الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الانتقال الحضاري والشباب العربي

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2017 / 8 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


غيرُ خافٍ على أحدٍ صعوبة المرحلة المعاصرة التي يمر بها جيل الشباب العربي عامة والعراقي خاصة , فقد تسارعت خطى التغيير الثقافي في العالم العربي بسبب التداخل المعلوماتي والتقارب المكاني بفعل الميديا المعاصرة بين الشرق والغرب بشكل لافت في السنوات الأخيرة حتى أصبح الغريب مألوفا والبعيد قريبا بل حاضرا في كل بيت ومقهى مما انعكس بصورة جلية على السلوكيات الاجتماعية للشباب داخل الأسرة وخارجها , فبعد أن كانت سلطة الوالدين تتحكم في أدارة شخصيات ابنائهم معرفيا وسلوكيا في الأمس القريب بات من المتعذر اليوم أن ينقاد الشاب إلى السلطة ذاتها في زمن سهّلَ الانفلات من سلطة الأب وتعددت فيه السلطات وازداد أغراؤها المثير , وتنوعت طرق الاقناع وفنونه , فبعد أن كان الجيل السابق يُربّى على وفق مبدأ الترهيب والترغيب , ويُوجَّه بحسب ضوابط المسموحات الواجبة والممنوعات المحظورة أصبح الآن أمام خيارات لا حصرَ لها ؛ يمكن له أن يتصرف بها كيف شاء .
إن مساحة الحرية في قنوات الاتصال وشبكات الأنترنيت هذا اليوم لم تقف عند حدٍ معين في عرض أي شيء تقريبا , فقد تعددت المواقع وتكاثرت وأخذت تتبارى فيما بينها في تقديم كل ما هو مغرٍ ومحبّب من قبل الشباب وغيرهم , فهناك مواقع تخصصت لعرض شتى أنواع الممارسات الجنسية التي يمارسها الرجال مع النساء أو تلك التي تمارس بين الرجال أنفسهم أو بين النساء انفسهن أو بين الانسان والحيوان , أو بين الكبار والصغار , وتعدى الأمر إلى عرض افلام جنسية بين المحارم أو عرض الافلام المقززة , كل ذلك يعرض بطريقة التصوير الحقيقي أو افلام الكارتون أو القصص المكتوبة وبشكل يمكن الوصول اليه بطريقة بسيطة جدا , فضلا على مئات المواقع التي تعرض ما يدعو الى التشكيك في القيم أو الالحاد أو النسبية الاخلاقية , ومئات غيرها تعرض ما هو مخيف ومرعب من حوادث ووقائع بما يتعلق بعالم السحر والجن والرعب والحوادث الطبيعية والبشرية المفزعة .
أن هذه الممنوعات التي كانت في السابق مسكوتٌ عنها أصبحت اليوم في حوزة كل شاب تقريبا بمجرد أن يمتلك نقالا أو حاسوبا عاديا الأمر الذي جعله أمام عوالم من الحرية لا حدّ لها ولا رقيب معها على تصرفاته , وبذلك فقد ضعفت سلطة الرقيب , وتوارى الخوف الذي كان يزلزل دواخله عند الاقتراب من المدنس أو المحرم , بل أن شاب اليوم لم يعد يواجه صعوبة رقابية تمنعه من ممارسة أي فعل لم يستطع أن يُمارسه سابقا هو أو غيره فكل الاشياء الآن يمكن أن تمارس بطريقة أو أخرى أو على الاقل أن تشاهد أو تقرأ , فقد أصبحت اغلب السلوكيات مباحة ومعروضة أمامه يمكن أن يمارسها بمعزل عن الرقيب , مما أضعف عنده الوازع السلطوي الديني أو الاخلاقي ــ على السواء ــ وبذلك أصبحت مسائل الحلال والحرام مسألة ترتبط باختياراته الشخصية فليس هناك سلطة تقررها كما كان في السابق , وأصبح الولوج إلى عوالم المدنس والممنوع غير مخيف ولا يُشعر بتأنيب الضمير طالما أن هناك آلاف المواقع والفديوات التي تعرض افلاما وسلوكيات يمارسها شباب وشابات وأناس آخرين من مختلف الاعمار ومن شتى الشعوب والحضارات دون خوف أو وجل أو تحسّب لأي وازع ودون خوف من أي رادع في حين كانت تلك الممارسات بالنسبة للشاب العربي أو المسلم قبل سنوات قليلة مما لا يجوز التطرق لها ولو بالإشارة .
أن الأمر الذي حصل في السنوات الأخيرة كان محصلة طبيعية للمتغيرات العالمية وافرازا استتباعيا لمخاضات ما بعد الحداثة وثورة المابعديات التي تشظت تمثلاتها لتشمل أوجه الحياة أغلبها والتي جعلت المجتمعات التقليدية تعيش حالة من الازدواجية لم تشهد مثيلا لها من قبل , فإذا كانت ما بعد الحداثة قد جاءت بقيم التمرد والشك ورفض السلطات جميعا فإن ذلك قد وجد ــ نوعا ما ــ ترحيبا في مجتمعات الغرب التي تتميز بمجال واسع من الحرية أساسا على خلاف مما عليه الأمر في مجتمعاتنا العربية والمسلمة فقد بات من المتعذر أن يمر بسهولة وسلام , وهذا ما نجده واضحا في احتدام الصراع الثقافي والديني بين الأجيال , والارباك الحاصل في النظر الى القيم القارّة .
ونتيجة لما تقدم آل وضع الناس في هذه المجتمعات إلى ما يشبه الصراع بين قيم لمنظومتين أخذت الهوة تتسع بينهما بمرور الأيام , فهناك جيل يؤمن بالتغيير السريع وقيم النسبية والفردية العالية وهو جيل الشباب أو جيل المتأثرين بمفاهيم التطور والتغيير وتمثلات ما بعد الحداثة , وجيل آخر يرى وجوب الحفاظ على الهويات المحلية بحجة أننا لا يمكن أن ننسلخ عن جلودنا البتة .
وبما أن وسائل الاتصال اصبحت تتحكم في إدارة دفة الثقافة المعاصرة بشكل كبير بسبب انتشارها الهائل وسطوتها الكبيرة جدا فقد ولدت بسطوتها تلك ثقافة جديدة ومبتكرة لم تكن تدور في خلد أحد تتمثل في ردم الهوة بين العالم الافتراضي والواقع فقد باتت الأحداث تصنع إعلاميا وتروّج وتؤثر في المتلقين قبل وقوعها فعليا .
ومن جانب آخر يمكن القول أن من سمات المرحلة المعاصرة التي انعكست على تصرفات الشباب ذلك التقارب السلوكي في المظهر والملبس والحركات نتيجة التقارب المكاني التي أحدثته وسائل الاتصال , فلم تعد سلوكيات الشاب في امريكا أو اليابان أو أية بقعة من بقاع الأرض بخافية على الشاب العربي أو الشاب المسلم , فقد أتاحت غرف الاتصال الالكترونية وتطبيقات السكايب والماسنجر والفايبر والفيس وتويتر وغيرها فرصا كبيرة للشباب بالالتقاء معا والتحاور والتفاهم وجها لوجه وبصورة مباشرة مما أسهم في تقارب الأمزجة وتشابه السلوكيات بينهم .
ومع ما سببه هذا التقارب السلوكي بين الشباب في مختلف الأمكنة من الأرض من شيوع مفاهيم جديدة مثل تقبّل الآخر والتسامح إلا أنه سبب إرباكا كبيرا للأسر والعوائل المحافظة والمعلمين والمدرسين واساتذة الجامعات والمربين عموما فقد باتت تلك الجهات في وضع لا تحسد عليه وهي تفقد سيطرتها ــ شيئا فشيئا ــ في فرض القيم التي تسعى إلى ترسيخها في نفوس ابنائها .
وعلى الرغم من الفوائد التي لا تعد التي تحصّلت نتيجة مشاعية وسائل الاتصال وانتشار ادوات الحصول على المعرفة والمعلومات فإننا في الوقت نفسه نلاحظ أن هذه المشاعية سببت هزة كبيرة في ضمائر الشعوب لا سيما انها اتاحت التداخل بين الحضارات والقيم وفتحت الحواجز بين مختلف الأديان والافكار حتى بات من الصعوبة التماس الحقيقة في تيار أو دين دون غيره , فكل الافكار أصبحت على خط واحد على السواء بالنسبة للشاب مما تسبب في أحوال كثيرة في عزوفه عن القطع أو الجزم بصحة أي فكرة أو مذهب أو بطلانها , لذلك نجد كثيرا من الشباب اليوم يميلون إلى ما يمكن تسميته بالارتباك الثقافي التي يتمثل بالفوضوية العقيدية أو الإلحاد الفكري أو اللا أدرية الشفافة , أو التطرف الديني الذي يمثل ردة فعل تتخذ من التاريخ والموروث سلاحا في مواجهة كل ما من شأنه أن يتعارض مع ذلك الموروث , مع أننا ــ في الوقت ذاته ــ لا نعدم وجود اعداد كبيرة من الشباب يلتزمون الطرف الأوسط من المعادلة الذي يتمثل في الاعتدال .
لكن أخطر ما في الأمر ميل الشباب إلى العنف , ويمكن لنا بسهولة ملاحظة ذلك من خلال ازدياد نسب الجريمة بكل انواعها : الأخلاقية والأسرية والاجتماعية , وزيادة أعداد الشباب المنظمين إلى المنظمات الارهابية .
ومع أن العنف ليس جديدا ولا هو من مستحدثات العصر فقد عرف الانسان العنف البدني والجنسي والنفسي منذ أقدم العصور بوصفه تمثلا من تمثلات القوة وتعبيرا عن الرغبة والتسلط والارغام إلا أن الاسباب المؤدية للعنف اليوم قد ازدادت وتنوعت مما أدى إلى ازدياد معدلات العنف عند الشباب , فبالإضافة الى الأسباب القديمة برزت إلى الوجود أسباب أخرى تمثلت في انتشار البطالة , أو البطالة المقنعة , وتوسع الفجوة بين الشباب والكبار أو مؤسسات السلطة التقليدية مما جعل الشاب يعيش حالة غربة عن واقعه , فضلا على ضعف الوازع الديني والاخلاقي كما مرَّ في اعلاه , ولا يمكن نسيان دور السياسة في ازدياد نسب معدلات العنف من خلال تغيير مراكز القوى السياسية وتفرد الولايات المتحدة في قيادة العالم وظهور التوجهات المعادية لسياستها متمثلة في سياسيات عدد من الدول والمنظمات .
ويمكن أن نضيف إلى الاسباب المتقدمة سببا آخر يرتبط بالحالة العراقية تحديدا يتمثل في بروز القبائلية والعشائرية والمناطقية الأمر الذي جرّ إلى شيوع حالات الفتوة وانتشار زمر الشقاوات والعصابات الشبابية , كل ذلك كان نتيجة ضعف القانون وسهولة الحصول على السلاح والمخدرات وتلاشي هيبة الدولة وشيوع الفساد في مفاصلها , وصعود عدد من الفاسدين الى مناصب مهمة في الدولة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع