الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمين معلوف يتأفف من كلمة الجذور

سميح مسعود

2017 / 8 / 11
الادب والفن


اطلعت على كتاب أمين معلوف المعنون"بدايات" عند صدوره باللغة العربية عن دار الفارابي عام 2004،وهو كتاب يعرض فيه مؤلفه سيرة جده، كاشفاً النقاب عن تفاصيل كثيرة يتبدى منها توجهات جده التنويرية وقدرته في قرض الشعر واهتمامه بتعليم المرأة في القرن التاسع عشرإبان الحقبة العثمانية، ورغم أهمية الكتاب وجدت أن عنوانه "بدايات" لا يُعبر عن مضمون نصه،وكان الأفضل استخدام كلمة "الجذور" التي يتبعها الكتاب في نصوص السير الذاتية، لكن المؤلف عبر بصريح العبارة في مستهل كتابه عن تأففه من هذه الكلمة التي لا تنسجم مع مفرداته اللغوية.
ولا بد أن أقر بدهشتي الشديدة من تبريره لعدم استخدام كلمة "الجذور" فقد صاغ رأيه في هذا الجانب بالكلمات التالية المسجلة بمباهاة في الصفحة11من كتابه:" غيري قد يتحدث عن "الجذور"... تلك ليست مفرداتي، فأنا لا أحب كلمة"جذور"، وأقله صورتها. فالجذور تتوارى في التربة، تتلوى في الوحل، تنمو في الظلمات؛ تبقى الشجرة أسيرة، منذ ولادتها، وتغذيها لقاء ابتزاز:" لو تحررت،تموتين!"
ثم يضيف بنبرة خالية من الموضوعية:"ترضخ الأشجار لأنها بحاجة إلى جذورها بعكس البشر.إننا نتنفس النور، ونطمع بالسماء ومتى غُصنا في التربة، فلنتعفن. لا يصعد نسغ الأرض عبر أقدامنا إلى رأسنا، وأقدامنا إنما تصلح للسير. لا تهمنا سوى الدروب، هي تُسيرنا من الفقر إلى الغنى او إلى فقر آخر، من العبودية إلى الحرية أو إلى الموت العنيف.تعدنا، تحملنا، تقذفنا، ثم تتخلى عنا. فننفقُ، كما ولدنا، على حافة طريق لم نخترها أصلاً."
قرأت هذه الكلمات على ضوء نص أكثر اتساعاً، ووجدتها لا تتناغم مع قيم الأرض الكلية المتعارف عليها بكل مافيها من شجر وطين وحجر،ولا تنسجم مع حقائق الانسان وجوهره في متواليات الزمان والمكان، بالمعنى الوجودي والفلسفي على السواء، حتى أنه يخرج في كلماته عن القيم الإنسانية عند استخدام كلمة " ننفق" للتعبير عن موت البشر، لأن هذه الكلمة تُستخدم بتقليد ثابت عن موت الحيوانات فقط، وحسب لسان العرب ينفق الحيوان نفوقاً إذا مات لأنه يُشترى بالمال.
لم أعلق على هذه الأفكار الغريبة عندما قرأتها قبل عدة سنوات، لكنني فوجئت قبل فترة قصيرة عندما كررتها صديقة على مسمعي في سياق حديثي عن تجربتي في البحث عن الجذور، واتضح من حديثها أنها تتفق مع أمين معلوف بعدم استخدامه كلمة الجذور كعتبة نصية على غلاف كتابه "بدايات".
وهذا هو الذي يدفعني في الوقت الحالي للكتابة عن كتاب قديم، لكي أبين رفضي لفكر مؤلفه عن الجذور، لأن جذور الأشجار الضاربة في عمق الأرض، من أهم الركائز التي يعتمد عليها وجود النوع الانساني وبقائه، وتربة الأرض التي تحتضنها بوحلها وصخرها هي جزء لا يتجزأ من حياة الانسان، مطبوعة في أعماق وجدانه لها قيمها المادية والمعنوية، يستمد منها ما يساعده على مواصلة الحياة، وكل ما فيها ممزوج برفات كل الذين عاشوا قبلنا قبل آلاف السنين، أوصى بهم المعري بقوله"خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد".
وبالنسبة لي فإن أرض بلدي فلسطين ممزوجة بأريج دماء الشهداء، وجذور أهلها المغروسة في أعماق ترابها هي بمثابة حبل سري يربط الفلسطيني بهويته الوطنية،إنها رمز المقاومة والتشبث بالهوية، وقصائد الشاعر الكبير سميح القاسم علامات متميزة في هذا الجانب، اتخذ فيها الارض بكل جذورها وأشجارها وصوانها رمزاً لمواصلة الصمود والبقاء في أرضنا المحتلة، وأما الوحل الذي يتأفف منه كاتب بدايات، فأنا أشم في وحل بلادي رائحة ممزوجة بعبق النرجس والدحنون والأقحوان، تُحرك مشاعري، وأتلمس فيها مشاهدَ موشومة بخطوط متماوجة من جذور بلادي.
ولهذا قمت بالبحث عن بعض الجذور الفلسطينية طوال أربع سنوات في مدن وقرى كثيرة في الداخل الفلسطيني وفي أرض الشتات، سبرت فيها أيام أسلاف رحلوا عن دنيانا، والتقيت برجال ونساء من نسلهم، عبروا لي عن اعتزازهم وفخرهم بجذورهم الضاربة في عمق الأرض، لاقيت الوجوه بالوجوه في صور كثيرة مزجتها في سطوري.
وتمكنت على أساس هذه اللقاءات من اصدار كتابي " حيفا ... بُرقة البحث عن الجذور" بثلاثة أجزاء، صدر الجزء الأول منهاعن دار الفارابي،والجزء الثاني والثالث عن دار الآن ناشرون وموزعون، كما صدر الجزء الأول باللغة الانجليزية عن دار إنر تشيلد برس في الولايات المتحدة (ترجمة الدكتور بسام أبو غزالة) وقد اختار مديرها الناشر الأمريكي وليم بيتر جونيور صورة لغلاف الكتاب عبارة عن طفل أسود صغير أشبه ما يكون بالطفل الفلسطيني حنظلة، تمتد جذوره عميقاً في عمق أعماق الأرض، تتوالى على اتساع المكان في بنية تركيبية تنم عن حقيقة تجذر الفلسطيني في أعماق أرضه.

دونت في أجزاء كتابي دلالات ومضامين مجبولة بفيض تفاصيل كثيرةعن جذور تمتد في أرض الآباء والاجداد،بكل ما في دواخلها من وجوه وأسماء وبيوت وأحداث، تعي اكتشاف الذات في مرآة المكان.
بالبحث عن الجذور التقيت بمجموعة كبيرة من أبناء وطني على امتداد أيام طويلة في حيفا، بُرقة، إكسال،الناصرة،عارة ،عرعرة، شفا عمرو،عبلين، يانوح، الجديدة،دير حنا، كفر ياسيف، ابو اسنان،بيروت، الرباط، فاس، هيوستن، براغ، كالغري، ديترويت.
فتح لي الحوار معهم آفاقاً واسعة للبحث عن الجذور لي ولهم ولغيرهم، بما يساعد على تشكيل جوانب مهمة من الذاكرة الجمعية الفلسطينية الغائرة في عمق الزمان والمكان؛ كالشجرة الظليلة في تشكيل الهوية والانتساب إلى الوطن.
إضافة إلى تجربتي الشخصية التي تعبر عن اهتمامي بالجذور والبحث عنها، لابد لي من الإشارة إلى وجود مئات الأعمال الروائية التي اهتمت بالجذور والأرض على اتساع العالم، منها رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، التي تدور حمولتها النصية حول جذور الفلاح المصري وتشبثه بأرضه بأوحالها وطينها وترعها وطرقها الترابية، وهناك أيضاً رواية "الأرض الطيبة" للروائية الأمريكية بيرل بك، التي كانت من أسباب حصولها على جائزة نوبل في الأدب عام 1938، وقد جسدت فيها حياة البسطاء في الصين خلال القرن التاسع عشر، وصفت حياتهم بدون رتوش وتنميق، وشَرعت عتبات نصها على عمق جذورهم الممتدة في شعاب طين وأوحال أرضهم الطيبة.
ولا أغفل هنا ذكر رواية "الجذور" للكاتب الأمريكي إليكس هيلي، التي ترجمت إلى 37 لغة، وبيع منها50 مليون نسخة، روى فيها عن جذوره وحياة الرق والعبودية التي عاشها أهله وناسه من السود، وجسد ذلك في تدوين سيرة شخصية" كونتا كونتي" الذي عاش حياة بؤس وشقاء في حظائر الحيوانات، وقد تم تسجيلها في عمل تلفزيوني يعتبر من أهم الأعمال المأخوذة عن نص أدبي لقصة حقيقية.
وهناك أعمال أخرى كثيرة من عيون الأدب العالمي، لم يتأفف كتابها من الجذور والأوحال والطين كما فعل كاتب"بدايات"، كتبوا عنها في سياقات نصية متميزة، منحت أعمالهم خلوداً معنوياً وفنياً على مدى الأيام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم