الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملخص كتاب جوانب من الحياة الاجتماعية لمصر من خلال كتابات الجبرتي (ج 2)

يسرا محمد سلامة

2017 / 9 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عانى المصريون من حياة قاسية طوال فترات تاريخهم، وبرغم ذلك فقد اهتموا اهتمامًا كبيرًا بالأعياد والمناسبات؛ لأنّ الشخصية المصرية لم تفقد رغبتها في تذوق المتعة والبهجة، بل والسعى إليها على اختلاف طبقاتهم.
وقد حرص الجبرتي على رسم صورة حية لتلك المناسبات، وما كان يُقدم فيها من أطعمة ومأكولات، ومن تلك المناسبات أول رجب والمعراج وليلة النصف من شعبان، وليالي رمضان، والمولد النبوي الشريف، فيطبخ المصريون الأرز باللبن والزردة(1) ، يملؤون منها قِصاعًا كثيرة ويُفرقون منها على ما يعرفونه من المحتاجين، ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء، فيوزعون عليهم الخبز ويأكلون حتى يشبعوا من ذلك اللبن والزردة.
زمن الحملة الفرنسية، حرص الفرنسيون على إقامة الاحتفالات ولم يُبطلوا عيدًا من الأعياد، أو موسمًا من المواسم، وقاموا باستحداث أعياد مثل عيد الثورة الفرنسية، وعيد رأس السنة الميلادية، في شهر جمادى الأولى سنة 1214هـ / 1799م "اهتم الفرنسيس بعمل عيدهم المعتاد، فنادوا بفتح الأسواق والدكاكين ووقود القناديل، وشددوا في ذلك وعملوا عزائم وولائم وأطعمة ثلاثة أيام".
في غرة ربيع الأول، كان الناس يستعدون للمولد النبوي الشريف، وتُقام الاحتفالات بالقسم الجنوبي الغربي من الفضاء الواسع ببركة الأزبكية، وذكر الجبرتي أنّ المولد النبوي ربما استمر في بعض الأحيان إلى ما يَقرب من خمسة عشر يومًا، وكان يترأس هذا الاحتفال نقيب الأشراف ويجتمع في بيته كبار رجال الدولة للمشاركة في الاحتفال، وفي بعض الأحيان كان النقيب يدعو الباشا لتناول العشاء في هذه الليلة المباركة.
من الأعياد المهمة عند الأهالي، رؤية هلال رمضان، حيث تُقام الاحتفالات لذلك فتُضاء المنازل بالقناديل، وتُتلى آيات القرآن، وعندما تَثبت رؤية الهلال يركب المحتسب ومشايخ الحرف، تُصاحبهم الطبول والزمور مُعلنين ثبوت رؤية هلال شهر رمضان.
ويصف الجبرتي أيام رمضان في تلك الفترة فيقول "ومنها انفتاح الأسواق والدكاكين، والذهاب والمجيء وزيارة الأخوان ليلاً، والمشي على العادة بالفوانيس، واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوي، ووقود المساجد، وصلاة التراويح وطواف المسحرين، والتسلي بالرواية، والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار".
أمّا عن الاحتفالات العامة ذات الأهمية، والتي كان يحضرها الباشا "العيد الصغير"، فجرت العادة أنْ يتوجه كبار الأمراء بعد صلاة الفجر، ومعهم أرباب العكاكيز فيصعدون إلى القلعة، ويمشون أمام الباشا في من باب السرايا متوجهين إلى الجامع لصلاة العيد، وبعد أدائها يعودون بنفس النظام فيهنئون الباشا بتلك المناسبة، وتوزع القهوة والشربات وتوقد المباخر، وكانت المدافع تُضرب ابتهاجًا بتلك المناسبة.
بالنسبة لعامة الشعب، فقد حرصوا على التزاور وتبادل التهنئة فيما بينهم، عقب صلاة العيد في الجامع الأزهر، كما كانت النساء يذهبن إلى المقابر – وبالطبع هذه العادة تحدث إلى اليوم – ويحملن الكعك والبلح، يقومون بتوزيعها على الفقراء، كما يرتدي الصغار الملابس الجديدة.
وبعد عيد الفطر بيومين أو ثلاثة، كانت تُحمل كسوة الكعبة مع الحجاج وهي عبارة عن غطاء وكسوة للكعبة المشرفة – بدأت الاحتفالات بنقل هذه الأشياء من القلعة إلى مسجد سيدنا الحسين، فيخرج جميع المشايخ والعلماء وأئمة المساجد بالمدينة؛ ليصحبوا موكب الكسوة وهو يمر في شوارع القاهرة، وتُحمل الكسوة على ظهور الجِمال في موكب كبير يتقدمه الدراويش، حاملين أعلامًا عليها الشهادتين أو آية من آيات القرآن، ويتقدم الموكب أيضًا الوالي والمُحتسب وحاملوا الطبول والزمور، ونفرٌ من جُند الانكشارية، يَتبعهم الملاحظون المخصصون للكسوة، الذين أشرفوا على هذا العمل.
في العاشر من ذي الحجة، يأتي العيد الكبير ولمدة أربعة أيام، تُنحر الأضحية في اليوم الأول، وعن هذا الاحتفال يَذكر الجبرتي في أحداث شهر ذي الحجة سنة 1216هـ / 1801م، أنه "في يوم الاثنين تاسعة ، كان يوم الوقوف بعرفة، وعملوا في ذلك شِنكًا(2) ، ومدافع، وحضرت أغنام وعجول كثيرة للأضحية حتى امتلأت منها الطُرقات، وازدحمت الناس وأفراد العسكر على الشراء، ونُوديَ بفتح الحوانيت والقهاوي، والمزينين ليلاً، وإظهار الفرح والسرور، وبهجة العيد، كما استمر ضرب المدافع في الأوقات الخمسة، ونُوديَ أيضًا بالمواظبة على الاجتماع للصلوات في المساجد، وحضور الجمعة من قبل الصلاة بنصف ساعة، وأنْ يسقوا العطاش من الأسبلة، وألا يبيعون ماءها".
في ليلة الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الثاني من كل عام، يُقام الاحتفال بمولد سيدنا الحسين، ويَصف الجبرتي هذا الاحتفال قائلاً "حضر الشيخ السادات إلى بيته الذي عَمّره بجوار المشهد الحسيني، وشرع في عمل المولد واعتنى بذلك، ونادوا على الناس وفتحوا الحوانيت بالليل، ووقود القناديل من باب زويلة إلى بين القصرين، وأحدثوا سيارات وأشاير ومواكب وأحمال، وقناديل ومشاعل وطبولاً وزمورًا، واستمر ذلك خمسة عشر يومًا وليلة".
هناك عدة موالد أخرى، كمولد السيدة زينب، ومولد الإمام الشافعي، وليلة الإسراء والمعراج، من أشهر هذه الموالد: مولد السيد أحمد البدوي في طنطا، ومولد السيد إبراهيم الدسوقي في دسوق، ويَحضرهم سنويًا أعداد غفيرة من أنحاء البلاد.
من الأعياد الدورية العامة، عيد وفاء النيل أو "كسر البحر"؛ لأنّ السد يُكسر لتجري مياه النيل في الخليج، ثم أطلق عليه المصريون "جبر البحر"؛ لنفور المصريين من كلمة كسر، وعندما يبلغ النيل ستة عشر ذراعًا فهذا إيذانٌ ببلوغ أفراح القاهرة، ويُبلغ ولي الأمر أنّ النيل بلغ وفاؤه.
في يوم الاحتفال كان الباشا ينزل من القلعة إلى بولاق في مراكب مُزينة، جُهزت له وللصناچق والأمراء، وأُقلعت مراكب الباشا في المقدمة وخلفها مراكب الصناچق والأمراء، وتُضرب له الكثير من المدافع، ويستمر الموكب من مصر القديمة إلى المقياس بالروضة، هناك تُقام الحرّاقات والعرايس النفيسة، ويقع الكثير من القصف واللهو، ويُقيم الباشا سماطًا عظيمًا قبل طلوع الشمس للصناچق والجاويشية والمتفرقة، وبعد السماط يخلع الباشا على كاشف الجيزة، وعلى شيخ عربان الجيزة والصوباشي وأمين الشون، ووالي مصر القديمة ووالي بولاق وأمين البحرين.
لكن، إذا كانت القاهرة في حرب أو مجاعة أو وباء، لم يكن يُقام هذا المهرجان، وقد يُكسر السد ليلاً، فيرى الناس ماء النيل في الخليج صباحًا، فلا يقيمون له زينته ولا مهرجانه.
من التقاليد التي حرصت مصر على القيام بها مواكب السلطان؛ لاستقبال الباشا الذي يختاره السلطان، فقد كان يأخذ طريقه إلى مصر بعد صدور الفرمان، إمّا برًا عن طريق الشام إذا كان قادمًا من إحدى ولايات الشام أو العراق، أو بحرًا إلى الإسكندرية إذا كان قادمًا من السلطنة نفسها.
قَدّم الجبرتي صورة بهيجة لموكب الباشا في القاهرة الذي كان يبدأ بعد وصوله إليها، إيذانًا بصعوده إلى القلعة، ومن ذلك وصفه لموكب إسماعيل باشا(3) 1203هـ / 1788م فيقول "نوديَّ في ليلتها على الموكب فلما كان صبح يوم السبت خامس عشرة خرج الأمراء والوچاقلية والعساكر الروملية والمصرلية، واجتمع الناس للفرجة وانتظم الموكب أمامه وركب (الباشا) بالشعار القديم، وعلى رأسه الطلخان والقفطان الأطلسي وأمامه السُعاة والجاويشية والملازمون، وخلفه النوية العثمانية وركب أمامه جميع الأمراء بالشعار والبيلشانات(4) ، بزينتهم ونظامهم القديم المعتاد، شق القاهرة في موكب عظيم، ولما طلع إلى القلعة ضُربت له المدافع من الأبراج".
نأتي إلى حفلات الزواج، والتي كان بكوات المماليك يتغالون في إبداء مظاهر العظمة والأُبهة فيها، كما كانت أيامها بمثابة أعياد للجميع، فاحتشد الناس لمشاهدة الفنانين الذين كانوا يقدمون برامج وفنون التسلية والملاعيب، وكانت فرصة لتجمع الباعة بمختلف سلعهم وأصنافهم؛ ليعرضوا سلعهم على الحاضرين، وتُعلق القناديل والمصابيح على جميع البيوت المحيطة ببركة الفيل – سكن بكوات المماليك – كما كان سكنًا لبعض العائلات العريقة مثل عائلة الشرايبي بالقاهرة، فإذا أقاموا عُرسًا أعدوا الولائم وأطعموا الفقراء على نسقٍ اعتادوه، وتنزل العروس من حريم أبيها إلى مكان زوجها، تَزفها ليلاً النساء بالشموع.
أُقيمت الاحتفالات عند خِتان الذكور، وقد وصف الجبرتي إحدى هذه الحفلات في 1179هـ / 1765م، فذكر أنّ "القاضي عمل فرح لختانِ ولده، فأرسل إليه علي بيك هدية حافلة، وكذلك باقي الأمراء والاختيارية والتجار والعلماء، حتى امتلأت حواصل المحكمة بالأرز والسمن والعسل والسكر، كذلك امتلأ المقعد بفروق البن ووسط الحوش بالحطب الرومي، واجتمع بالمحكمة أرباب الملاعيب والملاهي والبهلوانات وغيرهم" .
هكذا مارس أهالي مصر الاحتفالات بأعيادهم، ومواسمهم وأفراحهم؛ رُغم ما أحاط مصر في تلك الفترة من صراعات واضطرابات.
خلال القرن الثامن عشر، تعرضت البلاد عدة مرات إلى موجات شديدة من القحط والمجاعة، تحدث الجبرتي عن أسباب هذا القحط وتأثر أسعار الحاجيات؛ نتيجة لذلك، وما ترتب على ذلك من انتشار الأوبئة والأمراض، وبيّن أنّ من أهم أسباب هذه المجاعات انخفاض منسوب مياه النيل، وما تبع ذلك من عجز الفلاحين عن زراعة مساحات كبيرة من الأرض، الأمر الذي نتج عنه قلة المعروض، وتهافت القادرين فقط على الشراء بأسعار مرتفعة.
من الأمراض الشائعة مرض الطاعون الذي كان من أخطر الأوبئة التي أصابت البلاد، ويؤدي إلى الوفاة فورًا ينتشر دائمًا في القاهرة والإسكندرية دون انقطاع إلا قليلا، فبعد أنْ ينكمش المرض بفعل الحرارة الشديدة أو بردوة الشتاء، يعود ليتجدد وترجع إليه قواه المنهكة في الفصل الذي تميل الحرارة فيه إلى الاعتدال.
وهناك أمراض العيون التي كانت شائعة آنذاك، وقد لاحظ ڨ---ولني(5) أنه يوجد عشرون أعمى، وعشرة بعين واحدة، وعشرون عيونهم مصابة بالاحمرار من بين المارة في شوارع القاهرة.
الغريب في الأمر أنّ هذه الظاهرة ليس لها موسم محدد، بل تحدث في أي شهر ولجميع الأعمار، ومن أسباب انتشار المرض حسب رأي ڨ---ولني؛ تصاعد الأتربة مع الرطوبة خاصة في المدن القريبة من البحر، وقد أورد الجبرتي في تراجمه أنّ "البعض كانوا لا يُبصرون أو بهم ضعف الإبصار".
ومن الأمراض الشائعة أيضًا، مرض الجدري الذي كان يتزايد في فصل الشتاء، وقد اتخذَّ شكلاً أكثر خطورة في مصر، عنه في أوروبا، وأُصيب به الأطفال في سن صغيرة أدى إلى وفاتهم.
مرض آخر أطلق عليه الجبرتي "أبا الركب"، وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال، وهو عبارة عن حمى ومقدار شدتها ثلاثة أيام، وقد يزيد على ذلك وينقص حسب اختلاف الأمزجة، ويُحدث وجعًا في المفاصل والرُكب والأطراف، يوقف حركة الأعصاب وبعض الورم، ويبقى أثره أكثر من شهر.
لم تكن هناك مستشفيات لعلاج الأمراض سوى "دار الشفاء" بالمارستان المنصوري بالقاهرة، وهي ليست قاصرة على طبقة دون أخرى، ولأنّ البلاد قد حُرمت من الأطباء المتخصصين؛ مما أدّى إلى وقوع الناس فريسة للغش والخداع من جانب الذين ادعوا المعرفة بالطب ووسائل العلاج.
أمّا بالنسبة للعقاقير المستعملة في هذا العصر، فلقد كان ينقصها التكوين الطبي، وكانت تُصنع من النباتات في أغلب الأحيان، ومن تلك العقاقير زيت اللوز المر، ووصفه الجبرتي قائلاً "أنّ الشيخ إبراهيم بن خليل الصبحاني الغزي، تولى الافتاء بالمذهب في غزة، وكان يُرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي في كل سنة، جانبًا من اللوز المُر في غِلق مقدار عشرين رطلا، فتخرج دهنه وترفعه في الزجاج لنفع الناس في الدهن، ومعالجات بعض الأمراض والجراحات".
وفي عهد الحملة الفرنسية، اتخذ الفرنسيون بعض الاحتياطات العامة لتجنب انتشار الأمراض، فنبهوا على دفن الموتى في القرافات البعيدة عن أماكن السكن، وأمروا بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطح، وتبخير المنازل، كما أقاموا كرنتيله (حجر صحي)، خاصةً في الإسكندرية ورشيد ودمياط.
احتلت العناية بالصحة العامة في عهد محمد علي، مكانًا كبيرًا من تفكيره واهتمامه، فقام بمكافحة العديد من الأمراض، كالرمد والجدري والدوسنتاريا، والكوليرا، وكانت الوسائل التي لجأ إليها إما وقائية كالحجر الصحي، وإما علاجية كالاعتماد على الأطباء الأجانب أمثال كلوت بك، كذلك قام بإنشاء مدرسة الطب واستحضر الكتب الطبية، والأدوية وأقام المستشفيات.

(1) الزردة كلمة فارسية وهي طعام مُكون من أرز وعسل وزعفران.
(2) في التركية شِن بمعنى بهيج، وشِنك أي البهجة والطرب، وشِنك في التركية قُلبت لامها نونًا، واُدغمت في النون الأصلية، وتُطلق كلمة الشنك على الاحتفال الذي يُطلق فيه المدافع والنيران الملونة.
(3) الوالي إسماعيل باشا التونسي الذي حكم مصر 1788م، في عهد السلطان عبد الحميد الأول، ضربت السيول في عهده مصر، كما فتك الطاعون بشعبها.
(4) البيرشانة أو البيلشانة، هي كلمة فارسية دخلت إلى التركية بلفظها ومعناها، وتعني نوع من أنواع العمامة.
(5) قسطنطين فرانسوا فولني 1757 – 1820م، فيلسوف ومؤرخ ورحالة، مستشرق فرنسي، زار الشرق وكتب عن مصر، وتركزت كتاباته في نقد أحوال الشعب والبلاد.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة