الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل الوداع -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 12 / 3
سيرة ذاتية


رسائل الوداع
غوص في عمق المعاناة
رقم 1
يتبع
بعد إعفائي بقرار فاقد لمقصده من مهمة الإمامة، والخطابة، يكون أول ما أكتبه عن حال مضى بلا أبعاد، ومقام يتجدد بين الآماد، هو هذه الرسائل التي أحاكي فيها همسا يتواجد بالسطوع، وقد حبسته لأسباب يعرفها من ناقشته في الموضوع، وإن كانت آراء كثير تخالف ما ذهبت إليه من صمت، لعل العقل يستكمل حروفه بين مدار الصوت، فينطق بما هو قادر على أن يكون عنوانا على البداية، وبرهانا مستساغا في النهاية. لكن ما دامت الفكرة التي أضمرناها، لم تنجز وعدها التي حملت ثقله على عاتقها، فإن رسائلي ستحكي جزءا من معاناتي التي ابتدأت بزمن لم أكن فيه مختارا، وانتهت بزمن لم أنل فيه إلا اختيارا. ولذا، لا غرابة إذا استغرب بعض هذا السكون، لأنه لم ير شيئا رأيته بأم عيني بلا إذعان، وهو ما أنهك العقل في طي المسافة بالاجتياز، إذ الصراخ في حقي جائز، لأن ثقلا نزل على ذاتي، وحق لي أن أعبر عنه بلغاتي، لكنني لم أولول، ولم أعول، لأن ما تحقق، هو مراد لله اللطيف الرازق. فلا سبب يدعو إلى الألم، ما دام كل شيء مدبرا بقدرة الإله الأرحم، ولو جرى بعض سببه على يد من التوى عطفه على موجدة، وظن التاريخ سينسى ما أتى به من مغبة. (ولنا وقفات معه في حينٍ نختاره بإراداتنا، لا بضغط تفرضه الأحداث النازلة على إشارتنا.)
في مزدلفة البكاء، وبين مشاعر العناء، وقفت جامعا حصيات حلمي، لكي أرميها في قاع بئر زمن غائر بورمي، لم يضمر بين أحشائه إلا ما ينهي مسرتي، وينمِّي مضرتي، ويسري عن عداتي، ويعمي عن لداتي. فأين هو بين ضفائر العهد التليد، حين خان صفي الوداد، ولم يُبد لنا ما في صدره من مكايد، ولم يفجر ما في كبده من مصايد.؟ قد كان حاذقا في رميته التي سددها إلى نحري، وصوبها إلى سحَري، وكان قادرا على نقل أصلاله إلى جعبة ذاتي، وكسوة شارتي، إذ لم يكن شفوقا بي، فأين سأنال من حلمه ما يروق لي. فما أجمله لو تذكر حين كنت واثقا بمراءاته، ومترنحا بموافقاته، وقد أسررت لحضنه بسر قلبي، وكشفت لعينيه ستر أربي، فكان غادرا في سماحته، وجبانا في شجاعته، لأنه ما أتاني مخادعا، إلا لأنه يريدني مطاوعا. ألم يتذكر تلك الأيام الخوالي، وقد كانت في بلادتي باسمة الدوالي، وناعمة المعالي، وراضية المجالي.؟ كلا، قد كان جسيما فيما فعل، وعظيما فيما فصل، لأنه ما سايرني في أملي، إلا لكي يصرفني إلى طريق أجلي، ثم يباغتني بطعنة نجلاء في خاصرتي، فصلت بيني وبين رقبتي، بل قطع حبالا كنت أنسجها مدة أربعة وأربعين سنة من خيوط رثة في لحمتها، وهشة في سداها. وهي من هي في حكايتها، وهي من هي في روايتها.! كلا، إنها القصد في غياب المطلب، والقرب في تنائي المجلب. بل إنها هي ذاكرتي التي كتبتها فيما أشتريه من كتب، ومجلات، أو فيما أسطره من جمل، وعبارات، أو فيما أنثره من ورد حين تطيش الأفراح، وتنسى أنها ما تمرعت بين الأقداح، إلا لكي تتألم بما انجدل في زمن الأقراح، وانتهى بالمآسي التي كتبت على سواد الألواح. كل ذلك قد بتر الزمن صلته، ونهب قوته، لكي يتركني فريدا، وينعاني وحيدا، ثم يجلب علي بخيله، ويضرب على رأسي بطبله، إذ لا نبع لي أشرب منه خمرة السلوان، ونخوة الرهان، إلا ما أسقانيه غبن الزمان، وغدر المكان، ولو كان لي شيء أستحلي ذوقه في حوصلتي، وهو مستساغ في وجدان نشوتي، لشربت منه نهلا لا يروي غلتي، لأن لهفةً حرى تجري في حلقي، ولا أخالها ستذوب مرارة غصتها بما يجوز له أن يصير لي بلسما في أرقي، وترياقا في ذوقي، وصفاء في رهقي.
أجل، لا تخل ما أقوله لك مجازا أستقوي بغموضه على ظهوره، أو تورية أوري بها عن معنى أستعير ضموره، لكي أكتسب في عمقك مساحة عطف، تجود بها حين تراني محتاجا إلى مزيد لطف. كلا، بل غارات الدهر التي تفجع الأطفال في أسرة الأكنان، وتزعج الآباء في حماية غفلات الولدان، لا تنسب إلى من افترض ما ينتظره من رسم القدر، أو إلى من فُرض عليه حد القول بالنظر، بل لها قيمتها فيمن عاد فرسه من ميدان الحظ خائبا، وقفل من ضياعه شاحبا، لأنها تروي لنا بلسان الصدق الذي ينقش الصورة بظلال أفنانها، وطيف ألوانها، كيف تكون حسيرا حين تحس بالإهانة ممن تظنه نصيرا لك، وهو مفارقك بين غمرات سويعة تتمنى فيها إهمالك.؟ لا أدري، كيف سيزول ألم الخذلان، إذا كنت تستوعب الألفاظ التي كتبت بها قراطيس الحكمة بين غضون الأزمان.؟
أجل، تلك الحكاية لا تستوعبها الأعين التي تحدق في الكلمات المعسولة، بل يدركها ذلك الذي سعى إلى أن يكون وفيا للإنسان بما يختزنه من المعاني المبذولة، فإذا به يسمع نعاة يبكون على قبره بجنون، وهم الذين دفنوه قبل أن يختاره الزمن لمحادثة من يرقد تحت بطن الأرض بلا جفون. ستشعر بالخزي حين تموت على يد جبان، وهو منتش بما يضن به من حنان، لأنه لو كان قمينا بأن يكسبك رداء العز، لما تجاوز حد اللياقة في اللمز. أجل، لا محالة ستحس بالعار حين يبيعك من وهبته زهرة حياتك بأبخس الأثمان، وأقرضت في دائرته أجمل الأوزان، وهو يزعم أنه قد وفى بالعهد الذي بيننا في نسب السماء، وصلات الغبراء، ويحسب رأيه مصيبا حين فصل بين الذات، وذاكرتها، وحافظتها، وقطع ما بين الذكريات وأوراقها، ومذكراتها. ربما قد كان هذا مستحقا لشارة الدهاء، لكن أنى له أن يكون بفصيح التعبير أهلا للذكاء، إذ الداهية لا يقوِّي زناده إلا عقل المحارب، لكن الذكي، لا يحكم صولته إلا غباء المقارب.؟ هذه هي الحقيقة الجلى، ولا يفهمها إلا أهل الحجى. وأين هم في عراك طالت آماده على ذات هامسة، لم تقم قدماها إلا على حصة بائسة، قد كسبها القصد بالكد بين موارد الأوهام، ومعاهد الأحلام، كما يملكها غيره بوسائله، ويحوزها إلى دائرته بأهواله.؟ فما أبلهني حين ظننت المتعالي بمخذول الصفات، سينتهي غلو عقله إلى لحمة تجمع بين اللدات، فيكون المناخ رائعا باعتراف كل واحد منا بالآخر، واحترام كل طاقة لملكات الغير. لكن أنى لنا أن نتقابل في زمن اخترع الإنسان من ذاته عدوا يخافه في خارجه، وهو لا يحاربه بكل ما أوتي من نصال تهريجه، إلا لكي ينتصر عليه بالدوال، أو أن ينتهي حاله إلى الزوال، ويكون بذلك شجاعا في عين المتربصين للبطولات بين دسائس الأقوال، وجرائر الأفعال.
قد ينتصر المعاند المفارق، لكن ما هي الأسلاب التي امتلكتها يمينه بالتحقيق، لكي يستوجب الأبدية في أفراحه، والسرمدية في أملاحه.؟ قد يكون الباكون كثرا بين الديار التي انتظرت فقس البيضة سنين طويلة، فإذا بها لم تُخرج إلا رائحة التاريخ، والإنسان، والحياة العليلة. لكن ما الذي عتم أفلاجهم بالعماء، لكي يرسلوا دموعا مدرارة إلى مجاهل الخواء.؟ فالأغرب أن العقل الذي يقدس الصراع بإذعان، لن يعيش إلا بافتراض ذلك العدو الذي يريح جهله بالغامض من أسرار الله المدبر للأكوان، وذلك ورد مورود لكل مكتسب لصفة تحددت بها قيمة مشيته، واكتفت بها صولات مدحته، ومهما كان جرمه هزيلا كشبحي، أو رميه ضعيفا كحال رمحي، لأن طمع الإنسان، وجشعه، لن يتركه قائما بما في عمقه من صفات وضعه، ما لم يقتنع بأن لها تجليات في واقع ينقشه بريشة إخلاص قلبه، أو بمكنسة خداع أربه، إذ نحن بني آدم فيما وجد جرمه بين الأبدان، لن نتوقف عن إخفاء شباك صيدنا بين الوديان، ما دام آباءنا قد تحاربوا على قبول القربان، وتقاطعوا في رص صف الحب بين الأديان، لأن فقيرنا سينتهي إلى تقديس زرعه، فيعتقد فيه لب حياة ورعه، وغنينا سيرى حقيقته في طي الصفحة، لئلا تطول المدة بين أتون الأوجاع المفصحة، فتفوت بذلك متعة الفتاة التي سمتها السماء عاجلة، وهي في سموها عند عقل حار لبه في دبيبه على طرق الآجلة، لا تحتمل إلا أن تكون بستانا للطمأنينة، وواحة للسكينة. إذ لو جعلنا المعقَّد في التركيب هو البداية، لانتهينا إلى البسيط في النهاية، لكننا عاكسنا القضية، فلم نعثر على سر الحكمة في خاتم سليمان الذي لبسه المتصاغر بالدنية، وهو ليس إلا رمزا لما هو مركب في الكلام من بيان، أو مبسط في الإشارة من لسان.
تلك هي النقطة التي تتمنع على نفوس انتجعت البسائط بين واحات العقول الخالدة، والأنظار التالدة، وهي في وقوعها على موقعها تمام للإنسان الكاسد، وإكمال لعيب نقصه الآبِد، إذ لا أمل في طي المسافة بين الروح، ومدارها، ولا شوق في عصيان كدر النفس وغائرها، وإلا، فلم تباع الذمم بأبخس صفقة، وفيها مهجة الزمن المترنح بين القسوة، والشفقة.؟ أجل، صعب أن نعتقد بوجود الطهارة فينا منذ أول رمية قذفنا بها دلونا بين الدلاء المترامية، لأننا سنؤسس علاقاتنا على مقتضيات غير متناهية، وإذ ذاك، ستتصارع المطلقات، وهي في حقيقتها نسبيات، وفي طبيعتها ديمومة لمنطق التجاذب بين الثنائيات، وتطبيق لمبدأ الصراع في المشتركات. كلا، إذا كانت الصفة تمنحنا الكمال، فإننا قد تجاوزنا الحد المعتاد في المقال، وصرنا ملائكة لا تقبل النزول إلا في محراب المتسامين بالقداسة، ولا ترضى إلا بمعاشرة المتعالين بالشراسة. وإذا تخلصنا مما هو كائن فينا من بشرية، فلا محالة، سنجري بين الدروب بأرواحنا الآدمية، لا بأجسادنا المغلوبة بطبعها، والممتحنة بجزعها، وإذ ذاك، لن نطيق أن نقول للنار نارا في السرعة، ولا للماء ماء في الروعة، لأننا سنغالي في امتلاكنا للصفة التي بها تتحرك الأشياء بلا تركيب، وتقرأ بلا ترتيب. وذلك ما يصير قاعها مآلا للرسوب، ومرفأ للكروب، إذ هي في تحريفها لا تحمل أوساخنا، ولا تقبل أوجاعنا، ولا تنتمي إلينا في النضوب، ولا تنتسب إلينا في الشحوب. وما لم يستوعب القول كليتنا، ويستحوذ على هويتنا، فإنه لن يكون ترسا نحتمي به من غارات الدهور العجفاء، وتقلبات الأحوال الرتقاء.
قد يكون هذا مضيعا لكثير من زمننا الذي وجدنا فيه لخدمة مطلق الإنسان، ومنازلة ما توارى من نوء بين العنان، وربما إن لم نكن يقظين بما فينا من فجوة الفوات، سننتهي إلى فراغ تضيع بين مهاده أجيال تنشأ بين محول الفلوات، وهم أبناءنا، وهم أسرنا، وسائر من صدق بأنه موجود، وأيقن بأنه مطلوب للمساءلة الأخروية في الخلود. أجل، كثيرة هي الأحلام التي نخفق في تحقيقها، ونجهل طرق كسب جمال رقيقها، لأنها ما سميت حلما مبهر الطوالع، إلا لكونها في عالمها الغامض المطالع، تميز الذات عن الصورة، والفكر عن الموضوع في الضرورة، إذ هي البرزخ الذي لا يرده إلا المحترق بالعناء، والمتألم بالشقاء، وهو في خضم كبده، وفي لاعج بدده، لا يختمر قاعه إلا بما يزيده يقينا بمناطق الفصل، ومواطن الوصل. لكن، أن تخفق في القبض على ذكرياتك، وأنت تمد إليها كليات خطراتك، فهذا هو الألم الذي لا يداوى رزء جرحه، ولا يرجى بوح فرحه، لأنه ما كان مستحقا لأن يكون حنينه ذكرى، إلا لكونه يستوجب رقيق الدمع في أنين الشكوى. فلمن ستشكو حالا شفه الضنى بين ملماته، وقد أغلق باب السرحان على العقل الذي كلت سرعته، ومُنع النبع على الفؤاد الذي ملت دقاته، وحصر القرع على يد شلت مداراته، ولم يبق له إلا أن يكتب صك حريته، وينشئ له في المبنى معنى يقي رُواء روايته، لأنه في زمنه النيتشوي المشنف لخصاله المعربة، وقد مضى في معترك الحرف الذي خلده القلم للرشف من تسنيم تجربة الغربة، كان يلم بالعلاقات التي تربط بين مضامين الأشياء، وفي زمنه الأنطولوجي المطاوع لبديهة جونه المتوحد، وهو يعيشه خاشع الذهن بين أمداء الوجود، ويحياه بما يلبسه من كسوة بين أفياء المنن، وأجواء المحن، قد أيقن بأن ملهاة المثالية المتدلية أرجوحتها بين منتجعات الكندي، ومتزهات الفارابي، ما هي إلا فرن يصهر الأفكار، ويدون الأنظار. ذلك هو الخلود الأول له، فإن قبِله بصدره الجريح في مقيله، وقاله، وكان متحملا لوعثاء سفره بين غابات المجهول، ومجاري المعلول، فإنه سيغدو للفظه مذاق حين ينسج يراعُه آلام الوعي الشقي، والفكر الدوي. وأما الخلود الثاني الذي يختبر غصته، هو أن يغمض عينه على غرته، ويرغم أشجان روحه، وأقداح راحه، ثم يستجدي بإملاق من لم يميز بين كونه إنسانا في قضيته، وبين كونه مريدا للإمعان في تأديب لهجته، فيكون بذلك قد ضيع الصورة الجميلة التي رسمها في ذهنه، وفقد ما وسمه به الدهر من لونه. وهي في غالب أحوالها المجلوة بلغب المكان، تنمِّي فيه عذوبة حب الإنسان، وكراهية خشونة من يريد إفساد علاقته بكيانه، ويسعى إلى أن يدمر وشيجة صدقه في لسانه. فهل عصى ما تقرر من عهد.؟ أم انفصل عما ربطه من عقد.؟
لم يكن ذا ولا ذاك حالا له، ولو نطق الفصيح بالإنكار على مُحاله، إذ ما يخشاه الإنسان على كمال أمانته، هو ما يعير عينَها للفقر المنقوش على إداوته. فهل خنتها بالاسترزاق بشبهتها، ولم أراع ما في طويتي من صراح ذمتها، فأكون بذلك حاطب ليل لما يسعف العين من لذاتها الحقيرة، وغاياتها الكسيرة.؟ أم خفرتها حين جعلتها سترا على قبول بشريتي لنجاسة قصدي، وصيرتها وعاء لكسب حظوة معرورة في كبدي.؟ لا، وألف لا، بل حاربت أقيالا أرادوها قنية، لكي تكون بضاعة قابلة للنفوس غير المهذبة بروح الأزلية. ولولا ذلك، لما حاربت جهلا خالها قوة عارمة، لكي يكسب بها مناعة ناعمة. كلا، لو حركت ذيلي بين الذيول التي تزلفت بكل ما ينفي العهود، وينهي الحدود، لكنت وثيرا عند من أرادني جسدا بلا نفس، وعقلا بلا أساس. فأي قيمة لهذه العلل التي ازدردت مرارتها، وابتلعت حرارتها، إذا لم نتحاور بسوية من أجل كسب شرف الصفة التي تقابل عليها الأقوياء، وتقاتل حولها الأشقياء.؟ لا أراها مستحقة لأن تكون قيمة اعتبارية، ما دامت لم تفض بنا إلى شط السلام في المرامات المتعالية، إذ هي في منتهى الصوغ الذي نخب إلى ذروة قممه، لا تحتمل إلا الوحدة على المبدأ الأوفى، والسماحة في الفهم الأصفى، لأنها هي الجماع الذي يلمنا حول مائدة واحدة، والرابط الذي يصل بيننا في حمى المودة، علنا أن ننظر بنظر متكامل في التقارب، ومتعال عن التجارب. لكن أن تُجعل الدائرة كسبا للعقل الواحد، فذا ما يصيرها محلا للخلاف الأوكد، ومآلا للنوازع الذاتية اللئيمة، ومساغا للنفوس الأثيمة، وما أعسره إذا انبنى على حظوظ النفس الفاضحة، ولا موجه فيه إلا ما نشهده بين الصغير والكبير من تفاوت الأعمار المنصرمة مع التجارب السيئة، والناجحة. فلم نريدها ائتلافا، أو نحبذ أن تكون اختلافا، وهي ما تدنست إلا حين كانت ميزة للجزء المتعاظم في جرمه المتورم، والمتهوج في قوله المتبرم، لأنها لو كانت معنى كليا في القيم المعنوية، لما وقعنا في أخطاء كتبها التاريخ على صفحة كل واحد كان مثيرا للسؤال الدائر حوله بالألسن الغضة بالإشاعة المغرية. فلم لا أصونها عن الملام، وهي أجمل هدية ننحلها كل محب للسلم، والسلام.؟ أجل، لم أكن مستهينا بجزئيتها، ولا مستريبا في كليتها، لأنها كانت سرا مكنونا في عهدي، ووصلا محمودا في ودي، وهي قائمة بما ورثناه من فضائل القدماء، ومحاسن العظماء، وهم قد كانوا أصون لعرضها المتحتم، وأجمل لكسب شرفها المترنم.
قد يكون هذا غير مرئي لكثير لا يتقن إلا آلة المدح، أو يدلف بلسان الذم السيال بصريح البوح، وكان حريا به أن يوطن عقله على معيار الغزالي، وشمسية الرازي، لكي تتركب المركبات من دقائقها الجلية، ونوادرها الخفية، لكنه ولو لم يَدَع حدوثَ ذلك زخرفُ الحظوة المسمومة، وبهرج الخطوة المحمومة، فهي حاضرة في المعاني الكبرى لقضية تفرعت عنها مآس خضتها برهبة كانت سببا دقيقا في حزني، وعلة متسللة إلى خمودي بين مغابن غبني. فلا حرج إذا قلت: إن حصر الإنسان في غمرات ذاته المربوطة، وقصر عينه على النظر في أغواره المخروطة، هو الذي يجعله حائرا الأنظار، وشديد الانتظار، لأنه ما رأى خارجه مضرجا بالصراع، ومضمخا بالصداع، إلا لأنه أحس بأنه يعيش بداياته في باطنه، وهو يبحث عن أساليب الفكاك في ظاهر كامنه. وتلك هي العقدة التي استفحلت حتى أربكت الخطوات بالهوى، وغدا الحظ مبتورا السيقان بالنوى. إذ لو تم لنا أن نتجاوز هذه اللحظة التي نعيشها كالفئران المنكفئة على غارها عند خشيتها من هسيس الأحياء، واحتماء هلع خداعها ببطون الأحشاء، لما كنا مشاهد للمتعة، ومرابض للوعة. فلا غرابة إذا اعترف كل واحد منا بخطئه، لئلا يغالط التاريخ بما يغني به من صراح برئه، فيزعم أنه في استتاره وراء القناع، واستخفائه خلق الرقاع، سيكون مستورا عند خالق الأذواق، وفاتق الأرزاق. إذ ذلك التعهد الذي يلف أعناقنا، يقتضي أن نسمي الأشياء بأسماء تنزف من أعياننا، لئلا نرسخ حدقة العين على مكمن الجرح الذي نقشه الألم في نواتنا، وعصره الزمن في ذواتنا، فنكون كالذباب الفاقد للذاكرة، والمحروم من الخاطرة، لا نلغ إلا في القروح، ولا نعثر إلا على نتن الجروح. وهذا ما سيجعل سير الباقين مستوعبا للدرس الذي حدث في قصة الحق الإنساني، فيمشي السَّفر المجتمعون إلى حقيقة الهدف الذي نخلده بفعلنا الكوني. وهو خلق ذلك الإنسان النوعي في احترامه للخصوصيات التي نشأت من عادات وتقاليد المهاد، وتقديس الثوابت التي تآلفنا عليها قديما بلا بعاد، وهي لم تصنع فينا عداء، ولم تجر علينا بشقاء، بل ربطت بيننا برابطة المحبة، لكي نواجه المجهول بعيون وثابة، ونلامس ما بين أيدينا من نعم أرضية، عساها أن تكون مرقاة إلى عالم الحقيقة الإلهية. تلك هي مهمتنا التي آلت إلينا في زمن ممتزج الأعراف، ومختلط الأحلاف، لكن حين نتسامى عليها بتضخيم أشخاصنا، وتبجيل أعياننا، فإننا سنضيع هذا الميثاق الذي نبرم حقيقته لتحقيق السعادة في الحياة البشرية، وتوطيد نقاء نواميس العلاقات الاجتماعية.
وما أحيلاها حين نشترك في بسمتها، ونمرح بفرحتها.! فلا نجهلْ محجة الطريق، ونحن نستدل عليها باقتباس الأخطاء بلا توفيق، ثم نحررها على طرة العهد الذي أرغمنا ذواتنا على الوفاء لما يتضمنه من أسانيد، حين جعلنا مصلحة الجماعة أولى من مصلحة الأفراد، ورفعنا عماد حصوننا بدماء الشهداء الذين مهدوا لنا سبيلا آمنا، وكنا حاضنا.
هنا كان روسو حاضرا في القضية التي يعتبرها بعض أدبا، واعتبرها في قرارتي جرحا غالبا، وهو في طبيعته قد كان ممتزجا بدماء العصر، لأنني حين وعيت بعض جواهر عقله بالنظر، تعلمت كيف يمكن لنا أن نتعايش في ظلال المدنية الفاضلة، وكيف يمكن لي أن أجعل التعدد منهجا لبلوغ الأمل الإنساني في القيم العادلة، ما دمت أحتفظ بما لي من أطراف المجالب، وغيري مستمتع بما له من أوتاد المكاسب. لكن، لو أضيف درس حكمة الأوائل إلى منهج التعامل بين المشتركين على المنفعة الحاصلة، وأُلزم حملة الرسائل بلباس الرحل الزاهدين في حطام العاجلة، لكان الصراع متساوي الأطراف، ومتوافق الأكناف، إذ لا يدل في تلك اللحظة إلا على ما فينا من آدمية، وهي حق الأرض التي سنؤوب إليها عند انتهاء مادتنا البشرية، وبقاء صورنا في الذاكرة الإنسانية. أجل، ها أنذا أخرج من كل شيء بلا امتياز، وأطلق ما تبقى من اعتزاز، وهو تخلية عن عوارض النفس التي تألمت بالشقاء من دار الأمان، وتعذبت بالحرمان بين مجامع الأعيان. وربما ستأتي من بعدها تحلية المقاصد بروح القدس، وتزكية المطالب من لوثة الإلباس، إذ هي رغبتي التي يعرفها كل متسائل عن مهد ضجري، ومورد وضري. فهل ستفرحون لفقدان هذا الجسد لتلك النسمة الإلهية التي أودعت في مسيره، وبها منتهى مصيره.؟ لو أصبنا مكمن فرح ذواتنا في إنهاء الأتراب، فإننا لم نكن إلا ملامسين لظهر النص الذي نشرحه بزفير الاغتراب، وهو لا يمنح هبات غموض دلالته، إلا بعد أن يكون تأويله غير مناف لبساطة وسم ولادته، إذ هو رؤية الله في الأشياء التي خلقها في نقش البداية، وإليها يتم الختم في وشم النهاية. وكل ما ظنناه محل نظره سبحانه في الأشياء الحادثات، فهو مقدس في الأديان، والفلسفات، والثقافات، والحضارات. فأين ما نعرض به من آمال نبني بها في عقل الإنسان، كيف يكون ما نقوله حجة على تفوقنا في وسائل المنطلق، وتميزنا بامتلاك صفته بين مواجيد الأذواق.؟
ربما، سيكون لزاما علي أن أكون متلطفا في حدس ما تبقى من ملامح الوجوه التي يقلقها حضوري، وربما من شدة الحرص على تبعات الوفاء لهزيمة ظهوري، سأنفي عنهم التشفي من ذكرى الغياب التي سأكونها بعد زمن يسير، وقد كانها غيري بلا إنكار، وسيكونها كل من خال دوام الحال ممكنا، والمقام محصنا. لكن، لو قلت لهم: ستفقدون شخصا كان مرحا في التخلص من لحظات الاستعداء، ونشطا في إبراز الخفايا التي تعذب النفوس العجماء، وهي لا ترغب في الإفصاح عن مكنونها، إلا لأنها تخال ذكرها نقصا في معاطنها. أجل، ستحتاجون إلى شخص كان غريبا في غموض فكره، لا لأنه انطوى على سر عظيم في سَحره، بل التوى على جرح عميق في قعره، فكان يداويه بما يلبسه من مظهره، قد يستفز عيونا أرادت أن تحصر كل شاخص أمامها بخيالها، وابتغت أن يكون كل فرد مكشوفا لعين خبالها. وربما، وربما، لأني ما تجرأت بالإنكار على من جعلهم الزمن في السطر الأعلى لكتاب حياتي، إلا حين كان المعنى مهددا باحتقار نعوتي. وحينئذ، لم أشارك في حبك الكراهية التي تغمس المعنى في آسن الخديعة، وهي ليست مآلا إلا لمن امتلأت جوانحه بالدسيعة. فالمعنى هو المصان العهد بضمانة رعاية فجاجه، وكلٌّ يحدده بما تقتضيه تربيته، وثقافته، وطباعه، ومزاجه، فهو عندي بمعنى آخر، لأن ما نحميه في الأثر، هو بالنسبة لي إنقاذ لما أشهد تحوله في سموق القامات، وبروز الغايات، وإظهار لعوار سوآت تضخمت بالأنانية المستعلية، فاستدلت بالخداع على نبل مقاصدها المتدنية. وما فعلته من مشاغبة في قلب الرائي القصير النظر، أو مشاكسة في عين العليل الخبر، ليس إلا تقديرا للمصلحة بحد من حدودها، وتجديدا لصلتها بما يتضمنه مدلولها من سمو الإنسان بقصودها، وانتمائه في الكينونة إلى عالم المثال الأزلي، وانتسابه في الصيرورة إلى المعنى الأولي. ولو أخطأت، أو اعتراني ضعف بشري فيما أوكأت، فخارت الهمة، وانحنت الهامة، فجاء مني الزلل في السيرة التالدة، فهل سننسى أننا كنا متآلفي اليد على حماية هذه الجوهرة الخالدة.؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر