الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا الشرق شرق والغرب غرب؟ الإسلام والمسيحية بين ثقافة العار وثقافة الذنب

ياسمين عزيز عزت

2017 / 10 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لطالما أرقني السؤال، لماذا الشرق شرق والغرب غرب، لماذا لا نستطيع أبدا أن نتطور ؟ حاول البعض تطويع هذا السؤال وإجاباته لمصلحة أجنداتهم الخاصة أو أيديولوجياتهم بحسن أو بسوء نية، فالبعض يحلو له دائما إلقاء (كل) المسئولية علي عاهل النظام الحاكم، والنظام هنا كلمة تنطبق علي الملك وعبد الناصر والسادات ومبارك ومرسي والسيسي بدون تفرقة، وبدون تفكير، وأراهنك أن نفس الكلام سيتردد عن الرئيس القادم، ومن بعده ومن بعده . ولن يصمد هذا الإدعاء أبدا للتحليل الموضوعي، فإذا كان السادات مثلا قد حاول إرساء أسس دولة دينية، فناصر من قبله لم يفعل ذلك، بل بالعكس لقد حاول ما في وسعه أن يشيع روحًا تقدمية في مختلف المجالات، وإذا كانت المشكلة في نظام الحزب الواحد الذي فرضه ناصر، فالسادات أعاد الأحزاب، وإذا كانت المشكلة في (العسكر) ديكتاتوريتهم، فماذا فعلنا أيام الملك ؟ (أرجو ألا تكون ممن يعتقدون بالفعل اننا كنا أغني من انجلترا، وأكثر حرية من باريس، إذ سيلزمك قبل إكمال هذه السطور أن تعود لقراءة التاريخ الحديث كله) . وينبغي ألا نقيس مستوي تمدن الشعب المصري بما نراه في الأفلام القديمة والصور من مظاهر حيوات الطبقات المتمصرة والمختلطة والمصرية المتفرنجة، والتي كانت تمثل نسبة لا تذكر من الشعب المصري، وألا تعتبر أن موضة التنورة القصيرة كانت تعني أننا كنا بالفعل متحررين اجتماعيا، بالعكس، فبرغم أننا بالفعل تدهورنا نسبيا في هذا الصدد، إلا أننا كنا دائما رجعيين في الأساس، والروايات والأفلام القديمة نفسها تشهد علي أن نظرتنا لحرية المرأة، الشرف، والحرية الشخصية وغيرها لم تتغير، بل بالعكس فربما كنا قد تطورنا في مناح أخري بخلاف الثياب تطورًا طفيفًا، فبينما كانت الفتيات غير مسموح لهن إطلاقا بالإختلاط بالشباب، فقد أصبح مقبولا بعض الشيء في الكثير من الظروف أن تكون هناك صداقات حقيقية بين الجنسين الآن، لم تكن هناك علاقة بين شاب وفتاة في أزمنة التنورة القصيرة إلا في إطار الحب والهيام .
يتغني بيرم التونسي الذي عاش من 1893 حتي 1961 أي أنه عاصر عهدنا الذهبي الذي نتغني به، بجمال لندن وباريس اللتين عاش فيهما في العشرينيات والثلاثينيات، ورقيهما مقارنة ببلادنا التي عدد مظاهر الهمجية والسوقية فيها من (شحط) يتسلي بقزقزة اللب إلقاء قشره في الطريق، وآخر يأكل الخس، و(حافي) يمص القصب في الشارع، وبالطبع يلقي أيضا بقشره في الشارع، وعراك في الأفراح، وصراخ النساء كواجب اجتماعي يؤدينه في حالات الوفاة، كما يتحدث عن (الفهلوة) والنصب وغياب الأمانة وافتقار الناس للنزاهة في التعاملات المادية وغيرها، وتدخل المرء في شئون غيره و(التزييط) عند رؤية مشادة، والكلام فيما لا يفيد وعدم احترام المجال العام، والتصرف في الطرقات العامة بصورة تشعرك بأن كل مواطن يعتبر الشارع ملكيته الخاصة، وليذهب الآخرون للجحيم ! إن ما صوره العمل السينمائي (عسل أسود) مثلا لهو يجسد التطور الطبيعي لما صوره بيرم وغيره من ثمانين عام.
وإذا كنت من هواة قراءة الأدب المصري القديم فستجد بنفسك أمثلة كثيرة علي وجود نفس الآفات في الريف المصري، والأحياء الشعبية منذ عقود وعقود، فيحدثنا يوسف السباعي في الأربعينيات عن مدي قذارة الأحياء الفقيرة، ولا يجد مبررًا لتفنن الناس في رسم لوحات من القبح في شوارعهم، ويحي حقي والحكيم وكثيرون غيرهم، صوروا لنا مدى الظلمة التي رسف فيها أجدادنا قبل ثورة 1952 بكثير( والمجال يضيق بالطبع عن التطرق للقرون السابقة كلها)، فالتاريخ المكتوب والمسجل والشفاهي، سواء عن طريق التأريخ المباشر أو العرضي من خلال الأعمال الفنية والأدبية يسجل مدى تدهور وضع المرأة من قديم، حجم الرياء والإنتهازية والإستغلال، وغياب الخلق القويم والتفات الناس لمصلحتها الشخصية، و سطحية اهتماماتهم، وعدم التفات أغلبهم لمصادر الثقافة والفنون الراقية، ورجعيتهم، وعدم أصالة الكثيرين من المحسوبين علي المثقفين، والناشطين في مجال السياسة، والحقوقيين وغيرهم ممن يعتبروا نخبة المجتمع.
بذلت وسائل الإعلام الذي يطلق عليه (الإعلام الموجه)، في عصر مبارك مثلا، كل جهدها لإقناع الناس بتنظيم الأسرة ( حيث لم تجرؤ بالطبع علي المناداة بتحديد النسل صراحة )، عن طريق الإعلانات تارة، والحديث المباشر تارة، والأعمال الفنية تارة أخري، إلا أن الناس " أذن من طين والأخري من عجين"، والآن تجاوز عددنا المئة مليون وانضم موضوع تنظيم الأسرة مع غيره إلي قائمة التابوهات التي يخشي من يحرص علي سلامته الحديث فيها، بعد ما شهدناه من "صحوة دينية" في بداية الألفية الثالثة، أجهز فيها التيار الديني علي ما تبقي من بعض مدنية هذا المجتمع، وسجل انتصارا هائلا علي تيار التنوير في معركة خاض فيها الإعلام "الموجه" المسكين حربا ضروسًا في الثمانينيات والتسعينيات بقدر ما أتاحت له عقليات المستقبلين، وبقدر الإستنارة النسبية التي تمتع بها من احتضنهم من مبدعين . وبمناسبة الحديث عن الإعلام الموجه، وهي ديباجة مستهلكة مازال يرددها الكثيرون من مدعي الثقافة ومدعي الإنتماء لتيارات فكرية وسياسية هي منهم براء، لا لشيء إلا لعدم إخلاصهم لما يدعونه من أفكار، فلا يكفي لأن تكون يساريا مثلا أن تردد كالببغاء بعض الشعارات التي رددها آباؤنا في الخمسينيات و الستينيات وما قبلها، ثم تحيا حياتك بدون بذل أي جهد في العيش بحسب ما تردد أنك تؤمن به، وتلقي بتبعات كل مصائبنا علي أي نظام مهما كان، لأن هذا يظهرك بمظهر الثائر، المثقف، المتفرد بأيديولوجية تميزك عن " جموع الشعب المغيبة"، فقد سجل التاريخ بطولات يساريين آمنوا وعاشوا بما نادوا به، وبذلوا حياتهم بل وأرواحهم لتحقيق أهداف اختلفنا أو اتفقنا معها فقد كانوا مخلصين بحق لها، ومن يحيا ما يدعو به سيتطور فكره تلقائيا ليوائم عصره . الإعلام الموجه تعبير بال لأننا في عصر الفضائيات، والتلفزيون الرسمي أصبح لا يشاهده أحد، فلا نستطيع إنكار أن الإعلام يتمتع بقدر هائل من الحرية سواء شاءت النظم الحاكمة أم أبت، وإن خشي الإعلامي من الملاحقة، فما عليه إلا أن يتخذ مقرا لإقامته في الخارج ويبوح بما يريد البوح به، ومن الصعب منع المتلقين من الوصول لما يريدونه من المعلومات، ومن سماع كل الآراء إن لم يكن عن طريق القنوات الفضائية فعن طريق شبكة المعلومات، فماذا فعلنا بالحرية؟ لا شيء تقريبا إلا عدد لا يحصي من البرامج التي يسب فيها كل الناس كل الناس، وكلما ازدادت تفاهة وضحالة وزيف المادة المعروضة ، كلما ازدادت نسبة المشاهدة، فهل بالله عليك يمكننا أن ننسب هذا أيضا للحكومات ؟
كان الماضي أفضل كثيرا نعم، لكن لا يعني هذا أننا كنا متطورين أو متحضرين ( برغم محاولات بعض النظم السياسية في الماضي، والكثير من المحاولات الفردية لرواد التنوير في بلادنا للإصلاح)، بل يعني ببساطة أن الحاضر فاق كل حدود القبح الممكن تخيلها، ولكنه التراكم الكمي للكثير من الأفكار والممارسات المتخلفة التي كانت دائما موجودة، أثمر ما نراه الآن من سوقية فجة، ورجعية مدمرة وتطرف ديني وجهل وبهيمية.
عندما يأتي مسئول ويحاول إتخاذ إجراء لتحقيق المساواة مثلا بين الرجل والمرأة، أو المساواة بين المنتمين لأديان مختلفة؛ فإنه كثيرا ما يواجه بمقاومة من الشعب نفسه والأمثلة كثيرة .
فالمتغير هو موقف الحكومات، بعضها تصدى للرجعية وحاول بث روح تقدمية، وحاول النهوض بالفكر والفن والتعليم والإقتصاد، وبعضها فعل العكس، لكن الثابت كان موقف أغلبية الشعب من هذه المحاولات، فالتغيير إذا حدث، كان إما مؤقت وإما ظاهري، فلا يمكنك أن تعتبر انتشار السفور في الخمسينيات والستينيات، ومعظم السبعينيات دليلا علي تمتع المرأة بحريتها، وإن كان فيه بعض من الحرية التي ننشدها، لكنه كان مجرد عرض لا يعبر عن أساس متين أو قناعة أصيلة في نفوس السواد الأعظم من الشعب بحرية المرأة ككيان مستقل كامل، فدائما ما كانت المرأة مطالبة بالخضوع، ومهما حاولت النسويات (باستثناءات نادرة) أن تحطمن التابوهات التي تقيد المرأة الشرق أوسطية، إلا أنهن حاربن في دائرة لا تتعدي المناداة بالتعليم، بحق المرأة في العمل، وفي اختيار شريك الحياة ..إلخ، لكن أمور كالحرية الجنسية والحرية الدينية مثلا، أو حق المرأة في العيش بمفردها أو مساواتها بالرجل في الإرث، وفي اتخاذ كل القرارات المتعلقة بالأسرة مثلها مثل الرجل فهي أمور لا تناقش إلا في أضيق الحدود، وفي مجتمعات النخبة الثقافية الحقيقية .
ففي كل الأزمنة، سواء أزمنة الملكية، الإشتراكية، أو الرأسمالية، ديمقراطية كانت أو ديكتاتورية، لم يتغير أبدا موقف الشارع المصري، ولم تتغير سلوكياته التي يمكن وصفها بأنها تمثل سمات المجتمعات المتأخرة بحسب توصيف علم الإجتماع لهذه السمات فهي قبلية، يتدخل فيها كل شخص في حياة الآخر إلي حد الإيذاء، ويسعي كل فرد فيها لإرضاء المجتمع لا لتكوين وجهة نظر مستقلة في الظواهر التي تعرض له واتخاذ موقف يرضي قناعاته هو وضميره، فالعقل نقلي لا نقدي، وسلوك القطيع هو المهيمن، فهو مجتمع شمولي يريد من أفراده اتباع أكواد معينة في الظاهر يطلق عليها تارة العادات والتقاليد وتارة الاخلاق (وهي تسمية خاطئة ) وتارة القيم الدينية، ولا شأن له بالضمير ولا روح الأخلاق الحقيقية التي لا يمكن في أغلب الأحيان أن يقرر مدى مطابقة سلوك الفرد لها من عدمه إلا الفرد نفسه .
ويحتج البعض بأن سبب تخلفنا هو عدم فرض الحكومة قوانين تحقق ما نصبو إليه من تمدن، وبالرغم من أهمية القوانين إلا أنها من المستحيل ان تحقق وحدها شيئا، فمثلا هل من الممكن أن تنجح القوانين التي تعاقب المتحرش جنسيًا في الحد من هذه الظاهرة ؟ ستنجح جزئيا ووقتيا، فسنجد صداها في بعض أحياء القاهرة المسلط عليها الضوء، ولمدة معينة حتي يخف الضجيج بعض الشيء أولا بسبب العدد الكبير جدًا من المتحرشين، والذين لا يجدون رادعا لهم فيمن حولهم، حيث تحاول أغلبية الناس عند الإمساك بمتحرش (تطييب) خاطر الفتاة أو تخويفها من (الفضيحة) أو إلقاء اللوم عليها بسبب ملابسها ! وحتي لو افترضنا أن كل فتاة تتعرض للتحرش اللفظي أو الجسدي ( حيث لا توجد عقوبة علي التحديق المستمر والذي يصيبك بالغثيان أو التوتر ) ،ستقوم بالإمساك بالمتحرش لتسليمه للشرطة، فليس من الممكن إيجاد خمسين شرطي مثلا في كل شارع ليتولى ضبط كل المتحرشين. إن القانون ينبغي أن يكون تعبيرًا عن رفض المجتمع أو قبول غالبيته علي الأقل لسلوك معين، وإلا كان مجرد حبر علي ورق كما هو الحال بالنسبة لقوانين عديدة.
والمجتمعات المتخلفة يلتزم أفرادها بالسلوك القويم فقط خوفا من العقاب لا انطلاقا من إيمان حقيقي بصواب السلوك، ولكن كما شرحت من قبل، لن يمكنك إيجاد العدد الكافي من ممثلي السلطة التنفيذية لتطبيق القانون إذا ما كانت المخالفات سلوكا عاما، إذا افترضنا رغبة كل ممثلي هذه السلطة في تطبيق القانون دائما، إذ لا يفوتنا أنهم أيضا جزء من هذا الشعب. والحلول التي تأتي (من فوق) فقط أثرها جزئي ووقتي، فبمجرد أن يلتفت الشرطي للناحية الأخري، سيرمي المارة القمامة في الشارع، وبمجرد رحيل الرئيس الذي فرض من فوق قوانين تقدمية، سيتحول الجزء الذي تمكنت السلطة من فرض التقدمية عليه مظهريًا إلي رجعية مساوية في القوة .
و يحتج آخرون بالفقر، ومع تسليمي بأهمية توفر الحد الأدني علي الأقل ليس من الإحتياجات الأساسية فقط، ولكن من الرفاهية أيضا لكل إنسان، فلسنا آلات يكفيها الغذاء والكساء لتسير، بل بشر تلعب الحالة النفسية دورا هاما في التأثير علي سلوكياتنا، لكن احتجاجي فقط بأنه حتي مع توفر الإمكانيات المادية بوفرة لدى قطاعات معينة، فإن السلوكيات لا تختلف كثيرا، بل ربما زادت عليها الأنانية والإستقواء علي من لا يملكون، ثم أنه لنا مثلا في عدد كبير من شعوب المنطقة التي ترفل في الثراء لكنها أفقر ما يمكن في الموارد البشرية، وتأتي علي رأس قائمة الدول المتخلفة فكريا والمنتهكة لحقوق الإنسان بشكل مقنن ومصدق عليه سواء من حكوماتها، أو من السواد الأعظم من مواطنيها والذين لم يقتنوا بأموالهم من منتجات الحضارة الغربية التي تسني لهم الإحتكاك بها إلا المنتجات المادية فقط .
فهل بعد كل هذا سنقر أخيرا بأن الدائرة تبدأ وتنتهي بالإنسان ذاته ؟ وبأن جذور التخلف كامنة في نطاق أعمق بكثير مما يمكن للنظام السياسي أو الحالة الإقتصادية التأثير فيه بشكل جذري دائم ؟ وهل يجانبني الصواب إذا ما اعتبرت أن الفكر الديني قد يكون المحرك الأكثر تغلغلا في صميم النفس البشرية ؟ وإذا كانت الثقافة السائدة في الشرق هي ثقافة العار والثقافة السائدة في الغرب بشكل عام هي ثقافة الذنب، أفلا يكون من الضروري عدم إغفال العلاقة بين الديانة السائدة في الشرق من ناحية، والديانة السائدة في الغرب من ناحية أخرى، وبين الثقافة السائدة في كل من المجتمعين ؟ وسواء اعتقدنا في ألوهية الأديان الإبراهيمية أو وضعيتها، فالواقع أنها تطورت عن بعضها، فالمسيحية قد تطورت عن اليهودية تطورا كيفيا، بينما تطور الإسلام عن اليهودية تطورا كميا، حيث زاد عدد الشرائع و زاد مقدار تدخل الدين في حيوات البشر، وبينما كانت اليهودية قاصرة علي شعب معين، نجد الإسلام دينا تبشيريا هدفه نشر العقيدة في العالم كله، وهو يتفق في هذا مع المسيحية وإن اختلفت الطريقة إختلافا تاما. والمسيحية هي أكثر الديانات الإبراهيمية انتشارا في الغرب، بينما الإسلام هو أكثر هذه الديانات انتشارا في الشرق، وإن كان هناك نسبة كبيرة من الأوربيين والأمريكيين لا دينيين، فإن الجانب الذي يخصنا هنا من المسيحية هو مدى ارتباطها بثقافة الذنب، ومدي بعدها عن ثقافة العار، لا تتناقض فيه مع الفكر اللاديني إن لم تكن قد أرست لهذا الجانب منه.
و المقارنة بين الإسلام و المسيحية في تأثيرهما علي المجتمعات هنا هي مقارنة بين العقيدتين لا بين المؤمنين بهذا أو تلك، لكن ما الفائدة إذا كنا نجد أن الكثيرين من أتباع الديانات لا يطبقونها كما أريد لها سواء من الله إذا كنت تعدها سماوية أو من واضعيها ؟ فمثلا ما فائدة التسامح في الإنجيل إذا كان الكثير من المسيحيين يحتفظون بالضغائن ؟ الفارق هو أنه مهما ابتعد التطبيق عن النظرية، فستفرض النظرية نفسها في أماكن ومجتمعات عدة، وستحدث تغييرا آجلا أم عاجلا لأنه لن يعدم أبدا المخلصين من أتباع الديانة، وكذلك سيحدث وجود مفهوم احترام حرية الآخر في النص الأصلي فارقا في مدى استطاعة أتباع الدين فرض سطوتهم علي الآخرين من أتباع الديانات الأخرى، او اللادينيين في مجتمع ما . وكذلك ينبغي إذا كنا سنقوم بالمقارنة بين مجتمعين دينيين أن نضع في اعتبارنا عوامل أخرى ككون أتباع هذه الجماعة الدينية أقلية مثلا في البلد الذي يعيشون فيه.
ثم أن الفارق بين جماعة دينية وأخري نسبي، إذ تشترك الجماعات الدينية كلها في عدة مظاهر؛ فعادة ما تجد رذائل معينة تسود هذه المجتمعات المغلقة عادة فالفارق هو في الدرجة، فكل الكنائس التي عرفتها كانت مكبلة بتابوهات، وكان كثيرا ما يسود الرياء مع الله والناس العلاقات بين أفرادها، وهم يتداخلون في حياة بعضهم البعض أحيانا بشكل فج، وكثيرا ما تسود رذيلة الإدانة والنميمة برغم النهي القاطع مرارًا وتكرارًا في الإنجيل عن إدانة الغير بأي شكل، وربما كان الوضع أفضل نسبيا في كنائس الخارج، إلا أنها أيضا تشوبها هذه السمات لكن بدرجة أقل، فكنائسنا هنا أغلبها لم يتطور علي الإطلاق لأسباب عديدة، لكن تظل هناك إمكانية وصول إحدي المجتمعات الدينية إلي شكل أكثر تطورًا من المعتاد إذا سمح النص؛ فمثلا توجد كنائس في أوربا تقيم مراسم زواج للمثليين برغم إدانة الكتاب المقدس للمثلية، إلا أنه أيضا أقر بأن الإنسان لن يصل أبدا للكمال الذاتي، كما أنه لم يعط الأولوية للشريعة في حياة المؤمن بل أعطاها للروح المحيي المتجدد والمجدد في مقابل الشريعة الجامدة، وهو أعطي المحبة مكانة لا تقاربها مكانة أخرى بين الفضائل، فهناك نافذة تسمح بدخول بعض النور، فإذا لم تسمح الكنيسة بعقد زواج ديني لمثلي فيها إلا أنها لا تملك وفقا لكل ما جاء في الإنجيل التدخل في حياة من هم خارجها بأي شكل .وعلى أي حال فأنا لا أحاول أن أصور المجتمع المسيحي كيوتوبيا، إطلاقا وأؤكد أن المسيحية نفسها لا تبشر بيوتوبيا أرضية، كما أن أي مجتمع تحكمه أيديولوجية معينة لابد أن تظهر فيه بعض الآفات، بل أنا فقط أرى أنه ربما كانت المسيحية، وإن لم تساهم في تطور المجتمعات فهذا أمر قد نختلف أو نتفق عليه، إلا أنها علي الأقل لا تعيق هذا التطور لأنها لا تمثل تهديدا علي حرية أو أمن أو حياة الغير من اللادينيين أو من يدينون بأديان أخرى، وهذا ما أثبتته التجربة فبعد المرحلة المظلمة في حياة الشعوب الأوربية تمكنت من التحرر والتطور الذي جاء من قلب هذه المجتمعات، وحتي في المؤسسة الدينية نفسها، وإن كان الإصلاح قد بدأ من الكنيسة البروتستانتية، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية في عصرنا الحالي هي الأكثر تسامحا وتحررا فكريا؛ فرأسها استطاع أن يجاهر بإيمانه بنظرية التطور وبعدم أهلية أي إنسان أن يحكم علي مثلي الجنس بأنه مرفوض من الله، وبرمزية قصة آدم و حواء.وهناك الكثير من قيم المجتمع العلماني، اللاديني، تتفق، إن لم تكن قد استمدت أساسها من قيم المسيحية، بل والغريب أن هناك الآن في الغرب قيما مسيحية تماما يحمل لواءها الفريق اللاديني أكثر مما تحملها وتدين بها بعض طوائف المسيحية في الغرب كالكنيسة الأنجيلية مثلا في الولايات المتحدة، كالمساواة بين الأجناس ونبذ العنصرية، وقبول الآخر بشكل غير مشروط، والإبتعاد تماما بالدين عن السياسة، والقيم الإشتراكية ونبذ العنف تماما، فالواقع يشير إلي أن العلمانية استطاعت أن تولد وتحيا وتزدهر في شعوب ذات خلفية مسيحية.
فما هي الإختلافات بين ثقافة العار وثقافة الذنب؟
في الأولي يعتقد الناس أن الفاعل والفعل شيء واحد بينما في الثانية هناك فصل تام بين الفاعل والفعل، إذ تلطخ للأبد بالعار في المجتمعات التي تسودها هذه الثقافة، بينما في الأخري هناك فصل بين الخاطيء والخطيئة وتتفق في ذلك مع المسيحية ، ومن الآيات التي يتضح فيها هذا الفصل : (11لأن الخطية، وهي متخذة فرصة بالوصية، خدعتني بها وقتلتني إذا الناموس مقدس، والوصية مقدسة وعادلة وصالحة فهل صار لي الصالح موتا؟ حاشا بل الخطية. لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتا، لكي تصير الخطية خاطئة جدًا بالوصية فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطي15 لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل فإن كنت أفعل ما لست أريده، فإني أصادق الناموس أنه حسن 17 فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة في .رسالة رومية.), و هناك الكثير مما لا يحصي من الآيات التي تجزم بمحبة الله للخاطيء برغم بغضه للخطيئة (لأننا و نحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا)، (نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا) ، (بالنعمة، ليس بأعمال كي لا يفتخر أحد )، وأن الأعمال ليست هي الطريق لنوال قبول الله ( لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه)، (لست أبطل نعمة الله لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذا مات بلا سبب)، (إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس) والناموس هو الشريعة أي أن أعمالك ليست هي الطريق للسماء، ولكن محبة الله لشخصك (لا علو ولا عمق ولا خليقة أخري تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع)، (و من يعطش فليأت و من يرد ليشرب مياه حياة "أبدبة في الملكوت" مجانا.رؤيا يوحنا اللاهوتي)، ، بينما نجد في الإسلام معني مغاير، فوضعك بالنسبة لله تحدده أعمالك( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً .الكهف 110) ,( إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً .التوبة 111)، و( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا .الكهف ) و غيرها الكثير فلا خلاف علي أن الأعمال هنا هي ما يعبر عنك، لا العكس .
جعل المسيح الشخص هو مقياس عمله، أي اتجاه قلبه، فقد تسير حسب الشريعة حرفيا ولكن إذا لم يكن قلبك مخلصا محبا فكأنك لا تفعل شيئا، وقد تكون كاسرًا للشريعة لكن قلبك مليئا بالحب فأنت قريب من الله بقلبك (غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرا .قالها المسيح عن بائعة هوي)، ولا توجد (كبائر) في المسيحية إذ أن اتجاه القلب لا حجم الفعل هو ما يهم لذلك قال المسيح ( سمعتم أنه قيل لا تقتل اما أنا فأقول لكم إن كل من قال لأخيه يا أحمق يكون قاتل نفس)، ( كل من نظر لامرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه)، (من يبغض آخاه فهو قاتل نفس)، كما أن الإنسان أهم من الوصية عند الله فقد كسر المسيح نفسه وصية هامة في الناموس هي وصية يوم السبت لما احتاج الأمر هذا (ﭐلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. قال المسيح)، وقالها مرة أخري عندما شفي يد إنسان في يوم سبت أيضا (إنما جعلت الوصية للإنسان لا الإنسان للوصية) فالعلاقة هي علاقة بين قلب و قلب، قلبك هو الذي يعطي فعلك قيمة لا فعلك هو الذي يعرفك أو يحددك كما في ثقافات العار. وقد لا يعلم الكثيرون ان الكثير من المسيحيين في الغرب اليوم يؤمنون أنهم بمعزل عن خطر الوقوع خارج النعمة والحرمان من الملكوت مهما حدث، فهم يؤمنون أن العلاقة بينهم وبين الله علاقة بنوة لا تنفصم، ولذلك تكون أفعالهم بريئة من دافع الخشية من العقاب ومن المفترض أن المسيحي يصل لطور معين ينضج فيه إيمانيا بحيث تكون دوافعه لفعل الخير مجردة .فقد نال العفو والحياة الأبدية مجانا، وشعوره بأنه محبوب محبة غير مشروطة، وشعوره بالأمان ينبغي أن يجعله خيرًا بشكل تلقائي . بينما نجد أن الإسلام قد حدد عقوبات أرضية بخلاف العقوبات السماوية في الآخرة علي ما يرتكبه المؤمن من تعديات ويقوم المؤمنون الآخرون بتنفيذ هذه العقوبات كما نصت الشريعة، أو على الأقل كما سنذكر تفصيلا، يقوم المؤمن بتقييم غيره ونصحه.
وفي المسيحية كما في مجتمعات ثقافة الذنب تركيز علي فضيلة الغفران فهي تري أن جميعنا بلا استثناء خطاة وأن الله وحده صالح وأن جميعنا في حاجة للغفران وأن الذي يحتفظ بضغينة لأخيه فهو غير مستحق للغفران من الله، وتقوم العقيدة في أساسها علي تقدمة المسيح لنفسه كفاد للبشر لمغفرة خطاياهم بدون ثمن يدفعونه. كما أن المسيحية لم تجعل للمؤمن أي دور فيما يختص بسلوك أو عقيدة غيره بل اعتبرت أن مجرد التفكير في إصلاح غيرك أو تقييمه هو خطية كبيرة ( من كان منكم بلا خطية فليرمها بحجر. قالها عن امرأة أمسكت وهي تمارس الجنس بلا زواج منتهكة الشريعة)، (مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَه) ، (لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ") "وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ النَّامُوسِ، الْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَك)واحد يعتبر يوما دون يوم، واخر يعتبر كل يوم. فليتيقن كل واحد في عقله: 6 الذي يهتم باليوم، فللرب يهتم. والذي لا يهتم باليوم، فللرب لا يهتم. والذي يأكل، فللرب يأكل لأنه يشكر الله. والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله. 7 لان ليس أحد منا يعيش لذاته، ولا أحد يموت لذاته. 8 لأننا إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن. 9 لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات. 10 وأما أنت، فلماذا تدين أخاك؟ أو أنت أيضا، لماذا تزدري بأخيك؟ لأننا جميعا سوف نقف أمام كرسي المسيح) فليس لأحد من المؤمنين أن يقول لمؤمن آخر لماذا تأكل هذا و لماذا لا تأكل ذاك، لماذا لا تصوم ؟ لماذا لا تحتفل بهذا العيد أو ذاك ..إلخ "بينما نجد للمؤمن في الإسلام دور إيجابي( قلت أو زادت درجته حسب آراء المفسرين )في المجتمع من حوله . و نحن نري هذه الإيجابية في استخدام العنف منذ عهد الرسول لنشر الإسلام فيما يعرف بالفتوحات، في الوقت الذي كان فيه التبشير بالمسيحية علي أيدي رسلها الأوائل سلميا، قام به أشخاص منفردون لا تعضدهم أي قوة بشرية و كان مصيرهم الإستسلام التام للموت بدون أي مقاومة، وكان رد الفعل الوحيد عند مجابهتهم بالرفض هو الرحيل عن البلدة التي رفضتهم كما أمرهم المسيح. وغير طريقة التبشير بالإسلام، فإن الدور الإيجابي للمسلم في حياة و تقوي غيره نجده مثلا في قول الرسول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه )) [ رواه الترمذي 5/ 256] و في القرآن : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.التوبة 71)، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.’ال عمران110﴾ فعلي المسلم تصحيح سلوكيات غيره
((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان .رواه مسلم))، ثم أن تأسيس الرسول لدولة ورئاسته لها ينفي تماما إمكانية فصل الدين عن الدولة، ويجعل سكانها ملزمين باتباع تعاليم الإسلام بقوة القانون، أو على الأقل ينهون عن إتيان ما يخالف مبادئه بقوة القانون .
ولقد تحدثت في مقال سابق بعنوان (مؤمنون أتقياء بقوة القانون ؟) عن الفصل بين الدين والدولة في المسيحية .
لكن الأهم في رأيي هو أن أكثر ما يميز المجتمعات التي تسود فيها ثقافة العار (حيث لا يخلو مجتمع منها كما لا يخلو مجتمع من ثقافة الذنب، ولكن الفارق في الدرجة وفي مدى تأثيرها علي المجتمع) هو أنك تتعلم أنه من المهم جدا ألا تفعل الخطأ في العلن، ويتفق هذا مع تعاليم الإسلام اتفاقا تاما فالرسول يقول : كل أمتي معافي إلا المجاهرين .وهناك حديث آخر رواه الحاكم يقول " : ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)) وأيضا في حديثه للمهاجرين أخبرهم أن المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدنيا قبل الآخرة، روى ابن ماجه في سُننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ -وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ-: لم تظهرِ الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضتْ في أسلافهم الذين مضَوْا.الحديث. (ص: 432 برقم [4019]، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع الصغير) [2/1321] برقم: [7978]). و كذلك في أهمية (ستر) المعاصي : (( .. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه )) [رواه البخاري ومسلم ] ثم نجد في القرآن أيضا ذكر للجهر بالمعصية {لَّا يُحِبُّ اللَّـهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّـهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148]
أما في المسيحية فنجد الأمر مختلفا، حيث أوصي المسيح بالبوح بما تفعله وتقوله في السر (إنجيل لوقا 12: 3) لِذلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي الظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي النُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ الأُذْنَ فِي الْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى السُّطُوح"."ليس مكتوم لن يستعلن ولا خفي لن يعرف"
كره المسيح الرياء، وأوصي بالبوح (اعترفوا بعضكم لبعض بالذلات لكي تشفوا) ، وأوصي بإخفاء أعمال البر (وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.)، ولم يهتم المسيح بالسمعة فكان يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة والزواني . (لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ) و القلب لا يتطهر إلا في النور (لأن الكل إذا توبخ يظهر بالنور .رسالة أفسس) . كل ما سبق من أمثلة يجعلني أري المسيحية أقرب الأديان في صورتها التي تعلمها كثير من كنائس الغرب الحداثية، إلي ثقافة الذنب و إن لم تكن هي نهاية المطاف (أتحدث هنا عن أثرها في واقع مجتمعاتها ) لكنها كانت خطوة في طريق المجتمع المدني اما الإسلام فقد رسخ أسس المجتمع القبلي الذي نشأ منه.
الكلمة المفتاحية في التفريق بين ثقافة العار ثقافة الذنب هي : الآخرون . باختصار ثقافة الذنب لا يعد فيها (الآخرون) عاملا ينبغي وضعه في الحسبان، فكل امرء مسئول عن نفسه، وكل شخص أدري بحاله، وبما في قلبه وما أفعله ليس من شأن أحد ما دام لا يضر غيري ضررًا مباشرًا (فلست حرًا مثلا في سرقة شخص أو سبه). أما في مجتمعات العار فكل شخص يحمل جزءا من المسئولية عن سلوك المجتمع والأفراد سلوكا يتفق ومباديء الدين أو علي الأقل لا يتناقض مع هذا الدين أو يخالفه، فمبدأ الحرية الشخصية منتقص هنا، كما أن قواعد السلوك القويم محددة (الحلال بين والحرام بين)، إذ توجد شريعة من اتبعها فلح ومن نقضها هلك . أما الشخص المنتمي لمجتمع تسوده ثقافة الذنب فيكون دافعه عادة لممارسة سلوك معين نابع من ذاته هو، وجاذبية الفعل من عدمها يحددها شعوره بالسوء إن لم يقم بهذا الفعل أو العكس، لا مدي قبول المجتمع للسلوك من عدمه، وكما قلت فإن الأمر نسبي لدرجة معينة، فهناك ظلال من كل من الثقافتين في كل المجتمعات .
تجليات ثقافة العار في الشخصية الإنسانية والمجتمع عديدة، فأولا، تخنق الإبداع، والذي لا يتأتي أبدا إلا من نفس حرة تماما بلا قيود من الغير، ولذلك، نجدنا في الشرق ننتظر (الآخرين) في الجانب الآخر من العالم ليخاطروا و يسبروا أغوار المجهول، ويأتوا لنا بما هو جديد في العلم والفكر والفن والموسيقي، ثم نقلدهم نحن.
ومجتمعات العار يسودها الرياء، إذ لا يهم ما في قلبي، لكن ما أفعله أو ما يظهر للناس هو ما يهم، والرياء أصل كل الشرور، إذ يبتعد بك عن ذاتك الأصلية، بينما الإنسان الذي يحيا على سجيته، بطبيعته، بدون خجل من الحقيقة أيا كانت، سيكون ما يصدر عنه من خير أيضا حقيقي وهذا الإنسان قابل للتغيير وله إرادة حرة، وتستطيع أن تثق به، وأن تتوقع منه الأفضل . نعمه نعم ولائه لا فلا يوجد مسوغ عنده للتحايل والأساليب غير المباشرة التي تستهلك الطاقة والوقت وتدور بالمرء في دائرة مفرغة تقف به عند حدود لا يتعداها وتوهن من احتمالية التطور، فكيف يحدث التغيير إذا لم يواجه المرء حقيقة ما يشعر به أو يفكر فيه و يحيا بها فيواجه نفسه ويتجدد، والشخص الذي يفعل الصواب فقط خوفا من العقاب سيتحين أي فرصة لفعل الشر كما ذكرت من قبل كما أن اضطراب مفاهيم الصواب و الخطأ عند هؤلاء يؤدي لإيقاع الضرر البالغ بأشخاص كل جريرتهم أنهم قد لا يتقنون الرياء كالآخرين أو لا توجد لديهم القوة لحماية أنفسهم في مجتمع لا تدري أين يأتيك الأذي منه فلا شيء واضح هنا . مجتمعات ثقافة العار تحارب بكل طاقتها احتضان شاب ليد حبيبته أو تقبيلها في الشارع، بينما تغض الطرف عن التحرش واستغلال الفتيات في أماكن العمل والدراسة جنسيًا؛ فأصبح الطبيعي لإثم وتلوث في ضمائرهم بينما اكتسب إيذاء الغير مشروعية طالما كان مرتكبه من الذكاء بحيث يعرف كيف يستره، مجتمعات تغض الطرف عن الرشوة والفساد والظلم بل وتشجعه بسلوكها شرط أن يكون في السر، لكنها تنهض ثائرة إذا ما أفطر شخص في الطريق في نهار رمضان . وهذه هي النتيجة، أن الشرق شرق والغرب غرب . أننا نرفل في التخلف والشر وانعدام الضمائر، ولا يهم مادامت الواجهة متدينة وتقية.
كانت هذه مجرد محاولة لقراءة الواقع بحسب ما استطعت وفقا لمعطيات الواقع و التاريخ.















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة