الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -16-

علي دريوسي

2017 / 12 / 2
الادب والفن


المقطع السادس عشر
*****
ملاحظة: لا يَتبنَّى مُؤلف هذه الحوارية المُتْعِبة الآراء المنقولة عن شخوصها.
*****
اِقترب الأب من إبنه إبراهيم وقال يمازحه: لقد صرت رجلاً يا برهوم، بل بت أكثر طولاً وقوةً مني، ولا تنسى أنً الاختلاف بالرأي لا يفسد لحب الآباء للأبناء قضية، في بعض المسائل لديك حق حتى لو لم أوافقك الرأي علانيةً، وفي بعض المسائل الأخرى لديّ حق وأنت تعرف ذلك حتى لو لم توافقني الرأي علانيةً. أنا واثق أنَّك قادر أن تفصل بين الأمور وتحافظ على جمالياتها و تستثمرها لرؤيةٍ أرقى وأفقٍ أوسع... فكن يا ولدي كالأرض الواطئة التي تشرب ماءها العذب وتلفظ الماء القذر لبعض الهاربين.

لست ضد أي إنسان وطني مهما اختلفت وجهات النظر التكتيكية، لكنني ضد العنف والدعوة له من قبل إنسان وطني، العنف مرفوض بكل أشكاله، التواضع واحترام التباين في الرأي والاعتراف بالآخر هي من أهم الصفات التي تنقصنا من أجل خلق شكل من أشكال المقاومة الشعبية ضد الطغاة ولإرهاب، الوطن السوري هو لجميع السوريين، والجميع لهم الحق بالكلمة، لدينا بين السوريين العديد من التوجهات، أولئك الذين يريدون الاندماج بالمجتمع كما هو بعد أن روضته السلطة على مبدأ من تزوج أمي سميته عمي، ولكن أيضا لدينا أولئك الذين يدافعون عن مبادئ العلمانية والحداثة والحريات الشخصية ويناضلون بالكلمة ضد البيروقراطية والبرجوازيات الطفيلية المُشوّهة، وهناك أولئك الذين ينتقدون العلمانية ويفضلون البقاء في التقاليد والأعراف القانونية لعشائرهم الأصلية، وهناك أيضاً ما يكفي من الأصوليين والعقائديين والإرهابيين في هذا البلد لأنَّهم لا يطيقون رؤية حضارة في هذا العالم غير مساعيهم الرامية إلى بناء دولة عصبوية، عصابية، أمنية ودموية على أنقاض الحضارات الأصيلة. نحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بثقافة الاعتراف، يتوجَّب علينا قبول ثقافة القيم القانونية والحضارية، والتوقف عن ثقافة الاقتتال والْعِرَاك مع بعضنا البعض.

لم أكن يوماً مع طرق الخلاص الفردي بل مع الحلول الجماعية، لم أكن يوماً مع ثقافة الهروب الفردي والترويج لها، بل أدعم وأشجع وأروّج لثقافة البقاء والرسوخ والثبات وبناء الوطن الأم، أما عندما تسيطر ثقافة الموت والفناء وتصبح السلطات الحاكمة عاجزة عن حماية الوطن والشعب، لكنها قادرة في الوقت نفسه، على كم الأفواه وتبقى متمسكةً بكراسيها المنخورة، فأنا حينئذٍ مع ثقافة الخلاص الفردي، لأنها تشكّل نقطة انطلاق للعودة من جديد. لا تنسى في الغربة أولوياتك: اللغة الألمانية أولاً، البحث عن عمل ثانياً، حاجة الألمان لقوى عمل في مجال العناية بكبار السن مستمرة، والتسجيل في الجامعة ثالثاً. لكن عندما يحل السلام في بلدنا وتُهزم المُسماة دولة إسلامية أنتظر منك أن تعود إلى وطنك وأهلك جالباً معك المعرفة التي حصلت عليها في ألمانيا للمساعدة في بناء بلدك.

ثم مدَّ يده بالكيس إليه وقال: هذه هديتنا إليك بمناسبة عيد ميلادك، الذي يصادف هذا اليوم. كل عام وأنت بصحة وخير وقدرة على العطاء.
أدمعت الأم وتمتمت بحسرةٍ: أشرقتْ الشمس في الشرق، هربتْ إلى الغرب.
*****
تابع الأب: وفي هذه المناسبة أُريد أن أُسمعك بضعة أسطر مما ترجمته للكاتب الألماني فولفغانغ بورشرت، الذي فارق الحياة عام 1947 ولم يتجاوز عمره آنذاك السادسة والعشرين، مع بعض التصرف الخفيف، لعلك تتذكر هذه الكلمات في غربتك القادمة:
آن كانا في السنة الخامسة من عمرهما تضّاربا بالأكف.
عندما بلغا الخامسة عشر تعاركا بالعصي وتراميا بالحجارة.
ما أن بلغا الخامسة والعشرين من العمر حتى تَغازّا بالسكاكين وتَبادلّا الشتائم.
في الخامسة والثلاثين أطلقا الرصاص من مسدسيهما على بعضهما البعض.
في الخامسة والأربعين تقاذفا بالقنابل.
في الخامسة والخمسين انقضّا على بعضهما بالدبابات.
في الخامسة والستين أطلقا على بعضهما الصواريخ.
في عامهما الخامس والسبعين استنفْذا فرص الحياة ولم يبق لديهما سوى فرصة التراشق بالكلمات.
حين أصبحا في الخامسة والثمانين ماتا، دُفنا بجوار بعضهما البعض، غلّفهما التراب ذاته.
آن بدأت ديدان الأرض فيما بعد بافتراس بقايا جثتيهما، لم تلاحظ الديدان أنَّه في هذا المكان قد دُفن رجلان اختلفا على مر الزمان.
*****

شكره إبراهيم، قبّل وجنتيه وفتح الكيس الأسود، وجد فيه مبلغاً من الدولارات وسنسال ذهب عُلِّق به القرآن. سقطت دمعته، حضن أبيه بقوةٍ لم يعهدها، نظر إلى أمه شاكراً وانحنى أمامها يريد تقبيل قدميها، أنهضه الأب، ضمّته الأم إلى صدرها وانهالت الدموع من العيون. نهضت سناء ولحقتها بيلسان ثم سلمى وماهر، وقفوا إلى جوار الوالدين يواسونهم.
قال الأب: نعرف أنَّك تُخطّط للهرب منذ أكثر من شهرين ونعلم كم أنت مُرتعب من دمار مستقبلك وشبابك وكم أنت مستاء من الظروف التي نعيشها جميعاً. لقد باعت أم صلاح قطعة الأرض الصغيرة التي ورثتها عن أبيها بمبلغٍ زهيد، وتبرعت أختك سناء وخطيبها ماهر لك بمبلغٍ من المال، وأرسل لك صلاح من الجبهة مبلغاً حسب طاقته، أما بيلسان وأنا فقد تبرعنا لك بمبلغٍ إضافي مما وفرناه خلسةً عنكم. أرجو أن تكفيك النقود إلى أن تصل بأمانٍ وتدبر أمورك ريثما تقف على رجليك.
*****

تمايلت الصغيرة بيلسان أما أخيها بحركةٍ مسرحية وسألته بعذوبةٍ: ومتى موعد الاِنطلاق أيها الثوري الهارب من الجنّة إلى النار؟
عانقها إبراهيم وكأنَّه لن يراها ثانيةً وقال: غداً في منتصف الليل سينطلق الزورق إلى الجنّة، يا أختي الصغيرة، المثقفة الجامحة.
غنّت سناء بغنجٍ وحنانٍ: لا تهملني، لا تنساني، ما إلي غيرك لا تنساني، بلدي صارت منفى، طرقاتي غطاها الشوك والأعشاب البرية، ابعتلي بها الليل من عندك حدا يطل عليي...
أكملت بيلسان: لا تهملني، لا تنساني يا شمس المساكين، من أرض الخوف منندهلك يا إبراهيم.
سلمى: لا تخف من الغربة، كن واثقاً من نفسك، لا تخبر أحداً مل الذي تفعله في لحظةٍ ما، إذا كانت الثقة من فضة، فالمراقبة والتَفَحُّص والتَّمَعُّن والتَمَهُّل من ذهب! لا تتأخر علينا إبراهيم، نحن بانتظارك.
ماهر: صديقي ورفيقي إبراهيم، دعني أعانقك، ولا تتباطأ بالإنطلاق، من يأتي متأخراً تعاقبه الحياة، انتبه لنفسك، سأكون قريباً منك في غضون شهرين على الأكثر.
عانقته سناء بدورها وغنّت على الإيقاع نفسه: لا تنساني، شوارع بلدي صارت شراطيط.
ضحك إبراهيم وقال: دكتورتنا الغالية، حتى لو كان الألمان قد توقفوا بعد دمار بلدهم في الحرب العالمية الثانية عن استعمال الشراطيط في المطابخ أو لمسح الأحذية، فأنا لن أخون تربيتي ولن أتوقف عن استعمالها حتى لو توقفت الحرب العالمية الثالثة في بلدي، بل سأعمل جهدي لأتمكّن ذات يومٍ من اِفتتاح خط إنتاجٍ لتصنيع الشراطيط هناك وتوزيعها بين هنا وهناك.
*****

يتبع في المقطع السابع عشر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو