الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسفار سيدي بوهوش (السفر الأول)

جميل حسين عبدالله

2017 / 9 / 4
الادب والفن


السفر الأول
محتد الحكاية، ومهد الرواية
وهي بمنزلة المقدمة والتمهيد لهذه الرواية التي تخوض في عالم الخفاء، والأسرار.‏
في خضم البحث عن معاني الكون، والحياة، والإنسان، والتاريخ، والعمران، نتعثر بين أذيال أقوالنا القديمة بسؤال ‏جوهري، واستفهام ضروري، لا يجوز لنا أن نمر عليه سراعا، ما لم يعن لنا أن نتأمل في حدود كلياته التي تحدده، وقيود ‏جزئياته التي تجدده، ولا يمكن لنا أن ننكره، ولا أن نرفضه، ما لم نكتشف بعض أوجهه التي تجعله مستبعدا عن صور ‏أذهاننا، ومستغربا في صيغ أذواقنا. وهذا السؤال لا يفتر عن المطالبة بحقه في الوجود المتعالي بملامحه الباهرة، ولا يذهل ‏عن المنازلة لمحيطه المتسامي بقوته الساحرة، لأن استظهار معالمه الظاهرة، واستجلاء مكامنه الغابرة، هو الذي ينفخ في ‏الحكيم روح الحكمة الخالدة، ويمنحه مفتاح المعاني التالدة، ويهبه سر الأشياء التي يتدبر آياتها المكتوبة على لوحة الوجود ‏الواجب التقديس، والفاعل بالتأسيس، ويتأمل أعيانها التي لا تخلو في صيغها المتكاثرة من مضمرات الغرابة، ومكنونات ‏الطرافة، وإذا ما استفاق من عتمة حياته المنابذة لما هو به يقوم الاسم بالمسمى، والصفة بالموصوف في الكنه المحلى، فإنه ‏يلمس زحف الألوان التي تموج بين عينيه بخوف، ولهب، فلا يدري من أي لون كان بارز لباسه الذي يلبسه بلا رغبة ‏محبوبة فيه بعنف، وطلب، ولا كيف يتجرد منه في عاطفته التي عشقت أمداء الحرية بين أوطان غادرها الحلم الأسنى، ‏وولعت بإطلالة الغروب على القرى النائية عن عمقه المتضمخ بعلله المثلى، وولهت بإهلالة الشروق على الأنهار التي تجرى ‏بأشواق الغربة، وأشواك العزلة، وأوضار الوحشة، وأوجاع الوحدة، وكأنها فيما ترتديه من أسمال قمصانها البالية، قد ‏اعتادت أن ترى البياض سوادا داهسا، والنهار ليلا دامسا، والثابت متحركا، واليقين شكا. فأي أمل يحدو هذا الباحث ‏بين إضبارة التاريخ المكتوب على ألسن الجدات، والمروي في حكايات الأمهات.؟ وأي ألم يعرد به هذا التوق لكون ينتخب ‏جمهرة الحكماء بالعناء، ثم يقيم موائد الدسم بين رحاب الأديرة المتعاركة الآراء، والعادات، والغايات.؟ ‏
أجل، ألا يحق لنا أن نقول: ‏
‏-هل للتاريخ من حكاية محددة، ومعالم مقيدة، يحق لنا أن نصل فيها إلى نهاية، تسعفنا بالمعنى الذي نقتبسه من ‏مقتضيات الرواية.؟ أم ألا يجوز لنا أن نقول:‏
‏-كيف نستشرف من الحكاية نصوص تاريخها المعتق، ونستطلع مستقبل أسطورتها في الغد المشرق.؟ سيكون حل هذه ‏المعضلة مشيمة تتوالد بين منابتها أفكار سديدة، تسير بقوة نحو ساحل الحقيقة الخالدة، وأنظار وطيدة، تسهتدي بحدة إلى ‏سبل المعرفة القائمة على الميزة الظاهرة، وأحكام سديدة، تستقوي بشرة ما تسبله الأنواء من هبات الطبيعة الهادئة. وذلك ‏ما يجعل الحكي في مفهوم الإبداع المجرد عن قيود الزمان، والمكان، أو في منطوق الإعراب المحصور بقرائن الأحوال، ‏وعلاقات الأفعال، لا يلتزم بفك هذه العقدة المُضلة مظانُّها التي لا ينتهي جدل دلالتها على حقيقتها باكتشاف أسبابها، ‏واستجلاء عللها، ولا يلتئم صدق معناها على مبناها باختبار بداياتها، واختيار نتائجها، بل تتآلف الصورة على حد معتبر في ‏الأذهان، حين تكون ضبابا ملتفا على صوغ قائم في الذات الممتحنة الإحساس، لكي تخلق من العدم وجودا، ومن الألم أملا، ‏أو ربما تهدم ثابت الذات لبقاء حركة الموضوع، وتبني من النقيض عشق حريتها المضطربة بين الذات، والموضوع، والمعترضة ‏بين الصورة، والمثال. فلا حرج إذا لم نغدر بالخلق الأمثل من خصال التدوين، ولم نخدع باللون الأجلى من أوضار التلوين. ‏فالاستغناء عن تحري لحظات الطوبى بين سويعات الانتشاء المكذوب العلامات، والمشنوق الأمارات، قد يدلنا على سبيل ‏من سبل معرفة اللغة التي كتب بها اللغز، أو نقش بها الرمز. وإذ ذاك، سيكون الكلام المكتوم مقروءا على أزهار هذه ‏الأرض التي نلوذ إلى ظلالها الفيحاء، حين نخب على بساط شوق نتلوى بين ثغور مناكبه، وكأننا نولد بفطرة جديدة بين هذه ‏الحكايات التي يحقن عبثها إثما عظيما، أو عبئها عذرا جسيما، يجتاز بمناسم فرسانه على كل المراحل التي نتوقف بين فِنائها ‏ساعات، أو أياما، أو أشهرا، أو أعواما. وربما قد يكون الانتظار بين رحابه قائما بطول العمر كله، أو حادا بامتداد الزمن ‏على صروف سوحه. أو ربما ستهلكنا فواجع الدهر بين دوافع لذاته، ودوامغ شتاته، ثم نمر إلى برزخ الامتزاج بين المعنى، ‏ونقيضه، ونحن لم نشعر بنيل أوطارنا من هذا السر المكنون بين خراب الذات وزلازلها الموصولة الحبال بأعذار الوجود، ‏وآصار الحدود.‏
وحين نتعثر بذيلنا بين أمداء الحكاية، أو نتوقف عند مراحل غدونا، أو عند منازل رواحنا، أو حين ندرك وجودنا ‏الأجلى بين مداخل قوتنا، أو بين موارد ضعفنا، فإننا لا نملك إلا الإيمان برغبتنا فيما ينالنا من نوبة اللين، أو من نبوة ‏الشدة. لكننا في كثير من أويقات قوتنا المتلاشية أعصابها المتهدمة، نقر بأننا نرى على عنان العشق للغموض أشياء جميلة، ‏أو قبيحة، وإن كنا لا نجزم بأن ما نشهده من ذكريات غزيرة، قد يكون مسلما به بين ألطاف قدر نتجارى بولهه بين مسالك ‏متهجدة، ومشاعب متوددة، أو معقولا بين هوامش عقول أرقها تذكار مرابض السهر، ومعابد السمر. فما الذي آلمنا بين ‏الديار التي سبكنا على جدرانها أقصوصة شمم يحاكي وقدة النجوم الصاعدة بأنوارها على عروش الهوى المستجمع لكل القصائد ‏المختوم رحيقها بين الكلمات المكتومة.؟ تلك البيوت النضيدة، لم تكن صادحة إلا حين ثملت بكروم الأنس الفاتر الأوزار، ‏وتلك القلاع الفريدة، لم تكن وافية إلا حين عبقت في أرجائها روائح الشمس الباسمة الأنظار، وتلك الأسوار العنيدة، لم تكن ‏شاهدة للعيان إلا حين سقيت أطيانها بدماء الأحرار، وتلك الواحات الرغيدة، لم تكن ناعمة إلا حين اهتز طرب الطفل ‏بالعشق المتقد بلهب الذكريات الأثيرة، وتلك المراعي المديدة، لم تكن ناضجة إلا حين سكب الفؤاد زفرات راع يحجو إبله عند ‏معترك العيون الأسيرة، وهو لا يريد إلا أن يدرك من الدموع همس السر المستفيض بالعهد القديم، والود السليم. فما الذي ‏نال صولته متشوف إلى درك ما في القبة من وصايا الأقدمين، ورزايا المتأخرين.؟ لم يكن هذا مرغوبا إلا لمن اختصر ‏الحكاية في عبارات، واكتفى بما اقتضب في الرواية من أمارات، ثم قال قولا لا يفي فيه الشرط بالجزاء، ولا يقوم فيه العدل ‏بالوفاء. فالأشياء التي تناجينا في بواطننا، وتناغي أعماقنا، هي التي تتكلم بلغتها الهامسة، وهي التي تلتهب جمرتها بين الجوانح ‏الحائرة، ومتى كنا أقدر على صوغها في عبارات قلائل، ومعان ذوابل، كان وعينا بها طفيفا، وأعرابنا عنها ضعيفا. فالكلام ‏المستباح بوحُه في دائرتنا الضيقة، هو كلامُها الذي تغرسه فينا بأمدائها الفسيحة، ونحن لسنا إلا مجازا لما تمليه علينا من ‏آلامها، وترسمه في طريقنا من أوجاعها. وإذا أيقنا غرورا بأننا نتحدث عنها، ونماري من أجلها، لا كما هي في ضجيج أعماقنا، ‏وصريح أذواقنا، كانت حكايتنا عنها قريبة إلى الزوال من البقاء، وتعبيرنا عنها بعيدا عما يطلبه المقام من إيحاء. فلنترك ‏الأشياء تخاطبنا بروحها، وتعاتبنا بهدوئها، وتعاندنا بإبائها، وتنابذنا بنفورها، وحين تشح في وجه عجزنا، وتضج في سمع كللنا، ‏فإن ألم هجرها لن يكون إلا شوقا يبدد عصي الإدراك لما هو منقوش على غضون الجدات من إغراء، ومغروز في عين ‏الأمهات من إرواء . ‏
فلنترك للجائع المقرور صوغ حديثه، لكي يحكي برده عن سخونة الحرارة في ظله، وللسائر المعلول خوفه، لكي يروي ‏ظلامه عن صون النور في دليله، وللعاشق المصروع هدوئه، لكي ينطق سكونه بصخب طريقه. فالأشياء هكذا تحكي عن ‏أضدادها، وتروي عن أشباهها، وتنطق بأنظارها، وكل مترنح مغتر بأن ما يرد عليه عند رتوعه في مقام من المقامات، قد ‏وفى له بصك بقائه بين الملامات، فهو المخدوع برفع رايات السلام على بساط الثعالب الماكرين بالمرامات. فالحكاية ليست ‏كلاما محدودا بالحروف‎ ‎المقيدة على الألواح المحرفة الأسطار، والمزيفة الأسوار، بل هي المعنى المستنبط من الحقائق المتناثرة ‏بين مروج القرية الدائبة وصاياها على الترحال، والدائمة رجالاتها على التجوال، وهي القرينة التي تجمع بين الألوان النازفة ‏على همس الأبدان، ولمس الأعيان، لأن الأشياء تأخذ لون مكمنها، والمعاني تنزف بماء معدنها، وهي الحقيقة الكاملة عند من ‏رآها كلية في انطباعها، لا جزئيات في انتقائها، واستطاب ما يكمن فيها من تنافر، واستساغ ما يرشح عليها من تظافر ، ‏واستكان إلى ما فيها من لاعج متضرم بعشق يخلد نشوة الماضي الأصيل، ونكهة البادي الأثيل. فهل الحكاية أسبق من ‏الحدث، فنجزئ الأسفار بلا التياث.؟ أم الحدث كان منقولا بين الصدور التي أسرت في محل الظهور، فلم يستطع الرواي ‏أن يفصح بما في عمق ذاته من ضمور.؟
فالأحداث التي وقعت متعاقبة في نمط عيش الإنسان، ليست بمنأى عما نتخيله من تباين طبائع الحقائق بين كبد الأبدان، ‏لأن ما وقع من صدام بين الرغبات، هو الذي يقود الذوات إلى معابد الشهوات. وكل ما لطف جرمه في شره عين، قد ‏يكون خشنا في ذوق يراه محض مين. وإذا توالى الحب والكره في متحد الوصف، كان الطريق إليه محفوفا بمتقد العنف. ‏وهكذا الحكاية حين تكتفي بما كان في طوع العقل من مستطاع، ومقدور، ولم تطق أن تستفهم ما يضمره الاحتكاك من ‏عناد، وصراع، فهي حسيرة السطوع، وكئيبة الطلوع، وشمسها اللماعة تحجبها الأشجار المتشابكة بين الغياض، ونورها الفياض ‏تمنعه الأحجار المتصلدة عن النفاذ إلى الحياض. إذ كل دليل محجوب العين عن الإبصار، فهو موقوف نصه على الإسرار ، إذ ‏لا يدرك باطنه إلا من أعد راحلته للأسفار، وغاص بين مهامه الأخطار، لكي يستظهر ما انطوت عليه الذوات من ترياق ‏الأسرار، ويستجلي ما التبس بين الأقطار من المعاني المسجورة بدماء الأحرار. ‏
فالفرق شاسع بين من انفلت زمامه من قُبضة وصايا المكان العتيق، وغدا الكون كله مناخا لجياد دهائه الحاذق، وبين ‏من توطنه الأمل بين الحياض المرفهة الجنان، والمخضبة البنان، وهو يرجو أن يكون المكان مرفأ لعودة خمرة الروح، وسكرة ‏الراح، أو موئلا لعزيز القوم، ونقي الدم. فالذين ارتحلوا بين القرى المتفرقة بين الأصقاع بلا أدلاء، أو الذين أوضعوا بنوقهم ‏بين فحيح الصحراء، قد كانوا رعاة لما تتشح به قنن الجبال من أرومة المجد، وحماة لما تتضع له أحشاء السهول من أمثولة ‏الحمد، ورواة لما تحكيه عضاه البراري من أقصوصة الحياة الغامضة، وأسطورة النجاة العارضة، لأنهم قاسوا ما بين أهل ‏المدر، والوبر، فكان المدار شاسعا للفكر، والنظر. فلا غرابة إذا ودعوا فوح الأعشاب الباسقة، لكي يخوضوا لجة الرمال ‏الحارقة. والذين استطابوا الحجور الناعمة، واستلذوا الزهور الباسمة، لم يألفوا أصوات الرياح العاتية، ولم يأمنوا من ‏دمدمة السباع الضارية، فكانت حكايتهم عاجزة عن رص المباني الغائرة، وروايتهم قاصرة عن كسب المعاني الثائرة. فهل ‏يستوي من ذاق مرارة الحرية، ومن ساد بحلاوة العبودية، وهو يولول بين حنادس الأديرة بغرة امتلاكه لمفتاح الحكاية، ‏ومداخل الرواية.؟
فالحكاية في مبانيها كالبادية، وكلاهما يحمل في عمقه سر الحقيقة، فما كان جمالا منها، فهو القبح فيها، وما كان كمالا، فهو ‏النقص فيها، لأن الحكاية ومهما تمت فصولها، واستولى ظاهرها على باطنها، فإن في وضوحها غموضا، وفي ضمورها تعريضا، ‏لا يفقهه إلا من أيقن بوجود المعنى وظله في كل وصية سارت بها الركبان بين الأمداء الشاسعة، وتاقت إلى فك ألغازها ‏أوتاد المرابع الواسعة. فالمعنى الدفين بين حواصل الأسرار، هو الرمز المخزون بين جذوع الأشجار، وبطون الأحجار، والطلسم ‏الناطق بالمكنون في طين الإنسان، وطبيعة الحيوان. إذ في كل رسم وسم محفور في العمق، ووشم ممنوح في العشق، لأن من ‏ابتغى في الوبر سترا، هو كمن ارتجى في الدير سرا. فهما في اصطياد شوارد المنية، لا يعبران إلا على معنى يدل على ما رسم ‏في الذهن من أوابد الغنية. ومتى كانت خيالا مسترسلا في الشوق، ولم يظفر مغلوبه بوارد التوق، استحال الأمل فيه وحشا ‏كاسرا، والألم ردفا ظاهرا، لأن الاستئناس بالأماني الفارغة، لا يولد منه إلا استيحاش للحقائق الدامغة. إذ المعاني لا أمل ‏يرتجي منها إلا بقلب الشاهد في الدليل، وبذل الجهد في التأويل. وإلا، فإنه لا نجاة تبتغى في غمرة الحرف، وحيرة الصحف، ‏إلا لمن فقد الأمن في جوف الخوف، وأيقن بما تدنيه صروف الدهر من كمد الحيف.‏
وإذا كانت البادية ظمأ في صوغ سحر مضمون الحكاية، والبحر سرابا في رص غمرة مخزون الرواية، والصحراء ضياعا ‏في حبك سر مكنون الدراية، فإن ما تطويه طروس الحكمة بين طياتها المنعمة الأكناف، وما تحويه صدور الحكماء بين ‏أحشائها المحشوة بسوابغ الألطاف، لن يدني دركه ما تتشبث به الأعين بين مهامه الرغبة العليلة الأطراف، وما تكتمه الألسن ‏بين سراديب الجهالة من قيبح الأخياف، لأن ما يغرسه سقم المعنى من رديء بين منابت نفوس الأطفال، هو الذي يسلب ‏لب قصة الوجود عن عقول الأجيال. إذ الرابط بينهما في المشهد الساطع، والجامع لهما في المورد الجامع، هو ضرورة ‏الاستواء بين الأصول والفروع في المظهر، لكي يكون الاعتدال ساريا عليهما في المخبر. وإلا، لن ينشأ طالب الحياة بين بؤس ‏النظر على محض النقاء، ما دام كبده لم يختبر ما ضمر في غوره من أسرار البقاء. ‏
وهب أن ذلك غير مقدور لمن بيده خطم الأكباد، فكيف يكون للحكيم أثر عليه في رشد الاستمداد.؟ تلك القصة التي ‏حرفتها أوجاع الطمع، وزيفت حقيقتَها باختلاس أزواد الورع، تحمل التناقض بين مقاصد الأدلة المحبرة، ومطالب العقول ‏المعتبرة، لأن متأمل ما تخيفه عند النطق بأعراضها المتآلفة، وأوضاعها المترادفة، لن يكون حفيا بما فيها من الآيات المبينة، ‏والعلامات المزينة، ما لم يكذِّب ما صدَّق من أقوال، ويقدِّسْ ما نبذ من أحوال، ثم لا يضيره أن يقرأ الشيء في ظاهر ‏عينه، إذا كان يربط حقيقته بالروح السارية في باطنه، لأن ما هو موضوع لرؤية ما برز عليه من أسبقية، هو الرمز الذي ‏يحمي غموض الفكرة بما يتوارد عليها من أرجحية، وهو الذي يعاند ممنون الأسس المرغوبة، ويفارق مجموع اليقين المكنون بين ‏سحر الأرباب المحبوبة، وهو الذي يبني حرف الذات من شظيات القرية، والصحراء، والزمن، والأمل، والمقاصد المطلوبة، ‏لأنها ألوان للمعلوم الذي تتسلل إليه الشمس من وراء المجهول، لكي تحاور ما التبس فيه من دهشة الذهول. فما استجاب ‏له منها، كان أقدر على حمل لونها، وما لم يستجب لصراحها من أعيان، وأبدان، كان لونا لظلالها التي تستر وميض شعاعها ‏بالذبول، والنحول. فهل يتقارب المتباعد بكسب لغة العقل من تقابل الأضداد في الأشياء.؟ أم يتباعد المتقارب بصوغ لذة ‏الذات بين المجاهل المرتوية بدم الحكماء.؟ ‏
منذ قدم الزمن المغير على الإنسان برزايا تتعب مداركه، وتنجب متاعبه، وتربك ‏ملامحه، لم يخلق الآدميون دون غيرهم من الخلائق على هذا الكوكب الفسيح الأمداء، ‏والرحيب الأفياء، إذ لم يوجد موجود من الموجودات توحد الوجود معه في الأزل القائم ‏بالأشياء، لكي يكون أمة بوحده، لا يخالطه جنس آخر سواه، ولا يشاركه في ‏رحاب الوجود أحياء يسترفدون من بهجة الحياة لهجة المناعة، ولغة البقاء، بل تمثلت له الحقائق ‏بوجوه عدة، وتجسدت له مغازل الطبائع بألوان شتى في الطبيعة، وهو لا يستظهر شيئا مما يعن ‏له في خياله، وإن كان مما يدل عليه توارد الخواطر في خلده، إلا وظهر له نقيض ما تقبض ‏عليه يده، وتسخو به الأنواء في كونه، بل نسج تحت أديم السماء قبة لمدار حلمه، وعلى ‏بساط الأرض منارة لمحراب أمله، يأوى إليها بكل ما فيه من رغبة، ورجاء، ويؤوب عند ‏إيقانه بالشدائد، والأعباء. وسواء في ذلك ما ربطه بضده، أو ما قاطعه عن نظيره، ثم ‏اختار الأنسب له في وصله، لكي يكون قويا بما يتدثره في مسعاته المكدسة، وحفيا ‏بما يتنعم به في مملكته المقدسة، ويصير مستحوذا به على الرغبات التي تموج حوله بوهن ‏الحيلة، وضعف الوسيلة. فهل كان مختارا حين استعبد ضده، وهو يأمل صعود نجمه في ‏خسوف قمر نده.؟
‏ لو توارت القوة التي يغتر بها تحت جلباب الحقيقة العتيدة، لما غالى في خطوه إلى المرامات ‏العنيدة، لكنه حين أصر على حيازة الآثار، وحياطة الأشجار، ورعاية الأحجار، ‏وصيانة الآبار، ووقاية الأكوار، لم يكن همه متنائيا عن كسب ود ما يدب على سطح ‏الغبراء من نبات وطيور وبهائم خشي من صولتها بداية، ثم استنأنس بغلمتها نهاية، لكي ‏يكون لبنها قوة لكبده، ولحمها غذاء لجسده، وظهرها صهوة لصيده، وسرعتها مركبا ‏لوكده. كلا، بل ذبحها في حلقها، ونحرها في لبتها، وهو يفتل أعضاءه من لحمها، ويستر ‏بدنه بجلدها، ويزين حواشيه بريشها. فهل استفادت الحيوانات على اختلافها من زهد ‏الآدميين، ونالت حظ متعتها بين عفة الآمنين.؟ لا، لو تركت على حالها الموقوفة عليها ‏حريتها في ربوع الحقيقة، والموصولة بها آمالها بين النجوع الرشيقة، لهامت بين مواردنا بلا ‏رقيب، ولثابت إلى مراقدها بلا حسيب. لكن عوز الإنسان إلى غيره المشارك له في ‏الإيجاد على كوكب الأرض الأبسط اللحاف، وفقره إلى صراع يحميه من غوائل ‏المكسب الآثم الكفاف، قد فتنه باكتساب أجود ما فيه من عظمة لازمة، تختبئ بين ‏أطمارها غرة غاشمة. فلا نستغرب إذا انتقاه طيبة بها نفسه، حتى يُظهر عجزَه إلى ما يهبه من ‏لباس الانتشاء، واصطفاه طرية بها عينه، حتى لا يتعرى حرده بين غوائل الدهر الكأداء، ‏فيكون وبره زينة تستره عن رياح الأكدار، ودفئه كنا يصده عن عوارض الأوضار، ‏وسكونه متعة تغنيه عن شح الأغيار. ولولا قصوره عن درك ما في ذاته من اقتدار، لما ‏تودد إلى الحيوان بحنان الافتقار، بل تآلف معه في رصف أخبية الأمان بين حنادس ‏الأكوان، وتواطأ معه في كسب أنصبة الأمل بين سوانح الأزمان. فما الذي بدد الوداد ‏بين الإنسان وغيره من البهائم، والطيور.؟
شيء غامض في الأذهان، يثير الشوق بين جوانح الإنسان، وهو إحساسه بما في الحياة من ‏خوف، وأمان، وإيمانه بما يقضي به العيش من حرية، وإذعان، إذ لولا ما ينطوي عليه قعره، ‏وينزوي في غوره، ويموج حوله فكره، ويثور عليه نظره، لما غدت الأشياء التي يقتفي أثرها ‏مغرية لطلبه، ولما صار ما يهديه إليه إغراءها جزءا من جلبه، لا يسعد بين جِنانه إلا بقطفه، ‏ولا ينعم بين مياهه إلا برشفه، وإذا فقده بين آماق نظره، وآفاق قدره، ضاعت بهجته ‏المتنامية بين لواعجه الحارقة، وأشجانه الوامقة، وتاهت عيناه في جمال ما يخلب لبه من ‏مضارب الأرض الباهرة، ومجاهل الطبيعة الناضرة، ومكامن الكون الضامرة، ومعاهد ‏الوجود الآسرة. إذ هو لم ير إلا ما يجوز له أن يشهده من مشهد، ولم يعقل إلا ما يحق له أن يعقده ‏من معقد. فلم لا يرغب في لذته، وهو لا يجوس حول مجاهل الأماكن إلا ليقبض على نبع ‏ناطقه، وصامته.؟ فآه، آه، لو عقر حصان عشقه خوفا من خطية سيره بين حمى الصحراء ‏الموجلة، لزلت به قدمه عند ركوب براق الحنين إلى منازل السماء الموغلة. ولو زل به الخطو ‏بين مناكب الأرض العريقة الأنساب، لكان وجوده عدما في شجار الأماكن على ‏حدٍِّّ مطلوبِ الأسباب، لأن جدل الحكماء في رسم معاني السلب، والإيجاب، لا ينفي ‏الحكم عن العدم في صريح الألباب، إذ هو في صورة حضوره الذهني، يستوجب ‏ضرورة الإثبات في خوض العقل الإنساني، فهما موجودان في رحم الوجود باللزوم، ومن ‏فرق بينهما لجهل بالحدود في مستور العلوم، فقد أراد الوحدة بلا إدراك للكثرة بين ‏مرامات الفهوم. فذاته قائمة فيه بالنقيض، وحصره بالتجريد له عن غيره في عارض ‏الأعراض، هو محض سوء الأدب، وغبن في نيل الطلب، لأن كسب ما يجلب الآراب، ويفي ‏بوصل الأسباب، لا يقوم إلا باعتبار تلازم الجواهر لبعضها في ماهية الأشياء، وهي متآلفة ‏بفيض نسيم الروح السارية في غوامض الأحياء. وهذا هو الأصل المدون بين حجرات ‏الحكماء الهادئة السكينة، والفرع الذي تاهت في حضيضها عقول الرهبان الحادة ‏الشكيمة.‏
هكذا أحس بشماتة الضعف المحصورة أناتها بين سجن صدره، والمنحبسة آهاتها بين ‏قفص نحره، فساق قطعان الغنم والبقر والإبل بين الفيافي النائية في نظره، وارتبط بعشقها ‏في عقد قلبه، واشتبك بحياتها في عالم نصبه. وإذا غيِّبت عنه بين غوائل الدهر الأعجف ‏التلاد، والأسقم الوداد، استعار لها رمزا يدل على جمالها في صورة رسوخه، وكمالها ‏في لوحة شموخه، ثم ابتنى على هيكلها معبدا يزور ضراحه في غدوه، ويؤوب إلى ‏ذكراه في رواحه، لكي يحمل سر ذاته، ويرشح بمحض روحه، ويدل على رمز ‏دركه لما هو خفي في وجوده، وجلي في وروده. وحين يمجدها فيما يروم نواله من عشق، ‏أو يمدحها فيما يعرِّض به من صعق، فإنه لا يريد إلا أن يظهر ما يصله بها من عقيدة متناهية في ‏التفويض، ومتوافرة في التعويض. فسواء حين صانها بتقديسه لها بين محضن الرعاية، وهي حية، ‏وناعمة، تنعمه بمتعة الوجود اللامع السبائك، واللاحب المسالك، أو احترم قبرها الفارع على ‏سطح الأرض الصاخبة، وهي ميتة، وشاحبة، تذكره بالآمال العريضة التي تنزف بما في ‏أعماقه من الأحلام الجريحة، والآمال الذبيحة، وكأنه يعتقد في وجودها ضرورة بقائه ‏سائغا في شربه، وآمنا في سربه، بل يوقن بأنها ما وجدت له، وما سخرت لقدرته، إلا ‏لكي يكون بكسبها رضيا، ويغدو بلبسها حفيا.‏
وحين انتقل الإنسان بين مجاهل الكون، لم يحمل معه سوى ما أذعن له من يقين، وسلم له ‏من إيمان، وقامت قدسيته فيه بتقوية الأبدان، وتزكية الأعيان، فلم يتجاوز شرعته إلى ما ‏تمخض ألمه عن زمنه، وتفتق من غوره وجع حزنه، لأنه إن لم يكن مبرورا ببريق طلعته، لن ‏يحس بأمل في نمير ترعته، وإذا لم ينل من ذلك ما يكفي أوده، ويقي عضده، ويقوي زنده، فإنه ‏لن يشهد في الأشياءما يقارب بين الأرحام، ويقارن بين الأجرام، بل سيجهد ذاته بحيلة ‏تنعمه بصولة الاستحواذ على الطبيعة، ولو تطاول على ما يحصن قلاع الآخرين بالدسيعة، ‏وابتلع ما في مكنون الحصون من أكنان عامرة، وأنساب ظاهرة، وعقائد قاهرة، وأعراف ‏باهرة، وعادات عاطرة، وتقاليد ساحرة، وفنون فاخرة، وصناعات هادرة. إذ لم تمر سوابغ ‏الأحوال على أعيان الأشياء عبثا، لكي تصير شعثا، بل ترسخ في الذهن أن ما لم يتصوره ‏العقل العاجز عما توقفت عليه مدارك الأماثل من أسس، ولم تبلغه قبضة اليد بشدة المراس، ‏هو الجزء الأكمل الذي يحمي به حوزتَه، ويذود به عن مِقراته، وكأنه هو في الحقيقة، ‏ولا شيء يعادله في الخليقة. لكنه حين استكان إلى ما تحوزه قوته بالملكية، صار ‏مغرورا بما يسكنه من أخبية، ويستوطنه من أبنية، إذ يجادل عن ضرورتها بإقزاع، ‏ويشاجر في وجوبها بإقذاع، ويصارع في حماية عرضها بحمية، ويقاتل على حصون شرفها ‏بوحشية، لأنها عشه الذي يؤوب إليه بفراخ رغبته، وكنه الذي يستر فواتر همته، وإذا ناله ‏مكروه في دربه، أو دهمه غاسق في سربه، هاجت حدته، وثارت شرته، فلا يشهد في ‏أفقه يرى إلا ما يشربه من حميا حرب يخوض حمأتها بوجل، وجفوة، ويغوص في فورتها بعنف، ‏وسطوة، حتى لا تزول نخوة صولته، وتنتهي صبوة جولته. وربما قد يرى وجوده أسبق من ‏كل وجود في الإيجاد، وأقوى من كل معنى في الإيراد. فهو الأصلح للبقاء، وما سواه ‏من أشياء، فهو الأذل المستوجب للعناء، والأحقر المستلزم للفناء. ‏
هكذا كانت سيرة الإنسان حين ابتدأ مسيره بين الفجاج، والشعاب، ومصيره حين لفه ‏السراب على أرض الضياع، والخراب، فلم ير كوة النور التي يرقب شعاعها بين دياجير ‏الظلمات الكثيفة، وحنادس الآفاق العنيفة. وهكذا كان رجاءه في زمن غدر ‏بهمم الحكماء، وأدنى هامة السفهاء، فلم يجد في وحشة الأماكن سبيلا إلى ما تبقى ‏من شهد رفاق دربه، ولا مرفأ يؤوب إليه عند صخب الأماني في غايات كسبه. ‏وهكذا كان أمله بين قوم غالى بهم الفساد، وناء بهم البعاد، فلم يلمس في مرآة قلبه ‏ذلك الصفاء الذي تربى عليه بين الأخدار، ولا ذلك الطهر الذي ارتجى نواله بين الأقطار. ‏وهكذا ارتحل الإنسان عن محل تلاده، ومحج مهاده، لكي يندلق بين شرايين الصحراء، ‏ويندفع بين أمداء الفضاء، وينغمس في مجهول العلامات، وينجرف إلى بحر الظلمات. وهكذا ‏صارع الخفاء بين المجهول، والغياب، وقارع السماء بما فيه من أوجاع الطين، والتراب. ودليله ‏على قلقه فيما يقاوم أنسه، هو ما يحس به من سآمة في نفسه، وما ينزعج له من وجع في ‏ضجره، وما يتبرم به من حيرة في فكره، لأنه إن لم يعثر على صحيح مراده، لن يعيش قصة ‏الحياة بصريح أمجاده. وبرهانه ما يجد في غور فؤاده من صدق، ولو جانف معلوم الحق، لأنه ‏لن يكذب ما يمور في قاع وجدانه من سُول، وقول، ما دام أسره مرهونا بما فيه من حول، ‏وطوْل. وغايته أن يحصر الأشياء في حقيقة واحدة يوقن بشدة سطوعها، لا فيما يخاله من ‏ماهية تكاثرت أنواعها، وصارت مع امتداد الزمن بين تحير المطالع، هي الجزء المحقق لنسبة ‏الاتصاف بحياة الكون الأكثر المهايع، والمدبر لكل أمل في الوصل بمعنى الوجود الأوفر ‏المنابع. ‏
لكن غفلة العقل المستعرة بمحض الظهور، لم تكتف بادعاء مجرد الحضور، بل ‏أوغلت في لثم صخرة العجب، والكبر، ثم انطبعت على مرآتها صور الافتراس، ‏والجبر، وغدت مسعورة بطي كل بساط منشور للتآزر، لكي يصير محموما بخبيئة تعري ‏سوأة التنافر. فما الذي تغير في أطلس الإنسان حين اختفى من ذهنه عشق الموجودات ‏المستوجبة للأمان، وهي في رغبتها تسعى إلى أن توصل كامن الزمان بضامر المكان.؟ ‏لقد تألم الحظ حين فقد نصيبه من متعة المغامرة، وتأذى بأوهام تثري جنون العقل بالمكابرة، ‏فابتنى لطيشه قصورا منيفة، ثم استطلع من قلاع شقائه حدائق الأمل بعيون مخيفة، فكان ‏ما تحارب من نيات قاعه إثما، وكان ما تعارض في بارز دربه ألما، إذ لا يستقر دركه ‏لرأي على حال، حتى يطويه نظر مبخوس الثمن في المقال، ولا يستر الحلم فيه واضح ‏الوهم، إلا وناظره غرور مفتون الفنن بالورم. فما أبله هذا العقل حين كان نارا تحرق ‏الذات في غمرة الأرجاس، وتهدم الكيان بقذارة الأنجاس. بل ما أشد غباء الأمل حين ‏نفى قيمة الدماء الأصيلة، وعراقة القرية الأثيلة، لكي يدعي طهارة العرق في جنس محدد ‏الأصول، وهو في حقيقة العرف القائم في صوغ العقول، لا اتحاد له في رسم التدقيق، إلا ‏عند النظر إلى مجرد الوحدة بلا اعتبار للجزئي المتعدد الأعراض في التصديق، لا بالتأمل ‏في حدود الجوهر الموحد للأعيان بين حضن التحقيق. إذ امتزاج الدماء بين الذوات المتباينة، ‏لا يضره اختلاف الأنساب المتشاحنة، والألسن المتطاعنة، ولا يؤثر فيه اختلاط الأمشاج بين ‏القرى المتنائية، والقبائل المتجافية. ‏
فسواء أولئك الذين استقروا هنا منذ زمن قديم، لا نعرف حصر أيامه بالعد السليم، ‏أو أولئك الذين جاءوا من غور البلدان، يطلبون نجعة المراعي بين الوديان، ويبحثون عن قبسة ‏نار يتقد بها فرن الحياة الحاسرة، ويرغبون في ومضة نور يتضح به ظلام الشعاب ‏الكاسرة. فما ارتبط به المقيمون من نجم ، وقمر، وشمس، هو ما يبحث عنه الواردون ‏بصولة، وحدة، وهوس، وهم لا يفترون عن ترجيع صوت يمتلكون بسطوته مفاتيح القرى ‏الطلقة المشاهد، والطرية الموارد، يرفهون بسرها هادئ الذات، وظلالها، وينعمون بلغزها ‏كامن اللذات، وخصالها، ويعشقون بحنان ما علق بها من أحلام، وأوهام، ومشاعر، ‏وانفعال، وأهواء، وما اتصل بها من زمان، ومكان، وأرض، وسماء، وأنواء، وما التبس فيها ‏من شجار، وعنف، وهذيان، وحمق، وأدواء. فأي فضل لهؤلاء على هؤلاء في تعداد ما ‏نزف بين الديار من مساءة الأفكار، ومباءة الأنظار.؟ فالنسبة إلى أمهم الأرض ‏تمتلكهم، والأكنان التي تستر عورتهم تدفنهم، والأمداء المتوغلة في المجهول ‏تلتهمهم. فالفرق بين ذا وذاك في الصورة الهامسة، ليس إلا في تلك السبل التي يسلكها ‏كل من يرتجي نجاة من غرة الحياة اليابسة، والطبيعة العانسة. فالكل قد مر على ضرورة ‏الخوف من الأشياء التي حوله بعَنْسه، ثم استأنس بمعانيها في عَرْسه، ثم استحالت ألفة ‏يعسر الخلاص من عقدتها المبرمة بإحكام، ويصعب الانفلات من ضغطتها الملتفة بإلمام. ‏
لم يتم الاجتماع إلا بعد التآلف، ولم يقو الالتئام إلا بعد التعاطف، وإذا تلاحمت القلوب ‏على هرم الأتواق، وتوافقت الذوات على شمم الأشواق، تأسس الكيان الذي يرفع همة ‏الشريف، ويضع هامة الخفيف. وإذا تنافرت بنفور البعاد، وتعاركت بعداوة العناد، تبدد ‏كون القرى إلى دويرات متشاكسة، ومراتع متعاكسة، وانقطع السبيل بين الجيران، ‏وانفصل حبل الصلات بين الأوزان، وصار ما يسمع غريبا في الألحان، وثخينا في الآذان، ‏وغذا راغب بهجة الحياة غير مستغن عن لسان مخضب القوة، وطالب زهد الرغبات غير ‏مستوف لحظه في نصاب المنة. وهنا نبتت فسيلة البغضة، ونشأت حطيطة الفرقة، ثم نفر من ‏شرف القبيلة من سلك طريق الغدر بسيء النيات، أو من تاق إلى سالف الأنس الآهل بمتعة ‏السمر بين اللدات. فالذين قطعوا السبيل تمردا، كانوا لصوصا، وصعاليك، وشذاذ آفاق، ‏وهجيراهم ما ينفخون في رماده من اسم، وصرح، وشوق. والذين نفروا من وحشة ‏غربتها احتماء بالأهوية الطليقة، والآفاق العميقة، قصدوا قنن الجبال الشامخة، وبطون ‏الأودية الباذخة، وأغوار البحار الراسخة، ومجاهل البراري الصارخة، لكي يبنوا كن ‏الفضل على بطاح الأمل الوضاح ، ويرموا أنظارهم إلى ذرى الغد الفواح. إذ الفضل يسري ‏حيث يتدثر البوح صراح الود، ويلتحف الصرح ناصع المجد، ولا ود إذا طرق الشجن صارم ‏القطيعة، ويبس ما في النياط من جمال الذريعة.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع