الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضوء على العلمانية

منذر علي

2017 / 10 / 7
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لا ريب أنَّ الإخوة والأخوات الأعزاء، الذي يتطرقون لموضوع العلمانية ، يستحقون التحية الحارة، لثلاثة اعتبارات: الأول هو اختيارهم المُوفَق لموضوعٍ حيوي ، وثيقة الصلة بواقعنا الراهن ، والثاني، شغفهم العميق بالحرية والعدالة والتقدم ، والثالث شجاعتهم الفائقة، ليس فقط لتبنيهم مواضيع غاية في الجراءة ، و لكن لقدرتهم في الدفاع عنها بجدارة تثير الإعجاب.
الحديث عن العلمانية في مجتمع متخلف كبلادنا ، ليس أمراً سهلا على أية حال. فإذا قام المرء بتسفيه العلمانية في اليمن أو الصومال أو السعودية، فسيجد قبولاً في المجتمع ، وربما ينال جائزة مالية على مواقفه. إما إذا دافع عن العلمانية ، في مجتمع محكوم بالخرافة والجهل، كمجتمعاتنا ، فسيُرفض و سيتم التنكيل به ، و قد ينال رصاصة في الرأس ، عقاباً له على فعلته. ففي الحالة الأولى فأنَّ الموقف، يتطلب قدراً كبيراً من الجهل والجبن والخسة، وفي الحالة الثانية، فأنَّ الموقف يتطلب قدراً من كبيراً من روح الإيثار ومن الاستنارة الفكرية والشجاعة في مواجهة قوى التخلف.
ذلك أنَّ الهجوم على العلمانية في اليمن ، يعني، بشكل غير مباشر، دفاع عن التخلف ، و مجاراة السائد القبيح ،وهنا يمكن لمن يختار هذا الطريق أنْ ينال جائزة كبرى من أعداء العلمانية ، كما سبق أنْ أشرتُ في الفقرة السالفة، وربما تكون جائزة مشتركة ، موقعة من عبد المجيد الزنداني ، وعبد الملك الحوثي ، وغيرهما من زعماء التخلف، ولكن الدفاع عن العلمانية، يعني دفاع عن التقدم ، و تحدي جسور للسائد القبيح، و محاولة جريئة لسحب البساط من تحت أقدام القوى الدينية التي تستقوي بالسماء ضد الأرض، خدمة لمصالحها ، تحت ذريعة خدمة الدين. وهنا قد ينال المدافع عن العلمانية ، ما ناله ، جار الله عمر في اليمن ، وفرج فوده في مصر ، ومحمد محمود طه في السودان، وحسين مروة في لبنان ، وغيرهم في تاريخنا العربي والإسلامي والعالمي.
واضح أنَّ كثيراً من الذين أصدروا الفتاوى ، تسويغاً للقتل، كانوا يعلمون تماماً أنَّ العلمانية ليست ضد الدين ، كعقيدة ، ولكنها ضد سلطاتهم الدينية وضد احتكارهم للدين ، أما الأشقياء ، الذين باشروا عملية القتل والفتك بالمفكرين الأحرار في كل من اليمن ومصر والسودان ولبنان والأردن وتونس ، فأنهم لا يعرفون معنى العلمانية، وإنما نفذوا ما طُلبَ منهم. ولذلك يمكن القول إنَّ "العَالِم الكهنوتي" استعان بالجاهل الشقي، لتثبيت الجهل، الذي يخدم مصالح رجال الدين ، ومصالح الفئات الاجتماعية والطبقية المهيمنة في المجتمع ، والمُهميْن عليها من الخارج.
في اليمن ثمة مذاهب دينية مختلفة ، وإلى حدٍ ما أديان مختلفة. فهناك المذهب السني ، بأجنحته المختلفة، وهناك المذهب الشيعي ، بأجنحته المختلفة ، وهناك الدين الإسلامي ، بشقيه السني والشيعي ، وهناك بعض الأقليات اليهودية والمسيحية ، ولو بنسب ضئيلة للغاية، ولكن لا السنة متفقين فيما بينهم على نظرية الحكم، ولا الشيعة متفقين فيما بينهم على نظرية الحكم ، ناهيك عن التباين الواضح بين مختلف المذاهب والأديان المتعارضة .
وهذا التنوع الديني موجود، بأشكال مختلفة ، في العالم العربي والإسلامي ، وفي كل المجتمعات البشرية، ولا يشكل مشكلة إلاَّ في المجتمعات التي تحاول أنْ تفرض سلطة مذهب ما على المذاهب الأخرى. ذلك أنَّ هيمنة الكاثوليك على السلطة ، ترتب عليه اضطهاد البروتستانت والعكس صحيح، في أوربا خلال العصور الوسطى، أو هيمنة البوذية على غيرها في مانيمار ، ترتب عليه اضطهاد ذوي الديانات الأخرى ، وخاصة المسلمين ، كما هو قائم اليوم ، و هيمنة السنة على السلطة ، ترتب عليه اضطهاد الشيعة والمذاهب الأخرى ، كما هو الحال في السعودية والبحرين وأفغانستان ، وهيمنة الشيعة على السلطة، ترتب عليه اضطهاد السنة والمذاهب الأخرى ، كما هو الحال في إيران وسوريا ويمن الإمام أحمد وعبد الملك الحوثي.
من جانب آخر فأنَّ هيمنة التيارات الإلحادية الضيقة على السلطة ، كما كان الحال في عهد ستالين في روسيا ، أو في عهد بول بوت في كموديا ، نتج عنه اضطهاد المتدينين ، ولكنه في الوقت نفسه عزز ، بشكل غير مباشر ، من الاتجاهات الدينية. ففي عهد ستالين، مثلاً ، خبت الاتجاهات الدينية ظاهرياً ، ولكنها فعلياً زادت ، كما تبين لاحقاً، عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أوهام بعض النخب العمياء ، التي أصابها الجمود ، وخالفت الفكر الاشتراكي الخلاق ، ، التي كانت تعتقد أن الأديان تسير نحو الاندثار في تلك المجتمعات . كما أنَّ هيمنة التيارات الدينية الضيقة على السلطة ، كأوربا في العصور الوسطى ، وكالسعودية وإيران اليوم ، تقضي بالضرورة ، باضطهاد غير المتدينين ، وهذا لم يؤدِ إلى زوالهم ، كما توهم الناس في الماضي ، ويتوهمون في الحاضر، وإنما أضعف الدين ، وضاعف عدد الملحدين. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى العلمانية كإطار فكري وسياسي لتجاوز المأزق القائم ، جراء التعصب ، بشقيه ، الإلحادي والديني.
إذن ، ما العلمانية؟
العلمانية لا تعني أجبار الناس على الإلحاد، أو على التدين، وإنما تعني، ببساطة ، أنْ يسمح بالتدين وعدم التدين في آن معاً ، أي أنْ يمتلك الإنسان مصيره ، ويختار ما يروق له ، سواء أتصل الأمر بالدين أو بالحب أو بالطعام أو بالملبس أو بالمكان الذي يقيم فيه ، بشرط أنْ يراعي القيم الاجتماعية العامة للمجتمع ، وأن لا يجرح مشاعر الناس ، وأنْ لا يضر اختياره الحر ، بالاختيار الحر لشقيقه الإنسان في الوطن ، وأن تقف الدولة على الحياد من كل المذاهب الدينية الموجودة في المجتمع.
من الواضح أننا هنا لا نتحدث عن الاشتراكية أو الرأسمالية ، ولا نتحدث عن المجتمعات الشرقية، أو الغربية، وإنما نتحدث ، عن الإطار الفكري العام للعلمانية في كل مكان.
فالعلمانية ، يمكنها أنْ تطبق على الطريقة اليابانية ، حيث أنَّ الديانتين الغالبتين في المجتمع ، هما الشنتو والبوذية ، 85% ، بينما تمثل المسيحية والطوائف الدينية الأخرى ، حوالي 15% ، ولكنها تحظى بنفس الاحترام ، مثل ديانتي الأغلبية السكانية ، وليس هناك من طائفة دينية تسعى لفرض دينها على آخر، تحت ذريعة أحقيتها في الولاية!
وبالتالي ، فأنَّ العلمانية ، يمكن تطبيقها ، في مجتمع ذات جذور شنتوية- بوذية كاليابان ، أو مسيحية كأوربا والأمريكيتين ، أو هندوسية كالهند ، أو إسلامية كتركيا وماليزيا، أو في بيئة سياسية اقتصادية رأسمالية كمختلف دول العالم، أو في بيئة سياسية اقتصادية اشتراكية، مثل كوبا وفنزويلا. ويمكن للعلمانية أن تأخذ شكلاً متطرفاً عنيفاً ، كما حدث في عهد ستالين وأتاتورك ، كما يمكن أنْ تأخذ شكلاً عقلانياً معتدلاً ، كما حدث ويحدث في أكثر دول العالم المعاصر ، وخاصة في الدول الاسكندنافية. فالمبادئ العامة للعلمانية واحدة ، وتشكل مخرجاً من المأزق القائم ، ولكن تطبيقها مشروط بطبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية لكل مجتمع.
والخلاصة أنَّ ما ينبغي علينا أنْ ندركه ، هو أنه لا مستقبل ، البتة، للحكومات الدينية في العالم المعاصر.
وفي السياق اليمني ، فأنَّ تطبيق العلمانية ، سينفع الشعب ، ولن يضر الدين ، ولكنه ، بمعنى ما ، سيضر رجال الدين ، لأنها، أي العلمانية، ستسحب البساط من تحت أقدام قيادات حزب الإصلاح وأنصار الله والجماعات السلفية وأنصار الشريعة وشرائح واسعة من المتاجرين بالدين، سواء في المساجد والمعاهد والمؤسسات الدينية و القضائية والوقفية، و لكنها في الوقت نفسه ستحثهم للبحث عن وظائف أخرى ، محترمة ، كالنجارة والتجارة ، والزراعة والصناعة، أكثر نفعاً للمجتمع، وستجنب بعض رجال الدين الافتراء على الله ، والتسول المؤذي باسم الدين الإسلامي الحنيف.
العلمانية لا تعارض الدين ، وإنما تحرر الدين من " شعبطة" الكهنة ، المتاجرين به ، الذين ليس لديهم حرفة محترمة، سوى تعذيب المجتمع ، ودفعه للتقاتل والشقاء، والتربح من تعميم الخرافة ونشر الخراب و الموت.
فإذا طبقنا الشريعة ، وفقاً لمفهوم عبد المجيد الزنداني ،فأننا سندخل في خلاف لا نهاية له مع الجماعات السفلية ، كما اختلف طالبان مع حكمتيار في أفغانستان ، وكما أختلف جعفر نميري والترابي مع محمود طه ، وكما اختلف عمر البشير مع الترابي في وقت لا حق في السودان ، وكما اختلفت داعش مع النصرة ، وإذا طبقنا الشريعة ، وفقاً لمفهوم عبد الملك الحوثي ، سندخل في صدام مع جماعة الزنداني، كما هو حاصل اليوم. ورطة!
ومن هذه الزاوية ، فالعلمانية ، تعني التحرر من الورطة ، بالتحرر من وصاية رجال الكهنوت ، وبناء الدولة خارج نظريتي الحكم السنية والشيعية ، بالاستناد على العلم ، وترك الشأن الديني الفردي للناس ، حيث يمكنهم أنْ يختاروا غذاءهم الروحي ، تماماً كما يختارون غذاءهم المادي، عن طريق الكد والكدح، مثلهم ، مثل العمال والمزارعين والمدرسين وغيرهم.
لندع البشر يختارون الإسلام على طريقتهم ، سواء على هدى المذهب الزيدي أو الإسماعيلي الاثناعشري أو الأباظي، أو السني ، ولنحمي الناس ، بمختلف معتقداتهم ، ونعاملهم سواسية كبشر وكمواطنين ، ونشيِّد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والثقافي المناسب ،الذي ينبغي أنْ يكون خارج المذاهب ، وقائم على العلوم الحديثة ، السياسية والإدارية والاقتصادية والقانونية ، وعلى منظومة حقوق الإنسان العالمية.
بالطبع ، النظام العلماني ، المأمول في اليمن ، ينبغي أنْ يعكس المناخ الحضاري للبلد، ولكن لا ينبغي أنْ يغرق في الخلاف بين عليٍّ ومعاوية ، ويكون صورة طبق الأصل ، لما هو قائم اليوم في "اليمن السعيد" ، أو لما هو قائم في الجوار القريب والبعيد ، كالسعودية والسودان والصومال و إيران.
كما ينبغي في الوقت نفسه ، أنْ يعكس المناخ الفكري للعالم المعاصر، ولكن لا ينبغي أنْ يُطبق حرفياً ، كما ُطبق ويطبق في فرنسا منذ عهد الثورة الفرنسية، أو أنْ يكون صورة طبق الأصل ، لما هو قائم هناك في الوقت الحاضر، فهذا أمر غير ممكن على أية حال.
إذِنْ ، دعونا نتدبر الطريق إلى الله بأنفسنا، دون واسطة من أحد ، وأنا على يقين ، أننا سنكون أكثر إيمانا وأكثر تحضرا ورقيا. ويمكن، بالطبع ، لرجل الدين أن يتدخل في الدين، أنْ أراد ذلك ، ولكن في دينه ، هو، وليس في دين غيره، أي ينبغي أنْ يكون تدخله ذاتي ، بمعنى يمكن للمرء أن يتدخل ضد نفسه ، قبولاً وتعميقاً لمعتقده الديني، أو تعديلاً ورفضاً لما يعتقد به ، ولكن دون التدخل في الشأن الديني للشريك الآخر في الوطن، فهذا أمرٌ لا ينبغي أنْ يعني أحد آخر غير الفرد ذاته وعلاقاته المستقلة بخالقه.
يمكن للمتدين أنْ ينتقل من المذهب السني إلى المذهب الشيعي ، أو العكس دون حجر، ولكن لا يحق له أنْ يسيء لمعتقدات الطائفة التي لا ينتمي إليها أو الأديان الأخرى. وكما يمكن للكافر أنْ يتدين ويصبح مسلماً ، شيعياً أو سنياً، ، ينبغي أيضاً أنْ يتاح للمتدين أنْ يكفر ، إذا أراد ، فهذا لن يضعف الدين، كما يتوهم البعض ، وإنما قد يُطهِّر المجتمع من "المتدينين الكفرة" ، ومن "الملحدين الفجرة" ، وفي المحصلة ، سينمو التفكير الحر والعقلاني في المجتمع، وسيعود بالنفع على الجميع ، وسيبقى الدين إلى قيام الساعة.
و على الدولة أنْ لا تتدخل في شؤون الأفراد، إلاَّ في حالة أنْ يعتدي إنسان أو جماعة على إنسان أو جماعة أخرى، أو أنْ يخالف الناس القوانين العامة العادلة التي تحكم المجتمع. والدولة عليها أنْ تحتكر القوة وتحمي المجتمع من نفسه ومن غيره، ولا ينبغي أن تكون مجرد أداة وتسلط بيد طائفة معينة ضد طائفة أخرى، تحت مسوغات قبلية أو جهوية أو فكرية أو دينية . في الأخير إنَّ علينا أنْ نتذكر أنَّ الجهل، يمكن أن يجعل المرء يعبد قاتله ، دون أنْ يعلم، متوهماً أنه يعبد الله !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا