الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاتجاهات في قصيدة -مصرع انكيدو- عبد الجبار الفياض

رائد الحواري

2017 / 11 / 30
الادب والفن


بشكل شبه دائم عندما يتوافق العقل الباطن والوعي في النص الأدبي/القصيدة لا بد أن تترك أثرا ومكانة في المتلقي/القارئ، وعندما يستحضر الشاعر الأسطورة في قصائده فلا بد أن يكون لها وقع وأثر على من يتناولها، في هذه القصيدة سنجد العالم الموت "السفلي" ونجدد عالم الحياة "العلوي" وهذيان العالمان في صرع أزلي منذ أن وجد الإنسان على الأرض، فالإنسان هو يعمل جاهدا ليرتفع مرة أخرى إلى عالم السماء بعد أن تم طرده وسقوطه إلى العالم الأرضي، وهذا ما تخبرنا الملاحم والأساطير القديمة، وما جاءت به ملحمة "جلجامش" إلا تأكيد لهذا الصراع، فهي تتحدث بشكل واضح عن الصراع بين الموت والحياة، صراع البشر مع الآلهة التي تمارس سلطتها عليهم، فعندما ذهب جلجامش ليبحث عن عشبة الخلود أراد أن يتساوى مع الآلهة وأن لا يفنى كما هو حال البشر، وحتى عندما تم التوافق والانسجام بين "انكيدو وجلجامش" كان هذا الانسجام هو ثورة وتمرد على الآلهة التي أوجدت "انكيدو" ليكون في حالة صراع دائم مع "جلجامش"، فبوحدتهما ردا الربة "عشتار" خائبة منكسرة بعد أن طلبت الزواج بالظافر "جلجامش، وبوحدتهما قتلا ثور السماء، فحالة الصراع في الطبيعة انعكست على افكار ومعتقدات والشعوب القديمة ومن ثم على ما اتجوه من أدب.

الأثر الذي تركته ملحمة "جلجامش" على الشاعر جعلته يستخدم اتجاهين متضادين "الفوق والتحت" إن كان بشكل مباشر كما هو الحال في هذا المقطع:
"كلكامش
أيُّها الممتَدُ فيكَ رجوعاً
بينَ تحتٍ وفوق"
أو بشكل غير مباشر كما هو الحال في هذا المقطع:
" تورّمتْ قدماه تيْهاً . . .
كيفً لعُشبةٍ أنْ تُنبتَكَ باسقةً
يقطفُ ثمارَها سحابٌ مَعتوه . . .
عسيْتَ أنْ تجني الثُريّا
فجنيْتَ تفاحةَ آدم . . .
ارتفعْتَ
فتدليْت
الجماجمُ هي
ما استبطنَتْها خيوطٌ من نور . . ."
ف"العشبة الباسقة" في حالة صراع من التربة/الأرض فهي تريد أن تشق وتتجاوز التراب لترتفع نحو السماء، ونجد في صورة "يقطف ثمارها" أيضا هذا الصراع، فهناك من يريد لثمرها أن يعود إلى الأرض بعد أن تجاوزت العشبة المكان الذي وجدت فيه، ونجد هذا السقوط السفلي من خلال "تفاحة آدم" ونجده أيضا في "الجماجم والنور"، إذاً يمكننا أن نقول بأن الأفكار الأسطورية والملحمية والدينة حاضرة في القصيدة وبقوة، حتى أنها تهيمن على الألفاظ واللغة المستخدمة فيها.
ونجد حالة الصراع حتى عندما يستخدم الشاعر ما يتوافق ومتن الملحمة، من خلال حضور حالة الصراع بين الأرضي والسماوي، بين البصر/المشاهدة والعتمة/الإخفاء:
"أيُّها الملكُ المُبتلى بثلثِهِ الآدميّ
تواريْتَ خلفَكَ بوجهٍ لا يرى غيرَ سواه . . .
ما شئتَ كان
على فراشِ عُرس
يراكَ ما يراهُ صغارٌ "
"انكيدو" الشخص الذي لخبط لعبة المتناقضات في الملحمة، عندما اتفق وتوحد مع "جلجامش" ليخوضا معا كافة المحارم والمحظورات الربانية فقتلا "خمبابا" وقطعا أشجار الأرز ، وهو الذي فجر فكرة الخلود عند صديقه بعد أن "خرجت الدودة من أنفه" نجد "عبد الجبار الفياض" يتأثر بهذه الأحداث فيقول:
" واهاً انكيدو
رأيتُك هزيلاً
تمددُ بُعداً
يرتَد . . .
غلبتْكَ صفرةُ موت
اتكأتَ على وهمِكَ وحيداً
تفزعُ من حسيسِ الفناء . . .
ما كانَ لكَ أنْ تكونَ صدى
عدواً لأعشاشٍ
لسنبلةٍ حُبلى
حاطبَ ليلٍ بفأسٍ أعمى . . .
أنتَ
لا تكونُ إلآ أنتَ أمامَ القَدَر "
فالموت الذي أصاب "انكيدو" نجده حاضرا في القصيدة وبعين المضمون، لكن بأدوات ولغة أخرى.
اعتقد بأن هذه الإشارات تؤكد مقدرة الشاعر على التمكن الملحمة، وقدرته على استخدام الأحداث الملحمية بطريقة التغريب، فهو لا يقدمها لنا كما جاءت في ترجماتها المختلفة، بل يغرب ويغير الأحداث،:
" كيفَ غرقتَ في مُحاقِ كلكامش ؟
سهماً لا يعصي وترَ قوس
لأيةِ طريدة . . .
فكنتَ الطّريدةَ الأخيرة "
رغم أنا هذا المقطع ينسجم ويتوافق مع حالة "انكيدو" المضطربة وهو في حالة الإحتضار، خاصة عندما خاطب صناع الباب قائلا:
" أزل ملكه، أضعفه
لا ترضى عن أفعاله
إجعل كل طريدة تفر منه
لا تحقق له مبتغى، أماني قلبه لا تمنحه" أنيس فريحة، ملاحم وأساطير، ص44 و45"
لكن الشاعر يغرب هذا الحدث من خلال مخاطبه ل"انكيدو" مباشرة فهو يأنبه على صديقه "جلجامش" ويريده أن يعيد النظر في الطريق الذي سلكه مع هذا الملك الذي جعله يسقط صريعا، طبعا المراد من وراء هذا التغريب للنص الملحمي تقديم رمزية للمتلقي تجعله يتوقف عند ما آلت إليه الأوضاع بعد "الخراب العربي". فالعديد من الأحداث جاءت مرمزة، كما هو الحال في هذا المقطع:
" كيفَ غرقتَ في مُحاقِ كلكامش ؟
سهماً لا يعصي وترَ قوس
لأيةِ طريدة . . .
فكنتَ الطّريدةَ الأخيرة "
فهنا الخطاب موجه إلى أولئك الذي قاموا بالثورات، وفيما جنت أيديهم، ألم تجني ألا كما جنت يد جلجامش بعد أن حصل على عشبة الخلود، "لأفعى الأرض" وذهبت جهودهم وتضحياتهم هباءا منثورا.
ونجد الكفر والعبثية بأي فعل من خلال هذا المقطع:
" كيفً لعُشبةٍ أنْ تُنبتَكَ باسقةً
يقطفُ ثمارَها سحابٌ مَعتوه . . .
عسيْتَ أنْ تجني الثُريّا
فجنيْتَ تفاحةَ آدم . . . "
وكأن الشاعر يحسم الأمر سلفا، بعدم جدوى أي أفكار ـ مهما بدت نبيلة وثورية، وبما أن دور الشاعر يكمن في إثارة الأسئلة وليست في تقديم الأجوبة، فلعينا نحن المتلقين/القراء أن نجيب عما حدث عندنا وإلى أين اتجهنا في (ثوراتنا) التي قمنا بها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار


.. تعمير - المعماري محمد كامل: يجب انتشار ثقافة البيوت المستدام




.. الجنازات في بيرو كأنها عرس... رقص وموسيقى وأجواء مليئة بالفر


.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا




.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا