الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة : غيلم زفزاف

محمد بقوح

2017 / 8 / 11
الادب والفن


الموسم خريف والوقت مساء. "موج البحر ليس على عادته"، قالها كما لو كان يكلم أحدا إلى جانبه. انحنى بظهره المقوس قليلا. وضع قصبة الصيد الطويلة على صخرة خشنة مستوية. أخرج من حقيبته التي كان يحملها على كتفه اليسرى غيلمه المفضل: يسميه (غيلم زفزاف). حطه بجواره، قرب الصخرة المكسوة بالمحار الأسود، ثم وضع أمامه بعضا من نبات الخصّ الأخضر الطازج. "أنت الآن في الأمان وعلى ما يرام.. يا صديقي العزيز. مرحبا بك في عوالم الصيد والبحر والأشياء الأخرى.."، نبس بّا العربي، ويداه الصلبتان تتحركان ببطء، تخرجان ما تبقى من أدوات الصيد من حقيبته الجلدية. بدأ الغيلم ينظر إليه بعينين حزينتين، غير مهتم بنبات الخصّ الأخضر الموضوع أمامه. فكر بّا العربي سارحا بنظره الثاقب في أفق البحر الأزرق البعيد، حيث يعانق حدّه حمرة قوس الشمس الآخذة في السقوط وراء شبه جزيرة القصر الملكي المحاذية لمصب وادي سوس. أخرج قنينة سائله المفضل. يسميها "الفرّاكة". "وبعدها يأتي الطوفان"، قال، وهو يسكب الكأس الحمراء الأولى. أفرغها دفعة واحدة في جوفه. انتشى، ثم فكر في زمن التقاعد الذي ينتظره بعد أشهر قليلة من الآن. تأمل، ثم أعاد التفكير في أمر تقاعده القادم: "كيف ستكون أيامي وحياتي بعد زمن العمل الطويل ؟". قيل له أن لحظات التقاعد في بلده، والذين هم في وضعيته الإدارية، لا تختلف كثيرا عن لحظات البطالة البئيسة. يتدارك ناظرا إلى سرب طير النورس يحلق في السماء، مفكرا: "لن أحس بالبطالة مادامت معي هذه القصبة. مؤنستي العزيزة !!". أشعل محتوى شَقْفِه الأول. امتصّ النثرة الأولى. فانتشى للحظات، سافرت به إلى ما وراء التقاء زرقة ماء البحر بجزر السحاب. هذه أول مرة يستعمل فيها "سبسيَه"1 البني الجديد، بعد سقوط "السّبسي" القديم بين الصخور الضخمة لنفس المكان الذي يوجد فيه الآن. كان يريد أن يتخلص منه بأية طريقة. تعالت أشرطة الدخان أمام عينيه إلى السماء. فشرد قليلا.. ثم أطال في الشرود والتفكير..
في مساء الساعة السابعة، غالبا ما تشهد هذه المنطقة مدّ البحر الذي يعرفه بّا العربي جيدا. المدّ الكاسح الذي يزبد موج البحر عند قدميه، حيث يكثر تلاطم الموج بحافة الصخور السوداء المثقلة بتشابك المحار والطحالب. لماذا تبدو اليوم هيئة البحر وأمواجه هادئة وغير عادية ؟
البحر ساكن وممتد عبر الأفق، وموجه يكاد يكون غائبا وغير مرئي. وأسراب البط الذي لا يخالف موعده، أين رحل ولماذا تخلف عن موعد اليوم ؟ تبدو له من بعيد قامات طيور البلارج الناصع البياض، ذي السيقان الطويلة كالخيزران. لأول مرة يرى فيها البلارج على سطح أرضية مياه ضفة البحر الضحلة، في أقصى المنطقة المعشوشبة الجنوبية. ثمّة تغيرات لاحظها بّا العربي في البحر ومحيطه هذا المساء، لم يجد لها تفسيرا مقنعا. حوّل بصره إلى الصخور الضخمة بجواره. بحث بعينيه عن رفيقه: (غيلم زفزاف) الذي ابتعد. يراه هناك على بعد أمتار، منشغلا بسرطان البحر. يحاول الكائن البحري جاهدا تسلق ظهر (غيلم زفزاف) الذي يقاومه. لكن سرطان البحر يسقط على أرضية الصخر الخشن. فيعاود التسلق من جديد ظهر الغيلم الذي جمد في مكانه. كان التسلق هذه المرة من الأمام وليس من الوراء. يمدّ السرطان بمنكبيه الطويلين المزغبين على رأس الغيلم الذي سحبه نحو داخل غشاء جسده الصلب. بدا (غيلم زفزاف) في هذه الأثناء كدبّابة حرب تتأهب لإرسال قذيفة نارية. "لا تفعلها يا صديقي الحكيم". قالها بّا العربي مبتسما لمشهد العراك الذي سيبدأ بعد قليل بين (غيلم زفزاف) وسرطان البحر، بينما تابعت عيناه البحث عن طعم عضوي لصنارته داخل الحقيبة. لم يجد شيئا يذكر سوى سمكة نتنة إلى درجة التعفن. "البحر الذي يطعمني السمك الطازج لا بد أن أمده أنا الآخر بطعم أنيق في مستوى كرمه". هيأ بّا العربي لوازم الصيد واقفا. أسند القصبة أولا إلى صخرة كبيرة جدا. ثم سحب من الجرار خيطها الدقيق إلى درجة مكنته من عقد الشصّ في رأس الخيط، بعد أن جعله يخترق ثقب وسط اللولب الرصاصي الصغير.
عدّل قبعته الشمسية الواسعة الأطراف. نظر إلى مشهد الغروب الجميل في أفق ملتقى زرقة البحر وصفحة السماء الغائمة. جلس على كرسي خزفي لا يفارقه عند كل عملية صيد. بعد ذلك، قام بإلقاء الشصّ المربوط بالقصبة الطويلة بعيدا إلى مياه البحر، بعد أن ثبت فيه الطعم الطازج المناسب الذي كان معه. بعد خمس دقائق أمضاها دون أن يحسّ بّا العربي بأدنى حركة. كأنها توقف فيها الزمن. شرد للحظات. أدخل مقبض قصبته الملفوف بقطعة ثوب قطني مزركش، والمصاص لعرق اليدين، في ثقب حجري محفور على ظهر صخرة متوسطة الحجم. تأكد من التثبيت الجيد للقصبة في ثقب الصخرة. بدت له القصبة بقامتها المنتصبة واقفة قوية في الهواء، كما لو كانت جنديا يستعد ببندقيته للقيام بهجوم كاسح على العدو. عاد بّا العربي إلى إشعال محتوى شقفه الثاني. أحس به دون طعمه السابق هذه المرة. "الطابا ضعيفة في هذا. ولاد الكلاب، كيغشو حتى في توزيع السمّ.."، هكذا نبس بّا العربي. ثم واصل تأمل البحر الممتد من حوله. انتبه إلى أن موجه أخذ في تغير طبعه الآن. فكر: "الرايات البيضاء بدأت تظهر، وبعد قليل سيكبر الموج، ومعه تأتي خيرات السمك إلى هنا حتى قدمي إن شاء الله". حوّل نظره إلى ناحية اليسار، حيث يوجد (غيلم زفزاف) الذي بدا له متشابكا مع سرطان البحر. نهض بسرعة. حاول الاقتراب من المنظر المجسد أمامه ليفهم ماذا يجري بالضبط بين الحيوان البري والحيوان البرمائي !! انحنى بقدر جعله يدقق ملاحظته. استنتج بّا العربي أن سرطان البحر يشدد ويبالغ في رغبته المصرة، في تسلق ظهر (غيلم زفزاف)، فكان مصيره أن يقع منهارا تحت ثقل قاعدته العظمية الصلبة. يستعد الغيلم لرفسه. "ما هكذا تتصرف ضيوف البحر يا صديقي الحزين"، قالها بّا العربي مبتهجا. امتدت يده بهدوء لحمل غيلمه المتوتر شيئا ما، والذي لم يره على هذه الحال منذ مدة. حمله بأصابع ثابتة. بدا له سرطان البحر كالمتجمد ممددا على ظهره لا يتحرك. في هذه الأثناء تحرك خيط الصنارة المشدود بالقصبة. ظهرت هذه الأخيرة تهتز بقوة في الهواء. أنزل بّا العربي غيلمه بسرعة، وجرى نحو قصبته. انتزعها من ثقب الصخرة بتأن، وأخذ يسحب الخيط بالجرارة اليدوية ببطء شديد. "صيد ثمين في مساء جميل"، قال بّا العربي، وهو يلقي بأول سمكة متوسطة الحجم إلى داخل سلته الخزفية. نظر إلى (غيلم زفزاف) الذي عاد إلى اللهو واللعب مع سرطان البحر الآخر، في الجهة اليمنى من موقعه، فوق الصخور الداكنة والجافة. استحسن بّا العربي مشهدهما المرح الجديد، ثم تابع مراقبة موج البحر وقصبته بين يديه.

__________
1 - أداة عمودية خشبية تستعمل للتدخين في المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع