الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمّام العنّابة

كمال عبود

2017 / 12 / 3
الادب والفن


صخرةٌ حملها سيزيف* ..
وصخرةٌ ( انبجست منها اثنتا عشر عيناً )...*
صخرةٌ وقف عليها النبي الكريم وعرج م فوقها ...
أو صخرةّ وقف عليها صياد بحري أوكانت على باب مغارة في جبل او على مفرق ضيعة منسيه
هي صخورٌ أضحت ناطقه .. لم تعد جامده .. دبّت فيها الحياة .. جرى فيها نسغ الحكايا ..
كأحجار البيوت .. القلاع .. صخور الشواطيء ، تنبض بحكايا من سكنها وعبر منها وإليها ، من حملها وأرهقته ومات تحت ثقلها أو من سُرَّ بمنظرها البديع بعد أن هذّبها عقل وأيدي بانيها .
والحجارة تحب الأسرار .. أسرارصنعتها وتكوينها وأسرار أقوام بنتها وخبأت عواطفها خلفها .. وربّما ضحكت أو بكت ، تأثراً بما شاهدت أو سمعت ، وقد تبوح يوماً بالهمس الذي خزّنته في ثنايا تجاويفها الصغيره ، وهي الرمز للقوة ..
وهي كتاب التاريخ المفتوح
*****

حجارة سوق العنابه الرمليه وحجارة أرصفته لها حكايا وحكايا ... يفوح منها عبق التاريخ وتختزن أصوات الخطى الذين عبروا وأحلامهم وربما انكساراتهم .....
سوق العنابه الطويل وتفرعاته هو مركز المدينة ومحل نشاطها وتجارتها وفي نهايته شارع معترض على طرفه الجنوبي حمام العنابه
البناء العالي ، المختلف الذي لا نوافذ له ، حجارته الرمليّة الضخمه وبابه العالي ذا القنطره المزخرفه فوقه توحي بمهابة خاصّه ...
*****

يدي في يدي أمي ، ترافقنا جارتنا التي بعمر أمي ندخل باب الحمام الضيق ، ثمة امرأة في نهاية الممر : لمن ها الولد ألا تعلمين ممنوع دخول الأطفال ..؟
قالت أمي : عمره ثلاث سنوات .. وهو لا يعرف شيئاً . ثمّ وضعت في يدها قطعةً نقديه قيمتها عشرة قروش ...
دخلنا إلى بهوٍ مستطيل على يمينه طاولة حجريّه خلفها امرأة سمينه ، رفضتني كوني ذكراً لكن أمي دست في يد المرأة ربع ليرة سوريه، زيادة عن أجرة الحمام التي تعادل ليرةً واحده ، فسكتت المرأه...
قالت : هذه قطعتا قماش للحمام وهذه لوضع الثياب التي تلبسيها، وكذلك أعطت جارتنا ، ثمَّ صعدنا ثلاث درجات إلى منصة مستطيله، في جانبها مصطبة تجلس عليها بضع نساء حاسرات الرأس ، نساءٌ تقدّم بهنَّ العمر واخراتٌ أقلُ عمراً جميلات الوجه والصوره ، وهناك وامرأة تساعد القادمات ، تلفهن بلباس الحمام وتستلم صرة ثياب الخروج
كان عمري خمسة اعوام لكن وجهي الطفولي يبدو ثلا ث سنوات ، نزعت عني أمي لباسي الذي ألبسه وهو فستان قصير كفستان البنات ودخلت معها ومع جارتنا إلى ممرٍّ ضيّق يملؤه الضباب الساخن وفي نهايته ثمة غرفة شبه مظلمه وفي كل زاويةٍ ثمة جرن صغير يتصاعد منه البخار ، ونساء شبه عاريات يدلقن الماء على رؤوسهن، دخلنا الى غرفة أخرى والجو الحار الرطب يكاد يخنق النفس جلست مع أمي قرب جرن ليس عنده أحدا، بدأت أمي ورفيقتها بالغسل وبدأتُ اكتشف عالم الحمّام ...
كان عالماً صادماً لطفلٍ يرى مشاهد كثيرة ومتنوعة في ذات المكان أصوات نسوة يتحدثن ولا تنقطع أحاديثهن وأصواتهن العاليه تختلط مع اصوات الطاسات النحاسيه التي ترتطم بحجارة جرون الماء .. ونساء كبيرات السن شاب شعرهنّ وأصبحن سمينات كثيراً وضحكٌ وهمسٌ ، وصبيٌة رشيقةٌ قفزت وصارت ترقص مغنية ثمّ اشعلت سيجارة تبغٍ وراحت تنفث دخانها بتلذّذٍ واضحٍ .... وإشاراتٌ ذات معنى ترسلها إحداهن الى رفيقة أمي .. وامرأة تغني بصوت عذب شجي وثمة امرأة ( دايه ) تداوي امرأةً تعبت مفاصلها بالدلك وال( المسّاج) وتدهن جسم أخرى دواء أسود زيتي اللون ، كانت الأفكار تختلط بالرأس ، حين دخلت امرأة صغيرة السن لم تكد تجلس ، حتى علا صوت من امرأة في زاوية بعيدة : كيف تتركي البيت وتجي عا الحمّام ، العمى بعيونك ما أوقحك ..
ردّت المرأة الصغيرة : بدي أجي ايمتى ما اريد ، بتعرفي انتِ تجي مع ضرّتي ، طبعاً دلال وغناج ، هاي بنت اختك ..؟
قالت المرأة الكبيرة: بعدها عروس ياعيني ، بعدين انتي ما تعدلي ظفر من أظافرها
قالت الصغيره : الله يلعنك ويلعن كل حماه متلك
وفجاةً انقضّت الكبيرة ومعها امرأة هي ( العروس) على المرأة الصغيرة رموها أرضاً .. نزعوا قطعة القماش التي تستر حوضها وانهالواعليها ضرباً وشدّوها من شعرها مع اللعن والسب والشتم بأقذر الألفاظ : يا وسخه .. يا وقحه ..يا بنت ال...، لكنّ المرأة استطاعت ان تفلت ونهضت كمن مسّها الجنون ، دفعت حماتها إلى الأرض الزلقه ودفعت ضرّتها وبدأت تركل برجلها القويًة حماتها وضرّتها وهي تبصق عليهما : أنا نظيفه ... أنا الشريفه .. وانا الأجمل من هذه القرده ومنك ِيا بقرة ، تفو ...
أبعدتها النسوة بصعوبه .. كانت أنفاسها تتلاحق وهي تلهث:
شوفوا يا ناس وخلوها تحلف يمين اذا ازعجتها يوماً في حياتي أو قصرّت في عمل أو لم انجب ولداً وبعد ذلك تحرّض زوجي ويتزوج من ( فصعونه) ، ثمَّ سحبت خاتماً من بنصر يدها اليسرى ورمته صوب حماتها : روحي انتِ وبنت اختك ، انا خلصت من عيشة الذل والهوان
قالت حماتها : عا جهنم ان شاء الله
وعادت المعركة من جديد "...
كنت الطفل الذي شاهد المعركه مبهوتاً ممّا جرى وبعد السكون سألت أمي : شو معنى الضرّه ...؟
قالت : الزوجه الثانيه للرجل
قلت في نفسي : الحمد لله ليس لأمي ضرّه تؤذيها ...
-------
حمّام العنّابه : خلف حجارتك الرمليّة وجدرانك العاليه كان الدرس الاجتماعي الأول وكان المشهد المسرحي الذي جعلني لم اقتنع منذ ذلك الوقت البعيد بتعدد الزوجات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس