الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة 1917 العظمى: المجموع والباقي(1)

عبد المجيد السخيري

2017 / 11 / 3
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


يجب أن نعترف بادئ ذي بدء أن أشياء كثيرة تغيرت في علاقتنا مع الثورة البلشفية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانحطاط التجربة الاشتراكية القائمة منذ نجاح هذه الثورة سنة 1917 في ربوع الامبراطورية الروسية الآفلة، وبعدها السقوط الكاريتاتوري المتتالي لأنظمة بيروقراطية متعفنة دارت في فلك النظام السوفياتي وتسمّت بالاشتراكية زورا وبهتانا.
لم يكن سقوط التجربة الاشتراكية المغدورة في البلد الأم للثورة العظيمة، ولا تداعي الأنظمة المُنصبّة في أوروبا الشرقية بعد الحرب الامبريالية الثانية كملحقات عسكرية أو حزبية للكرملين، على الأقل ذلك ما آلت إليه علاقتها بموسكو، ولا أيضا تدهور الأحزاب الشيوعية التي ارتبطت بهذا القدر أو ذاك بسياسات السوفيات ونهجهم واستراتيجياتهم، خاصة بعد تفكيك الأممية الشيوعية الثالثة، وقبلها التواطؤ على إجهاض الثورة الإسبانية، والفتك بعدد من القوى الثورية في العالم، بإخضاعها إما بالقوة لخطط وتوجهات المركز السوفياتي، أو التلاعب برصيدها الداخلي وبث الصراعات المدمرة في وسطها، هو ما أيقظ الحس النقدي لدى قوى اليسار الشيوعي في العالم إزاء انحطاط الستالينية، ولا هو الحدث الأول الذي أدى إلى صدمة نفسية وفكرية عنيفة لدى لمناضلي ومناضلات أحزابه ومنظماته السياسية ومثقفيه، بقدر ما خيّب آمال المتعاطفين والمتعاطفات معه في أرجاء الكوكب من شعوب وجماعات وأقليات مضطهدة، وطبقات شعبية مسحوقة ومستعبدة من قبل النظام الرأسمالي المتغول. فقد سبق أن تعرّضت هذه التجربة لقراءات نقدية في وقت مبكر جدا، ليس فقط من قبل الذين عايشوا نتائجها أو اكتووا بانحرافاتها وخياناتها المكشوفة لمُثُل الثورة الاشتراكية الأولى في العالم، بل وأساسا من قبل عدد مهم من الذين أسهموا في نجاحاتها الأولى وصنعوا أمجادها وأدوا ثمنا غاليا لأجل انتصارها وتثبيت دعائمها وإرساء قواعد المجتمع الجديد الذي بشّرت به. ولا حاجة لنا هنا للتذكير بكتابات قيادات الثورة من البلاشفة الأوائل ومن الصف الأول أمثال تروتسكي أو قيادات ثورية في بلدان أخرى أمثال روزا لوكسمبورغ ورفيقها في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، ولا طبعا من جاؤوا بعدهم وصاروا في أثرهم، وهم كُثر، إلى غاية التفكيك النهائي لمنجزات الثورة وتشويه ميراثها وتصفية تركتها السياسية والاجتماعية.
لا نسعى من خلال هذه الورقة إلى تقييم ثورة أكتوبر 1917 بعد مائة سنة من انتصارها، فذلك أمر أكيد لا يسمح به المقام، إن لم يكن ادعاء المحاولة في هذا الاتجاه ينطوي على تبخيس لقيمة الحدث وعظمته التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقاس بمآلاته وصيروراته. إنما غايتنا الأساسية هي أن نذكر الغافلين من معسكرها السابق، ومن أنصار فكرتها من الأجيال الجديدة التي لم تذق مرارة الهزيمة التي مُنيت بها الثورة بعد سبعين عاما من الصراع مع الرأسمالية على جميع الأصعدة، بصرف النظر عن السياقات التي جرى فيها بعض الأحيان، والوسائل التي تم تسخيرها لتأجيجه أو إحباطه من قبل معسكر الثورة بعد وفاة لينين وسحق المعارضة السياسية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي، واستفراد ستالين بالسلطة وبسط هيمنته على مقاليد القيادة بالداخل وعلى مستوى أجهزة الكومنترين، أو لم تتجرع مذاق انهيار الأحلام الثورية كما تجرعتها أجيال من الثوريين والحالمين الذين ترعرعوا في أحضان الأحزاب اليسارية والشيوعية بعدما تناهى إلى علمهم انقلاب الشيوعيين السوفيات على أنفسهم على النحو الذي جرى به ذات 1991، بعدما كانوا قد تبقرطو بالكامل لعقود من الزمن، وإعلان نهاية الاتحاد السوفياتي، وقبلها كيف تم تحضير مراسيم دفن الثورة وإقبار منجزاتها في إطار ما عرف بسياسة "البريسترويكا" على عهد سيئ الذكر ميخائيل غورباتشوف؛ نقول، لنذكر هؤلاء جميعا بأن الثورة العظيمة لم تكن حادث سير في تاريخ الانسانية، ولا يمكن أن نتعامل معها في مطلق الأحوال وكأنها مجرد انفجار حدث في بؤرة توتر امبريالي، أو استغلال ذكي من قبل البلاشفة لهزيمة روسيا في الحرب الأولى، بل كانت وستظل بقوة التاريخ، وجلال الحدث الثوري الذي هزّ أركان النظام الرأسمالي وفرض عليه شروطا جديدة غير مسبوقة في الصراع الكوني، طفرة نوعية في تاريخ البشرية الحديث، وتحولا استراتيجيا في العلاقات الدولية للقوى، وقبل كل شيء، ضربة رمزية موجعة للفكر الرجعي بكل تلاوينه واتجاهاته الاقتصادية والفلسفية والاجتماعية، ولإيديولوجيا الاستغلال والاستيلاب ومشتقاتها المختلفة. فقد فتحت الثورة العظيمة عصرا جديدا من تاريخ الانسانية، وأشاعت على أوسع نطاق، حتى ذلك الوقت، الآمال العريضة بطي نهائي لصفحة العبودية والقهر الطبقي التي فرضتها لآلاف السنين مختلفة أنظمة الانتاج الاجتماعية القائمة على التفاوت بين الطبقات والاستغلال واللامساواة.

ميراث الثورة

مرة قال الفيلسوف اليساري الراحل دانييل بنسعيد في إحدى مناسبات الاحتفال بذكرى ثورة 1917 أن "ما قلب العالم في عشرة أيام لا يمكن أن يُمحى. فوعد الإنسانية، الكونية والتحرر الذي رأى النور في النار الخاطفة للحدث لهو شديد الامتزاج بمصالح الانسانية حتى يمكن أن يُنسى".
إن العودة إلى الثورة العظيمة لأكتوبر 1917، سواء بالاحتفال بذكراها المئوية اليوم، أو باسترجاع سيرورتها التاريخية لفهم ما جرى وكيف نجحت في خلخلة المجتمع الروسي الامبراطوري وقلب العالم، كما عهدنا ذلك على مر السنوات والعقود الماضية، مثلما القراءات النقدية للتجربة الاشتراكية المنهارة لاستلهام الدروس وتعميق المكتسبات والحفاظ على المنجزات الرمزية والسياسية للثورة، ليعد أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لجميع الثوريين في العالم بمختلف مشاربهم الإيديولوجية والسياسية، فبالأحرى بالنسبة للشيوعيين منهم على وجه الخصوص.
يقول الرجعيون اليوم، ومنهم بالخصوص المنقلبون على أنفسهم وماضيهم الثوري في كل مكان، أن الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة أكتوبر لا يعدو حنينا لعهد بائد ولّى بلا رجعة، ودليلهم على ذلك أن معظم فئات المجتمع الروسي وباقي الجمهوريات السوفياتية السابقة المستقلة اليوم، لا تبالي بالحدث ولا تقلي اهتماما يذكر بذكرياتها، إلا أقلية صغيرة معزولة تمني النفس بعودة الماضي المجيد وانبعاث شبح الثورة المنسية، ما يعني ببساطة حسب تحليل هؤلاء أن الثورة لم تنجز ما يستحق الوقوف عنده ما دامت سقطت من الوجدان الشعبي، فضلا أن النخبة الحاكمة من روسيا الحالية، مركز ثقل الاتحاد السوفياتي المنهار، وعدد من رموزها هم من بقايا البيروقراطية السابقة، أشاحت بوجهها عن تلك الاحتفالات الضخمة التي كانت تقام سابقا لذكرى الثورة العظمى باستعراضات عسكرية وفعاليات شعبية باهرة. وهذا صحيح لا ينكره أحد، ولا نظنه أمرا يثير الاستغراب. فالذين لا تزال الثورة ذكرى حية في وجدانهم وقلوبهم، أو لا يزال عقلهم يعمل بموجب مفاهيمها ومنهجها في التحليل والفهم، لا يمكنهم إلا أن يحلموا بعودتها وانبعاثها، وهو حقهم المشروع، وليس بالضرورة أن تكون عودة الثورة على النحو الذي وقعت في الماضي، وبالشكل الذي ترجمت فيه نفسها على مستوى السلطة والتنظيم الاجتماعي أو غير ذلك مما أبدعت ثورة أكتوبر في إنجازه وتحقيقه في ظروفها وشروطها التاريخية المعلومة، حتى لا يُنعت هؤلاء بالرجعية والماضوية. لكن الصحيح أيضا أن أغلبية واسعة من شعوب الجمهوريات السوفياتية السابقة غارقة اليوم في وحل الاستهلاك الرأسمالي الغربي المصدّر، بعدما عاشت لعقود من الزمن في ظل نظام من الانتاج والاستهلاك المقنن بمعايير جديدة اعتبرت من خصائص الاشتراكية، حسب الفهم الذي ساد في أوساط القيادة السياسية والاقتصادية السوفياتية، وتمتعت بحقوق اجتماعية واقتصادية لا يستطيع إلا جاحد أن ينكرها، كما هي عالقة في شراك البؤس والفقر، وتئن تحت وطأة "الاستبداد الديمقراطي" ويحاصرها الفساد الذي تشيعه المافيات المتحكمة في زمام الحياة العامة والاقتصاد والجريمة المنظمة، وكل ذلك تؤازره القوى الرجعية المنبعثة من الماضي المتمثلة في الكنيسة الأرثوذكسية التي كان قساوستها حلفاء النظام القيصري قبل الثورة، فيما تسعى فلول هذا الأخير من الحفدة جاهدة لإحياء رموزها وتقاليدها وقيمها المحافظة كشكل من الانتقام الرمزي من الثورة بعد تصفية منجزاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
من واجب الشيوعيين والثوريين في كل مكان، الأوفياء لتاريخ أسلافهم، أن يستحضروا أمجاد ثورة أكتوبر ومنجزاتها ويعيدوا قراءة رسالتها بعد مائة عام، كما من واجبهم أيضا أن يستحضروا دروسها في النجاح والفشل، في العطاء والانتكاس، في العظمة والانحطاط، بعقل نقدي منفتح وجدلي، دون تبخيس أو استصغار لحجم وقيمة الميراث الذي خلفته الثورة ومثيلاتها من الثورات الاشتراكية والتحررية المجهضة والمغدورة. غير أن أوجب الواجبات في اعتقادنا يظل هو أن يتحرر هؤلاء من السباب الدوغمائي بإعادة الاعتبار للحس النقدي في قراءة التاريخ والماضي والذات، دون أن يكون ذلك دائما على حساب الاخلاص للمبادئ والقيم الجوهرية التي منحت ولا تزال القوة الأخلاقية للثورة. ومن هنا فإن تعليق فشل الثورة ومآل ميراثها داخل البلد الأم، وانحسار اشعاعها السياسي، ودخول المرجعية النظرية والإيديولوجية التي صنعتها هويتها وحددت خطها ومشروعها المجتمعي في أزمة مفتوحة، على الظروف التاريخية والشروط الخاصة التي أحاطت بالسيرورة الثورية منذ انطلاقها لا يكفي لتفسير ما وقع، ولا هو يجدي في إعادة الاعتبار لشرعية الثورة وميراثها الرمزي بالدرجة الأولى في واقعنا الراهن. صحيح أن سلسة من أخطاء الثورة وانحرافاتها يمكن شرحها في ضوء الظروف الدولية والداخلية التي أحاطت بها منذ الوهلة الأولى، كطبيعة التركيب الاجتماعي الفلاحي للمجتمع الذي استقبل الثورة البرولتيارية، والحصار الخارجي واستنزاف القوى الانتاجية والحرب الأهلية بالغة الكلفة، فضلا عن ضعف التقاليد الديمقراطية في بلاد الاستبداد القيصري، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعلق فشل التجربة الثورية وخنق نفسها على الظروف الموضوعية دون أن نستحضر دور العوامل الذاتية في هذا الفشل، خاصة ما يتعلق بالتسلط البيروقراطي وما كان له من أثر مدمر للقوى الذاتية للثورة واستنزاف طاقتها الثورية.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات