لا لأي غرض آخر ، فقبل سنة تماما أمسكت بكاتيا متلبسة عشية ثلاثاء ما ، خارج منزلها موهمة أباها الوحيد و الذي كان رجلا أعمى المسكين ، قلت موهمة أباها أنها ضمن البيت ، في حين قررت التوجه نحو بيت الدعارة للعمل هناك ، ذلك أن اباها كان مدينا لاشخاص كثيرين ، ولم يكن الدين بسببه حقيقة ، بل بسبب أخيه الذي مات تاركا عياله في مشكلة عويصة ، و لأن أب كاتيا هو الفرد المتبقي من العائلة فقد صار مسؤولا عن سداد دين أخيه المقدر بآلاف الدنانير ، و للعجز التام صار ذوي الأموال يطالبون بالبيت الصغير و بكاتيا نفسها ، ولمدة من الزمن عملت كاتيا كخادمة في البيوت و خياطة تقوم بحياكة الأنسجة الغليظة لمقاومة الشتاء ، إلا ان حاصل ما كانت تجنيه لا يتجاوز ما يسدد رمق يومهم وحده ، بل يضيق الحال مرات كثيرة لتوفر أفراد عائلة أخ الأب أيضا ، و لأن النساء يعرفن كل شيء ، لم يخفى عن كاتيا وجود منزل الدعارة ، حيث سمعت عنه من إحدى الخادمات التي كانت تتواجد معها في منزل إحدى الثريات ، و قد كان الثمن الذي يدفعه هذا الكباري مناسبا جدا للتخلص من الديون التي ارهقت كاهل كاتيا ، ولحسن الحظ كان ذهابها في المرة الأولى غير موفق ، حيث طلبوا منها أن تأتي يوم الثلاثاء المقبل ، كي يتسنى لهم تخصيص غرفة لها ، غرفة تحت اسم « الساحرة كاتيا » ، نعم كانت كاتيا مناسبة لهم جدا فهي صغيرة في السن مقارنة ببقية النساء ، زائد أنها بلغت من الجمال ما كان يحسدها عليه بنات عمها فضلا عمن سواهم ، من رشاقة قوامها إلى أصابعها المتناسقة و أظافرها البيضاء المزخرفة بهلال مترسب في بدايتها . . . هناك التقيت بها في المرة الثانية صدفة وهي مقبلة على الذهاب ، ولما كان الأمر مشبوها في ساعة متأخرة من المساء ، قمت باستعطافها مرة و التغليظ عليها مرة للاعتراف بوجهتها، لم يكن الأمر سريعا ، بيد أنه نجح في النهاية ، و بما أنه لا سلطة لي عليها أبعدتني جانبا حتى تكمل سيرها ، وهي تخطو تلك الخطوات مبتعدة ، رحت أفكر في حجم المعاناة التي يحملها جسدها الهزيل ، لم استطع تخيلها بين يدي رجل آخر ، كان كابوسا بالنسبة لي ، وبقدر ما زاد احترامي لها تلك الساعة ، لعظيم تضحيتها ، إلا أنني شعرت أنها ملكيتي الخاصة ، و ليس بسيء هذا الشعور ، إنما العيب هو تحويله إلى سلوك ، لطالما كانت تربيتنا لأبنائنا تأتي على مستوى جاهل يتمثل في : أنه لا يجب أن نشعر بتلك الاحاسيس الخسيسة و الدنيئة ، في حين لا يملك الإنسان من هذا مهربا و لابد له في ساعات كثيرة من احاسيس سيئة سلبية تجتاحه ، هذا وإلا لن يسمى إنسانا ، كذا لن يسمى إنسانا إن قام بتحويل هذه الاحاسيس السلبية الى سلوك و فعل حقيقي واقعي ، أعترف أني شعرت بالحسد و الكره و الحقد اتجاه اشخاص كثيرين و منهم من كانوا أصحاب محبة عظيمة ، لكنني لم أجعل شعوري بالحسد يرتفع إلى مرتبة سلوك الحسد و القيام بأفعال تعبر عن حسد و ضغينة ، إنه ليس شعوري بالحسد ما يجعلني أشعر بالعار ، كلنا نملك ذلك بصفة أو بأخرى ، إنما السلوك هو الذي منه يأتي العار ، هكذا أبرر أنا شعوري بأن كاتيا ملكيتي الخاصة ، لكن سلوكي يختلف ، و هكذا أنا إنسان . . . بعد أن خطت تلك الخطوات القصيرة و المبعثرة ، التي تبرز بوضوح صفة التردد ، كأنها تفكر في حجم الخذلان الذي سيأتي من جراء هذا العمل ان علم بها المجتمع ، حينذاك استدركت المسافة الوسيطة بيننا مقترحا عليها العزوف عن الأمر شريطة أن أتولى أنا دفع نفس المستحقات التي يعرضها الكباري من غير الانخراط في أي علاقة محرمة ، لا معي ولا مع أي رجل آخر ، و ليت الامر توقف عند ذلك الحد ، حيث بالاضافة الى مستحقات كاتيا التي صارت علي فريضة ، هناك مستحقات الكباري نفسه التي يجب أن ادفعها لهم بما أننا نشغل غرفة من غرفهم ، ولم يكن الاجتماع في منزل الدعارة محسوبا ضمن خيارات أخرى ، كان هو البديل الوحيد ، و ذلك لاسباب شخصية لن أطول بذكرها . المهم أن الأمر كان جد عسير علي في محاولة لجمع كل ذلك المال ، حفاظا على شرف كاتيا و شرف عائلتها من التدنس بأوحال القذارة ، و لأنه ليس من القيم جلب شرف بوسيلة غير شريفة ، هذا ألغى عني الافعال مثل السرقة و الابتزاز و القيام بالاعمال غير المشروعة عموما ، الشيء الوحيد الذي كان يدفعني للاستمرار هو الأمل في انتهاء الدين ، كان ذلك الدين دنانير محسوبة ، وكل ماهو محسوب لابد له من خاتمة ، حتى أنني عملت جدولا زمنيا يقول في توقعاته بقضاء الأموال المستحقة ضمن مسافة زمنية تقدر بسنتين و ثمانية أشهر ، لكن توقعاتي منيت بالفشل ساعة القبض علي بعد أن رهنت معطفي ...

في المحكمة :

بعد عملية التفتيش داخل بيت الدعارة ، قامت السلطات المعنية باخراج الجميع ممن كانوا هناك ، سواءا من كانوا بصفة المتهم أو بصفة المجبر على تلك الأفعال ، على كل حال هذا هو التقسيم الذي جاء في التقرير المكتوب ، ثم تم التداول في قضية مؤسس الكباري و نسبه |لى روجين أحد أثرياء المنطقة ، روجين الذي لم يكن متوافرا في المنطقة و بقي الطلب عليه مجرد حبر على ورق من غير تحرك من طرف السلطات ، فيما يخص البقية فجعلوهم قسمان كذلك : قسم هم المديرين للكباري و هؤلاء تم منحهم عقوبة اقلها خمسة عشر سنة ، مع اختلاف في الحكم بقدر السلطة المتوفرة للشخص ، ثم قسم المستعملين للكباري ، هؤلاء من أمثالي مع الفرق المعلوم طبعا ، و هؤلاء اختلف الحكم عليهم بقدر ترددهم على المحل كما بقدر المال الممنوح من طرفهم ، كما تم اضافة الجرائم السابقة التي بقيت محجوزة في السجلات ، فيما يخص الاشخاص الذين تمكنوا من الفرار في أمور سابقة ، و العجيب أني من بين الجميع قد نلت عقوبة مقدرة بعشرين سنة ، فكيف حدث ذلك ؟ :

قبل محاكمتي بوقت قصير ، كانت كاتيا مع أبيها عند القاضي ماثيو ، القس الذي أشرت إليه سابقا ، و بعد ان اتفقوا على اظهار كاتيا في صورة البريئة التي أجبرتها أنا على دخول دار الدعارة ، نسيت أن اقول أن من اطلع السلطات على مكان الكباري هو كاتيا نفسها ، حيث اتفقت مع أبيها في ساعة مبكرة على التوجه عند القس ماثيو و اطلاعه بكل التفاصيل اللازمة ، دعني أقل التفاصيل المشوهة ، فقد أخبرت كاتيا القس ماثيو انه لكي تطلعه بمكان بيت الدعارة ، لابد عليه من ان يسايرها في تصوير قصة جديدة مخالفة للحقيقية ، فطلبت منه أولا أن يمحي اسمها من الغرفة « الساحرة كاتيا » ، ثانيا أن يقول بأنني قد أخذتها لذلك المحل و هي مكرهة تحت الإجبار و العنف ، ثالثا أن يتزوجها و يساعدها في التخلص من ديون أبيها مع تعويض تقدمه لها السلطات . . . وافق القس ماثيو على الخديعة رغم علمه بالقصة الصحيحة ، وفي تلك الليلة قضى وقته مع كاتيا العذراء على فراش من حرير من غير قطعة قماش تحول بينهما ، في حين كنت أنا اتململ على حصى الزنزانة ، اعارك الأرق ، لعلي احظى بغفلة تريح عيناي لبرهة ، فقط لبرهة . . .
جاء وقت المحاكمة و أنا كلي ثقة ببراءتي للدليل الدامغ الذي كنت انتظر الفرصة السانحة للاستدلال به ، و بعد ان اخذ كل شخص مكانه ، و حضرت كاتيا مع أبيها بصحة محامي رفيع كان يعرف بــ : « راسبوتين » . كان هذا المحامي ممن لهم صيت ذائع في الاوساط لانتصاراته الساحقة و المتتالية ، يقال انه اغلق كثيرا من القضايا في مدة ظرفية قصيرة جدا ، قال بعضهم خمسة وأربعين دقيقة ، لكنها المبالغة أظن ، و نحن أطفال نقفز لنتنافس ، كنا نجعل مقدار القفزة مضروبا مرتين ليتفاخر أحدنا كذبا وزورا ، بل ثلاث مرات أحيانا ، و المجتمع يملك نفس عقلية الطفل هذه ، أحيانا أسخف بكثير ، لا يهم في الأخير ، فراسبوتين هذا يبقى خطيرا علي ، خصوصا أن السلطات لم تجعل لي أي محامي ، حيث رأت الكنيسة بقيادة القس ماثيو أن الزنا جريمة لا يدافع عنها إلا شخص مطرود من رحمة الرب، المجتمع كله حتى من مثقفي فن المحاماة كانوا يهابون القس ماثيو لسلطته النفسية على الشعب ، هكذا بقيت وحيدا ، اتلقى سهام راسبوتين عاريا من كل درع ، خصوصا حينما راح يسرد التهم الموجهة إلي :
« الابتزاز ، الاغتصاب ، التواطئ على الفساد الاجتماعي . . . الخ ... » . . . شعوري بالصدمة تحت وطأة أقوال المحامي جعلتني اتهاوى على الارض مباشرة ، غير مصدق تلك الكلمات التي كانت تصدر عنه ، وبعد ان اعادوا إلي توازني مع كأس من الماء المالح الذي لم يجدوا غيره للأسف ، أو ربما كان مقصودا ، لا ادري في واقع الأمر ، فقد انتبهت مباشرة الى كاتيا التي كانت مخفضة رأسها و الدموع تنهمر منها ، تكاد تظهر الأرض مبتلة من مسافتي عنها ، و لملوحة الماء الذي شربته ، اعتقدت أنني أتذوق دموع حبيبتي كاتيا ، كأقدس موقف تجاوز أبعاد المكان و الزمان ، لاشعر بتلك اللحظة ، صدقا و حقا لا اعرف أحمقا أكبر مني ، ثم استأنف المحامي كلامه :
« القضية لا تحتاج إلى تعمق أيها السادة ، إنه يمكننا انهاؤها بسرعة حتى نلحق بالغداء جميعا . . يمكنكم النظر الى هيئة هذا الرجل .. ربما ليس لائقا أن اقول رجلا ، لنكتفي بهذا الكائن . . ملابس ممزقة . . نعال مقطعة بأصابع ستة . . لا يملك حتى معطفا ، هل تصدقون ؟ . . هاه لا يملك معطفا ومع ذلك له المال لافتعال الدعارة . . إن المسألة تنتهي بطرح سؤال وحيد : هل دفع هذا ..هذا الكائن .. هل دفع هذا الكائن المال إلى إدارة بيت الدعارة ؟.. إن الإجابة بكلمة : " نعم " تكفي في إدانة الرجل.. اقصد الكائن ..» .
إن دفعي لمستحقات الكباري أورطني ورطة ضخمة لا سلاك منها ، فقد اعترفت ليزا أنني دفعت لها المستحقات اللازمة طيلة سنة كاملة ، كل يوم ثلاثاء بفارق أسبوعين ، و أنني كنت الوحيد الذي تسمح له كاتيا بالدخول لغرفتها ، هنا استغليت شهادة ليزا باعترافها بوجود غرفة كاتيا تحت اسم « الساحرة كاتيا » ، لكن سرعان ما قوبلت حجتي بنكران شديد ، حيث هدمها راسبوتين في تصريح واحد ذكر فيه : « أن امرأة في جمال كاتيا اذا كانت تبحث عن المال ، فلماذا تسمح فقط لرجل واحد بالدخول عليها ، و مرة فقط خلال اسبوعين ، أليس هذا دالا أكثر على انها كانت مجبرة من طرف الرجل ذاته . . ان التفسير العقلاني هو أنها كانت محجوزة من طرف الرجل اضافة الى أن ما كان يدفعه من مال يعتبر شيئا ضئيلا ، قولوا لي أيها السادة : لماذا تضيع امرأة ساحرة و فاتنة مثل كاتيا فرصة معاشرة عشرات الرجال لتنال آلاف الدنانير ، مقابل معاشرة فقير أعرج لا يدفع عشر معشار ذاك المبلغ ؟؟ . . . إلا اذا كانت مجبرة و مكرهة . . هاه ؟ . »
لا اظن أن لجنة المحلفين تلك كانت تنصت لكلماتي المبعثرة الشاذة على الاطلاق ، في حين كان راسبوتين يتسيد الساحة شيئا فشيئا ، وكلما مر الوقت كانت الكفة تميل إليه ، لم املك بيني وبين نفسي الا ان ادعوا للرب ان ينقذني ، « ولكن كيف ينقذني ؟ » هو سؤال طرحته على نفسي ، ولجهلي بالاجابة أبدلته بسؤال ثان : « هل يمكن أن يتعذب المرء فقط لنبل نفسه ؟ ». . . يبدوا أن الإجابة هي نعم ، حيث بعد تدخل المحامي ، لم أجد بدا من مراقبة كاتيا ، حتى تلاقت أعيننا في كسر من الثانية ، لما كانت مخفية بصرها في الأرض ، إلا لحظات سريعة خاطفة تنظر فيها لحالتي ، و من شدة تركيزي معها ، في انتظار ذلك الكسر من الثانية الذي ترفع فيه طرفها ، غفلت عن تصريح القاضي عني إذا كان هناك شيء ما لاقوله ، حتى تلاه صراخ عال كسر تأملي ذاك ، فلملمت نفسي ، احاول ان استعمل مفرداتي المتواضعة لخلق خطاب مؤثر ، يتجاوز الاذان إلى القلوب ، قلت :
« إنني يا كاتيا ما ساعدتك طمعا في حبك لي ، لن أغفر لنفسي اذا اعتقدت أنك من نصيبي ، فجمالك مكانه القصور و المحافل الضخمة ، إنما صنعت ما صنعت بدافع العاطفة الإنسانية التي أملكها ، وبهذا يمكنني أن اقول لك : أنه لو لم تكوني أنت في ذلك الموقف ، وكانت ليزا أو أي إنسان آخر ، سأقوم بنفس الصنيع ، واسلك ذات المسلك دفاعا عن الشرف و القيمة . . . أحبتتك ومازلت أحبك الآن بعد صنيعك هذا ، أنت مجبرة و تحتاجين لانقاذ عائلتك و السبل مسدودة ، أنا أتفهم فأرجوك اسمعي مني هذه الكلمات ...» و قبل أن أكمل كلامي قاطعني القاضي و القس ماثيو بحجة أن كلامي مجرد سرد عاطفي ليس فيه رائحة الدليل التي يمكن ان تنفعني لتحدد براءتي ، أو على الأقل لتقلل من سنين عقوبتي شيئا كثيرا او يسيرا ، حينذاك نطق احد الحاضرين و قد كان شابا صغيرا ، بارزة عليه ملامح المرض و التعب ، من لباسه يظهر مباشرة قدر الفقر و المعاناة التي لديه . قال الشاب : « إنه زعم أن فعله كان من اجل الشرف ، و عليه اذا كانت الفتاة مازالت عذراءا فهو بريء ، فانه لم يثبت على السيدة كاتيا فيما أظن أي تحرش أو محاولة غير هذه المحاولة كما أنها لم تتزوج ..» . . . في تلك اللحظة علت الأصوات في المحكمة متظاهرة ضد غفلة الجهاز القضائي عن مثل هذه الحقيقة المهمة و التي ستحدد مصيرا حتميا ، إلا انني لم اغفل عنها بل كانت دليلي القاطع في المسألة و الذي علمت أنه لن يجدي نفعا بعد الأحداث التي عقبت منذ البداية ، لكن القاضي و القس ماثيو ادعى الاحاطة بهذه الحقيقة وأنه كان ينتظر فقط اللحظة المناسبة ، حيث استدعى مجموعة من الممرضات كي يشرفن على فحص ومعاينة كاتيا ، وكان الأمر متوقعا ، فقد جاءت النتيجة على أن كاتيا فقدت عذريتها ، نعم فقدت عذريتها على سرير من حرير ، مما أفقدني دليلي الوحيد في اثبات براءتي ، ثم بعد هذا التقرير مباشرة أعطى القاضي الفرصة للجنة المحلفين بالتشاور لاتخاذ قرار نهائي . . .

لجنة المحلفين :

كان عدد اللجنة ثلاثة اشخاص فقط ، فالمحكمة لم ترى بدا من تضييع الجهود في قضية مثل هذه القضية ، اضافة الى أن شخصية المتهم وهو أنا ليست التي تستحق مثل هذا التعقيد في كشف خباياها و دسائسها ، أما الأول من بين الثلاثة فقد كان يملك تذاكر لحضور مسرحية غوغل « المفتش العام » الممثلة في المساء ، لذلك قام بادلاء دلوه سريعا أنني مذنب ، الثاني كان أحد القساوسة المتدربين على يد القاضي ماثيو ، وحتى ينال منصبه لم يستغرق في حكمه أكثر من صاحبه الاول ، أنني مذنب وعار على المجتمع ، قد يستغرب أحد من إلمامي بكل هذه التفاصيل البعيدة عني ، حسنا يمكنني القول أن ماثيو أعطاني زيارة في السجن معترفا لي بكل شيء ، و كم ركز على نقطة زاوجه من كاتيا حتى يغيظني ، لا يهم فقد فات الأوان الآن ، أما فيما يخص الثالث فقد قيل لي أنه حكم ببراءتي ، ولذلك تم استبداله باحدى الشخصيات التي تكره فعلة الزنا ، وكم شددوا على تشويه صورتي أمام هذا الثالث الجديد ، مما جعل نهايتي محتومة لا شك ، هكذا صدر القرار بعشرين سنة سجنا . . .

وصيتي :

أنا الآن ابن الخامسة و الأربعين ، لا اطيق مواصلة يوم زائد في هذه الزنزانة المتعفنة ، و لأني اكتب هذه الكلمات على جدار الزنزانة فلأني مقبل على الانتحار ، اعذروني كوني سأتعب عيونكم الرقيقة من متابعة حروفي الخشنة ، خطوات و سينتهي العالم مني . . . إن الكتاب المقدس يقول أن نزع الحياة من نفسي ليس حقا لي ، لكني أخالف هذا بدافع الحس الفطري الذي أملكه وهو كتاب مقدس بحياله ، حيث أرى أن الإنسان يملك الحق في نزع حياته الخاصة فقط اذا أدى الرسالة التي عليه ، وقد أديت الرسالة التي علي بقدر من الرب نفسه ، إن ما حدث لي لا يمكن ان يكون إلا صنعا من الرب ، اؤمن بهذا لأن البديل هو أن المرأة قادرة على أن تخادع حتى عين الله التي ترى كل شيء ، و لأني أديت رسالتي فأنا سعيد مملوء بالغبطة و البهجة ، إليكم التوضيح يا إدارة السجن أولا ، و يا ابناء نوفغورود تاليا :
لنفترض أنني عشت ، هذا يعني فقط ذلك الإنسان من غير عمل ، ومن غير ملابس تكفيه ليكمل فصل الشتاء البارد ، إنه لن تكون لي في الحياة إلا الصراعات من اجل البقاء و من اجل لقمة العيش ، التي ما اكاد اظفر منها في يومي إلا شيئا قليلا اذا تغديت به لم يكن لي عشاء ، واذا تعشيت به لم يكن عندي غداء ، لكني بالمقلب الذي صنعته لي كاتيا و القس ماثيو تحررت من كل ذلك ، بمقلب كاتيا تحررت من الجوع و العراء ، لقد صرت قديسا ، فبعد دخولي السجن لقد انتهت ديون عائلة كاتيا ، بل صاروا في بحبوحة مالية جميعهم ، استطاعت كاتيا بالأموال التي عوضتها لها السلطات ، كذا ثروة ماثيو الهائلة ، أن تقضي جميع الديون ، وأن تعتني بعائلة عمها الميت من زوجته وأولاده ، فأدخلتهم المدارس النظامية ، و ألبستهم أفخر الثياب ، بل حتى أنها اشترت للصغيرة آنا ألعابا كثيرة ، أدخلت لقلبها الكثير من السرور ، إنني أقبل أن ادخل السجن مرات و مرات على أن ارى دمعة واحدة تسقط من عين طفل صغير متألم ، يجب على الاطفال ان يبتسموا دوما ، هم هدايا الرب إلينا . . . ليس هذا فقط ، بل استطاعت كاتيا أن تجعل لأبيها خادمة تعتني به في منزله ، تعطيه مقادير الدواء في وقتها ، تلبسه الثياب النظيفة مرة كل يومين ، حتى إنها تقرأ له شيئا من القصص الصغيرة وهو جالس يستلذ بشرب الشاي و الحليب ، بل ماهو أجمل من ذلك ، فقد رزقت كاتيا بطفل صغير أعطته اسمي ، نعم اسمي ليفين هو اسم طفلها الصغير ، أليس هذا كافيا ومشرفا لي . . بلى . . بلى . . إن دخولي السجن كان جالبا لكل هذه السعادة ، السعادة لكاتيا و طفلها ليفين ، السعادة للخادمة التي كانت عاطلة عن العمل حتى صارت عند أب كاتيا ، السعادة لعائلة عم كاتيا من الزوجة و الأولاد جميعا ، من المدارس و الألعاب و السفر . . . الخ . . . ما كنت لأتمنى حياة أفضل من هذه التي عندي ، فلم أكن لأعيش عيشة تساعد كاتيا و عائلتها ، أقصى مبلغي أن أعمل عملا قليل الدخل و المردود ، لا يكفي قوتنا اليومي ، ثم ماذا ؟ . . . سيتم مصادرة بيت كاتيا و يرمى أبوها في الشارع ، غالبا ما ستتخذ هنا كاتيا سبيل الدعارة حقا و يذهب شرفها و شرفي معها ، نصير لقمة سائغة على أفواه الناس ، ثم تضيع عائلة عم كاتيا و نخسر البنين و البنات ، ويتشتت شملنا . . إن الرب أنقذ الجميع بادخالي السجن ، شكرا أيها الرب ، شكرا أيها الرب ، أنا الآن أؤمن بك وبحكمتك أكثر من أي وقت مضى ، إنني أريد بهذا أن اترك جوابا فقط لمن كان يحس ببراءتي أو يشك فيها على الاقل ، ذلك أن الحقيقة لا يمكن أن تطمس للأبد ولابد من ظهورها و سطوعها ، اقول لهؤلاء : لا تنخدعوا بوهم القيمة و الحقيقة أن فعل كاتيا كان مخطئا بشدة . . . « لا » اقول لكم لهذا الاعتقاد ، بل فعلها انقذ حياة الكثيرين ، و حياتي هي إحدى حياة هؤلاء الكثيرين ، بها عرفت حكمة الرب حقا . . فابلغوها أنني مشتاق إليها ، وأنني أحبها أكثر من أي وقت مضى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل سقط الإنسان فعلا!!!0
سيدة الظل ( 2017 / 7 / 23 - 15:16 )
لن نتحرر مالم نشنق الطغاة بأمعاء رجال الدين
كلهم ماتوا و فطسوا...إلا أنت سيدي الإنسان...أنت من سيبقى في عين الشمس و ضمير الله..الحاضر الغائب0
سلامي لروحك أينما كنت...يا ليتني استطيع أن أضمك لصدري و أبكي معك هذا العصر الملعون..عصر سقوط الإنسان..و سقوط الإنسانية...فهل بعد ذلك نستطيع أن نلوم إله نيتشه أم أن الإله قد إنتحر على عتبة بيوت الله؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أبحث عن إنسان...هل تسمح لي أن أضمك لصدري؟؟‘

اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية