الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وردة ترسم أباها، شهيد الزبداني

ليفانت، أدهم مسعود القاق

2017 / 8 / 25
الادب والفن


وردة ترسم أباها، شهيد الزبداني
أدهم مسعود القاق
ذهبت روز إلى غرفة أطفال ورشة الرسم، والتفتت منتهى إلى صورة القائد العام للثورة السورية عام 1925سلطان الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي المعلّقة في صدر القاعة، وقالت:
- لن أفاجأ بصورة والدي في بيوتكم، لأنّكم أهل للوطن، والله أقاربي بالسويداء، استبدلوا صور المجرمين بصورته. ثمّ أكّدت على أن شعار: الدين لله والوطن للجميع لا يزال صالحًا، ثمّ تخوّفت من انحراف الثورة عن طابعها المدني.
ردّ الشيخ عثمان، وهو مهندس عمارة، وأحد أعضاء تنسيقية الزبداني:
- كشف أهل الزبداني مخبرين وشبيحة من بين أبنائهم، فتعرّض بعضهم للأذى، للأسف، على أيدي أهلهم المقرّبين منهم، لتيّقنهم أنّهم بقومون بتشويه الثورة وحرفها عن خطّها المدني تنفيذًا لأوامر فروع المخابرات. ثمّ أشار إلى المتأسلمين الذين أرسلتهم أجهزة المخابرات السورية إلى العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، وإلى إطلاق سراح المعتقلين منهم للتشويش على حراك الثورة المدني، وأكّد أنّهم يتحرّكون بسلاحهم جهارًا، ويعتدون على الأهالي والمتظاهرين من دون أيّ رادعٍ من السلطات، وأضاف متألّمًا:
- إنّ المخابرات لا تعتقل أو تقتل إلّا شباب الثورة السلميين.
ثمّ شرعت خديجة وهي منسّقة الثقافة والفنون والإعلام بإخبارهم عن مظاهرات النساء ونشاطهم، مركّزةً على أهميّة دور الأنوثة في الثورة، ولكن روز قطعت عليها حديثها، عندما دخلت وارتمت بجانب أحمد، وشرعت تتاهمس معه، وسرعان ما تعالى صوتها من دون وعيّ منها:
- انظر كيف ترسم, إنّها في الصف الثاني.
كان أحمد يحدّق في لوحة الرسم، ويستمع لروز من دون أن تختفي دهشته، وتابعت روز:
- في وسط الورقة تابوت بداخله رجل، قالت لي وردة أنّه أبوها، انظر يا أحمد كيف رسمت فمه مفتوحًا, وسألتها لماذا يفتح أبوك فمه؟ فأجابت راضيّة ومبتسمة:
- يضحك آنسة، أبي يضحك على طول.
رسمت وردة أيضًا أمَّها وأشخاصًا مندفعين نحو التابوت، ورسمت علم الاستقلال بحجم التابوت الذي احتوى جثمان أبيها، وفي النصف الآخر من اللوحة صوّرت بنت صغيرة، رأسها يمثّل الجزء الأعظمي من الجسد ليتسع عينيها الكبيرتين، وتحت كلّ عين رسمت دمعة،... سكتت روز، ثمّ غصّت باكيّة. وساد الصمت، وبدا الجميع مشدوهين، أمّا روز فاستمر نشيجها وبدت كأنّها لا تشعر بوجودهم، عندما قالت لأحمد:
- احمّرت عيني وردة وسال الدمع على وجنتيها،... وردة تعرف كل شي عبيصير يا أحمد، تعرف ماذا يعني القتل, وردة بالصف الثاني الابتدائي… معقولة الأشياء التي تحصل؟
كانت روز ترتجف وتهتز كمن مسّه الشياطين، تقرّب وجهها من رأس أحمد أكثر وأكثر حتى ليشكّ الناظرُ إليها أنّها سترتمي في حضنه هلعًا، ثمّ علا صوتها من دون وعيّ:
- عندما سألت وردة عن الطفلة التي رسمتها في لوحتها أجابت:
- "هذه أنا آنسة، وهادول أمي وجدي، وهادا أبي يضحك،..." ثمّ سال دمعها على خدّيها عندما ذكرت لي أنّ الكرتين تحت عينيها هما دمعتيها.. رسمت دموعها يا أحمد، قالت لي أنها تبكي كل يوم على أبيها، صار أبوها دمعتين كبيرتين بحجم كل ما تحسّ به بالوجود،... ثمّ انفجرت عويلًا وخرجت بأقصى سرعة، ولم يلبث أحمد حتّى أجهش بالبكاء الصامت الحزين.
أحمد الرجل الخميسني تسيل دموعه على وجنتيه، يرسم في مخيلته دمعتي وردة الكبيرتين, طفلة الثماني سنوات. ناوله المضيفون مناديل ورقية وآنية ماء ليكفكف دموعه, حاول الجميع تهدئته لمعرفة ما يحصل، ولكنّه لم يجب، أبت الحروف أن تتشكل كلماتٍ تامّةً في فمه، كان يتأوّه غاصًّا من أعماق قلبه، غطّى وجهه بكلتا يديه، وأنكس رأسه، قائلًا في سرّه:
- "تبكي وردة ابنة الثماني سنوات باستمرار،... تبكي أبيها الشهيد الذي مات برصاص قنّاص مأجور، كان يرصده من على سطح بناء البلديّة في الحارة الشرقية للزبداني، قتلوه وهو يحمل الخبز لأسرته بعدما عرفوا أنّه إعلامي وآدمن صفحة تنسيقية الزبداني على مواقع التواصل الاجتماعي.
ساد الصمت الرهيب في قاعة الدار، إلى أن اقتربت منتهى من أحمد، ورفعت يديه عن وجهه، وقالت له:
- ما رأيّك أن نتحول لنائحات على شهدائنا، ما بك يا أحمد، ما في عتب على أحد إذا أنت كنت بهذا الضعف. أيدها الشيخ عثمان، الذي قال له ممازحًا:
- ولو أنك علماني وما بتعترف بالدين، لكن صلّ على النبي واتكل على الله يا أخي، وروح اغسل وجهك.
أما أحمد فقد انغلقت حوّاسه على رسمة وردة ودمعتيها وأبيها الشهيد، كان يغوص في أعماق بحار حزنه التي تتلاطم أمواجها في رأسه.
قطعت خديجة مشهد الصمت عندما دخلت وأخبرتهم أن روز أقفلت باب الغرفة من الداخل ومعها الأطفال، ولا تردّ على أحد. توجّهوا الى الغرفة، وحاولوا فتح الباب فعجزوا، صرخ أحدهم:
- يا روز أين انت يا روز؟, افتحي الباب...
- يا روز، يا سارة، أينك يا عبد الرحمن؟ افتحوا الباب شو صاير لكم؟
- وردة أنت بخير يا عيوني،...
ولكن لا مجيب سوى نحيب روز والأطفال, إلى أن اضطرت خديجة أن تصرخ بصوتها الجهوري:
- افتحوا الباب قبل أن أكسره…
وطرقته طرقات قوية بكلتا يديها كادت أن تخلع ضلفتيه بالفعل.
فُتح الباب أخيرًا، فتحه الطفل عبد الرحمن الذي كان يشارك الأطفال في ورشة الرسم، دخلوا ووجدوا روز تحتضن وردة بكلّ ما في الكون من حنان، تشاركها البكاء المستمر على أبيها الشهيد، والأطفال الآخرون ملتصقون بها. فتح عبد الرحمن الباب ونكص ليلتصق من جديد بروز، فانبنى تشكيل متكامل من خمسة أجساد يوحي بالمستحيل. روز تحتضن وردة، ويلتصق بهما الآخرون، يذرفون دموعًا لعلها تكبر وتصبح بحجم دمعتي وردة، التي كانت على موعد مع أبيها عندما أردوه جثة هامدة قدّام عينيها، وردة التي كانت تنتظره ليرفعها عاليًّا كما عوّدها دائمًا، وردة المتيقنة أنّه سيصحو ويضعها على كتفيه, لتصرخ من جديد في عيد ميلادها:
- أنا أطول واحدة فيكم،...
ما الذي جرى لخمسة أجساد تتكوّم حول بعضها لتعيد تشكيل الخلق من جديد، كيف تنبجس دموع مآقيهم الشاخصة نحو رسمة وردة التي انتظرت أباها أمام باب البيت، فأطلقوا عليه رصاصات ليسقط مضرجًا بدمائه. لم تع وردة أنّ أباها قد مات، تعرفه بارّا بوعده ووصل بعد انتظارها له، ولكنّه وصل مرميًّا على الأرض، ركضت ناحيته راجيّة أن يرفعها فوق رأسه، ولكنّ أملها خاب، فانحنت ناحية جسده، انتظرت، ثم رنت نحو وجهه وأصخت السمع لصوته المتلاشي في الموت، لم تعِ إلاّ ضحكته، ويديه اللتين تحتضنان أرغفة الخبز المختلطة بدمائه، كان همّها أن يقف ويرفعها من جديد إلى الأعلى، ولكنه خذلها أخيرًا وأطبق عينيه.
وصل أشخاص ليسوا أباها، اندفعوا حوله ورفعوه عن الأرض فوق رؤوسهم، أمّا هيّ فترسّخت في ذاكرتها ضحكته، حتى بعد أن حملوها، وأدخلوها إلى البيت.
لم تتمكن وردة من وعي حقيقة ما حصل لأبيها، صارت تنتظره أمام باب بيتهم كل يوم، على أمل أن يعلّمها أشياء وأشياء، لولاه لما كانت قد عرفت كيف ترسم علم سوريا، ولما تعلّمت أناشيد كانت تنشدها معه فرحةً.
وردة التي رسمت العلم، ورسمت دموعها التي تكبر في كلّ يومٍ شوقا لأبيها، ظلّت ترنو إليه وسط بركة دمّ وأرغفة مدماة ترامت حول جثّته، لم تعرف أنّه كان يحتضر، حاولت رفعه لتدخله الى البيت مع أرغفة الخبز المتناثرة حوله وعجزت.
اقتربت منهم الآنسة خديجة، وحاولت مواساتهم بقلب يقطر حزنًا، صمتت أمام المشهد، ثمّ بكت. فتوجّه الشيخ عثمان الى الله و صرخ من قلب ينفطر أسىً وحزنًا:
- يا الله، أيّها المتربّع على عرشك منذ الأزل وحتى الأبد، أيّها المتعالي بقدرتك، أنت يا رب العالمين، الذي نصرت عبدك محمد في بدر على الكفار الظالمين، انظر الى عبيدك المظلومين، امنحهم طاقة الصبر والتحمّل حتى يتمكنوا من إعلاء كلمتك على الأرض، أمدهم بعونك ليرفعوا لواء الحقّ والحرية، أعنهم على أعدائك يا أرحم الراحمين، أعطهم فرصة الحياة بكرامة لينشروا عدلك على الأرض، أيها الرب الكريم نحن الطامعين بتطعيم أرواحنا من روح عظمتك، اسمعنا يا ربنا، نحن الضعفاء أمام جبروتك، نحن بحاجتك لنستمد منك طاقة الحرية لمواجهة أنظمة الظلم والفساد، أيّها الربّ: لم نتوان لحظة عن السعي وراء دربك، انظر الى أحوالنا، انظر الى هذه الكتلة البشرية التي أمام ناظريك وتحت رحمتك، أيها الرب الذي ليس كمثله شىء, ألا تستحق وردة رعايتك، وردة الطفلة التي ترسم لنا درب إرادتك في مواجهة أعدائك يارب العالمين، ألا تستحق ان تضعنا معها على درب المعرفة والتحرّر والأخذ بأسباب القوة والعلم...
واستمر الشيخ بالدعاء والتوسّل الى الله، حتّى تمكّن من إضفاء روح الله على المشهد. وعندما انتهى الشيخ من ابتهالاته علا صوت منتهى مؤنّبًا روز:
- يا روز ليس بالدموع نقاوم الاستبداد والفساد، الثورة تحتاج إلى إرادات قوية، ما الذي تفعلينه يا روز؟
ثمّ تقدّمت وأوقفت سارة وعبد الرحمن ونهى, وأخرجتهم، واحتضنت روز وردة وتوجهت معها نحو الصالون.
لم ينتبه أحدٌ إلى أحمد الذي وجدوه غائبًا عن الوعي في الصالون، أحضروا ماء وسكبوه على رأسه، فتحرّكت عيناه بصعوبة. حملوه إلى المشفى الميدانيّ، وأُخضع لفحوصات أوليّة، وبقيت منتهى معه حتّى اطمأنت أنّه لا يزال حيًّا، ثمّ أوصت به، وغادرت المشفى عائدة إلى دمشق لحضور مهرجان شهداء حرستا. أمّا روز فظلّت بالزبداني تذرف الدموع من جديد إلى جانب أحمد، الذي تعرّض لأزمة قلبيّة، ويحتاج إلى مراقبة طبيّة دقيقة.
أدهم مسعود القاق، كاتب سوري، ريف دمشق، الإسكندرية، [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع