الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد طه حسين (2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 12 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


طه حسين وقضية النزعة المصرية – وطنية ضيقة أم قومية مبتورة؟


لقد وجد طه حسين في مصر آنذاك كيانا مريضا. ونستطيع تلّمس ورؤية وسماع معاناته وحسّه الوطني والإنساني العميق والعقلاني أيضا في الموقف من حالة مصر وعلاقتها بأوربا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص. وليس مصادفة أن نعثر في كتاباته الاجتماعية آنذاك على كتلة من المواقف المتناقضة والاغتراب بسبب التاريخ الحديث. لهذا نسمعه يقول، بأنه وأمثاله بذلوا الغالي والرخيص من اجل حرية مصر وتطورها ونجاحها، بينما يروها معقودة اللسان والأيدي وفاقدة الحركة، على خلفية إصابة مصر آنذاك بمرض الكوليرا. من هنا ظهور السؤال: ما هو الشيء الذي تجاوزته مصر؟ أنها مازالت تعاني من مختلف الأمراض (الكوليرا وما شابه ذلك). انه مؤشر على بقائها ضمن حيز التخلف رغم كل ما قيل ويقال. ويختتم المقال بسؤال بسيط: بأي طريق تسير مصر؟ طريق الحياة أم طريق الموت ؟ انه سؤال المثقف الكبير في مواجهة إشكاليات العصر والنفس ولكن دون الوقوع في حالة اليأس والقنوط.
وقد تكون الفكرة المصرية، أو الوطنية المصرية المرفوعة إلى مصاف الرؤية القومية احد نماذج الغلو الواقعي آنذاك في إدراك وتأسيس مهمة الأدب الاجتماعية والسياسية والوطنية. من هنا نراه يقول بوجود "صورة جديدة للقومية والوطنية قد نشأت في العصر الحديث . ولم تكن هذه الصيغة الأولية في الواقع سوى الشكل الجديد لنمو الفكرة القومية الجديدة التي لم تع ذاتها بعد بمعايير المستقبل، رغم أنها تتكلم عنه. وذلك لأنها كانت محكومة بثقل التقاليد المصرية المتراكمة والمشوهة لحد ما من تفاعل السيطرة الأوربية المباشرة وغير المباشرة على الوعي الاجتماعي والسياسي والأدبي الجديد، أي المنبهر بتقاليد الغريب القريب، وهيمنة التقاليد الغريبة والقريبة لماليك العائلة الخديوية.
لهذا نراه يظهر بصورة الوطني المصري الحر المدافع عن الاستقلال السياسي والاجتماعي والمعرفي . وكذلك في شخصية المدافع عن المجتمع وحقه في إدارة شئونه الذاتية بنفسه، ومن ثم معارضة فكرة الوصاية على المجتمع كما لو انه قاصر . بل ويتعدى ذلك إلى مجال الدفاع عن مظاهر الاحتجاج والمقاومة الاجتماعية السياسية الوطنية (المصرية) والبحث عن القيم الجميلة والنبيلة فيها والانتماء إليها . وان يضع هذه المواقف في صورة نقدية ساخرة عندما كتب مرة يقول "فليهنأ الأزهر برضى الحكومة، ولتهنأ الجامعة برضى الأمة وغضب الوزراء" . وعندما ينتقد حالة الإدارة المصرية، فإننا نراه يتناولها مقارنة بحالة العراق أيام زياد بن أبيه! انطلاقا من أن الشيء بالشيء يذكر . والشيء نفسه يمكن قوله عن محاولاته تحديد ماهية النزعة المصرية وتأسيسها. بمعنى الانطلاق من الواقع من اجل تلافي الخلل فيه. وانطلق هنا من مقدمة خطابية مقبولة بمعايير الخطابة الاجتماعية تقول، بان "الله هو الوحيد القادر على خلق كل شيء من لا شيء. أما الإنسان فعاجز". من هنا فان "مصر لن تبتكر ابتكارا ولن تخترع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وبأن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتدادا صالحا راقيا ممتازا لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف" . وهي فكرة سليمة من حيث تأكيدها على وحدة الماضي والحاضر بالنسبة للمستقبل. لكنها فكرة مبتورة حالما يجري وضعها ضمن سياق الفكرة الوطنية والقومية وذلك لطابعها الخطابي. وذلك لأنها تجمع كل ما يمكن جمعه من وقائع ودقائق وحقائق في خواطر اقرب ما تكون إلى خطاب يدغدغ الوعي المسطح لا العقل النقدي. وانطلق في تأسيس فكرته هذه من مقدمة تقول، بان الدين واللغة ليست قواما وأساسا للوحدة السياسية وتكوين الدول. وان تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد على الدور الذي يمكن أن تقوم به "وحدة الدين" و"وحدة اللغة" بهذا الصدد . والمسلمون أنفسهم قد تخلوا عن هذا المبدأ منذ زمن طويل. وأقاموا سياستهم على المنافع العملية . بل أن تجربة الخلافة والإسلام دليل على ذلك. وكتب بهذا الصدد يقول، بان المسلمون فطنوا إلى جوهرية المنافع العملية وليس الدين واللغة. وهو أساس الحياة الأوربية، أي المنافع الزمنية (يقصد الدنيوية) لا على الوحدة المسيحية ولا على تقارب اللغات . وبغض النظر عما في هذا التصوير التاريخي من ضعف شديد للرؤية التاريخية، بمعنى انه ينظر إلى حصيلة التطور الأوربي بمعزل عن تاريخه الفعلي، أي ينسى تاريخ هذه العملية، بحيث تصبح أوربا بالنسبة له كائنا جوهرانيا قائما بذاته ولذاته منذ القرن التاسع عشر. إلا أن هذا الخلل الذي هو جزء من نمط الخطابة الفكرية، كان يهدف في آراء ومواقف طه حسين إلى تأسيس أهمية وفكرة الوطنية والقومية (المصرية) الحديثة. من هنا محاولته استرجاع الماضي بطريقة تجعل من مصر كما يقول "أول من استرجع شخصيته القديمة التي لم ينسها في يوم من الأيام"(!!). ولم تهدأ في محاولاتها هذه إلا حالما استعادت نفسها في ظل ابن طولون(!!) . بل أن تاريخ مصر مليء بالسخط والتذمر زمن السيطرة الأجنبية (الرومانية الغربية والشرقية). والشيء نفسه يمكن قوله عن "السلطان العربي" والسيطرة التركية.
إن هذا الخلط الفكري في المواقف كان نتاجا لتمازج الرؤية النفسية والعقلية الساعية إلى إبراز أولوية النزعة المصرية بوصفها نزعة وطنية. بمعنى أنها كانت تخلو من أبعاد الرؤية القومية العربية رغم أنها تتضمنها بصورة منفية. وهو خلل يعكس أولا وقبل كل شيء خلل التطور التاريخي أو بصورة أدق زمن التجزئة وانعدام التاريخ السياسي الموحد للعالم العربي. الأمر الذي جعل من الممكن الحديث عن "ثبات" مصر زمن "السلطان العربي" ومقارنة ذلك بغيره من "الثبات" أمام الغزو الخارجي. كما انه الخلل الذي جعل من الممكن إدراك الكل في الجزء وليس بالعكس. وبالتالي لم تكن هذه الهفوة المنطقية سوى الزلة العقلية في متاهات ودهاليز الانحلال السياسي والتجزئة الثقافية التي وقع فيها العالم العربي لعدة قرون بحيث جعلته أجزاء مبعثرة أمام مختلف أشكال ومستويات وقوى الغزو الخارجي، ومن ثم تحوله إلى فلك من أفلاكها أو طرف على حواشيها بعد أن كان مركز العالم الحضاري ومصدر الثقافة الكونية.
من هنا يمكن فهم بواعث هذه الرؤية المتناقضة من حيث مقدماتها وغاياتها والمتجانسة من حيث مواجهتها لحالة التجزئة والخراب المادي والمعنوي الذي حاولت مصر، قبل غيرها من الأقطار العربية، الخروج منه. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه من حالة مصر والعالم العربي ككل بعد ما اسماه بالغزو التركي، الذي لعب من الناحية الثقافية نفس الدور الذي لعبه البرابرة في قتل الثقافة اليونانية والرومانية، كما يقول طه حسين. إلا أن مصر "ثبتت أمام غارة الترك. أنها آوت الإسلام وعلومه وحضارته وتراثه المجيد"، فما بال "قوم ينكرون على مصر حقها في أن تفاخر بأنها حمت العقل الإنساني مرتين، حين آوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من عشرة قرون، وحين آوت الحضارة الإسلامية وحمتها إلى هذا العصر الحديث" .
إننا نعثر في هذه العبارات على صدى الرؤية الوطنية والنقدية والتنويرية في الوقت نفسه، رغم تأسيسها الخاطئ. والقضية هنا ليست فقط في أن هذه المواقف والأحكام تحتوي على تضخيم لا علاقة له بالتاريخ الفعلي، انطلاقا من أن "الحفاظ على الثقافة اليونانية والإسلامية" لم يكن من النصيب الأكبر لمصر، بقدر ما كان من نصيب العراق وسوريا والأندلس، بل ولخطئها الثقافي وخطيئتها القومية. لكنها كانت تتمثل ثقل التقاليد النفسية والخطابية المصرية آنذاك. بعبارة أخرى، إنها كانت تتمثل في غلوها ملامح الوطنية المصرية الصادقة بوصفها مرحلة من مراحل الوعي الذاتي الثقافي والقومي أيضا. وفي هذا كانت تكمن فضيلة هذا الغلو أيضا. وذلك لان الجذر الثقافي لتفكير طه حسين وميدان نشاطه الفكري ظل من حيث الجوهر حبيس الثقافة العربية والإسلامية.
فإذا كانت النزعة المصرية تطالبه بالقول بان اللغة والدين ليسا مقومات جوهرية بالنسبة للدولة والأمة، فان جذوره الثقافية وثقلها الكاسح في هويته وكينونته كانت تفرض عليه قول العكس. وهو تناقض نسبي وجزئي كان يتغلغل في كل ما كتبه طه حسين، شأن كل التناقضات الكثيرة في فكره ومواقفه. وذلك لان هذه التناقضات الجزئية كانت محكومة بغياب الرؤية المنظومية والفلسفية. لهذا نراه يدافع دفاعا شديدا عن اللغة العربية قائلا عنها بأنها "لغتنا الوطنية، ومقوم شخصيتنا القومية" . ويقف موقف المعارض والناقد لمحاولات الأزهر احتكار سطوته "الروحية" على اللغة العربية. إذ اعتبر العربية لغة الحياة كلها بالقياس إلى أصحابها، فيجب أن يكون شأنها شأن مرافق الحياة جميعا. لهذا لا بأس أن تأخذ الدولة على عاتقها مهمة الاهتمام والإعداد لها التعليم . كما نراه يقف بالضد من محاولات جعل العامية لغة. وبالمقابل يدعو ويعمل لتعليم العربية الفصحى، باعتبارها "لغة القرآن والحديث ولغة أسلافنا وآدابهم. أما العامية فهي مجرد لهجة مليئة بالفساد من حيث الوضع والشكل" . بل ونراه يطبق ذلك على الموقف من النصارى (الأقباط)، الذين "يتلون صلواتهم في لغة عربية محطمة اقل ما توصف به أنها لا تلاءم كرامة الدين.... الأقباط مصريون فيجب أن يتثقفوا في أمر دينهم ودنياهم كما يتثقف المصريون. وان العربية هي اللغة الوطنية لمصر فيجب أن يتقنها الجميع بغض النظر عن الدين" .
لم تكن هذه الأفكار معزولة عن تجربته الحياتية وأيامها المريرة كما صورها في كتاب (الأيام) ، والتي عكست بصورتها الخاصة وضعية العالم العربي واختلاجاته الداخلية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص، رغم خلو (الأيام) من الأبعاد الدرامية واقترابها من النص التقريري. بمعنى مظهرها الأدبي وضعفها الفني. الأمر الذي جعل منها معاناة تاريخية اجتماعية أكثر مما هي معاناة فكرية شخصية. لكننا نعثر فيها على صدى مرحلة الانكسار والصعود العربي - المصري في الوقت نفسه، أي انكسار التقاليد القديمة وصعود الثورة، وانكسار الثورة وصعود الوعي المتشكك، وانكسار التشكك وصعود العقلانية الايجابية. وإذا كانت هذه الصيغة شكلية في مظهرها، فإنها تحتوي في مضمونها على واقع العملية التاريخية المنعكسة في تطور النزعة النقدية الأدبية لطه حسين وقيمتها العقلانية بالنسبة للثقافة العربية الحديثة ككل، أي كل ما حدد بدوره مفارقة إبداعه العلمي والثقافية. وهذا بدوره كان وثيق الارتباط بشخصيته.
إن المفارقة الكبرى لشخصية طه حسين تكمن في جمعه بين أضداد حية وأخرى ميتة، كما لو انه يتمثل بصورة دقيقة انساق التناقض المبتور بين الشك واليقين والنقد والتطمين الذي هيمن عليه بقدر يتكافأ مع هيمنته على أسلوبه في التفكير والمواقف والأحكام. إذ يمكن وضع كل فكر طه حسين في عبارة واحدة تقول: "إنني اجزم لكنني اشك"! وما بينهما يتراوح كل تفكيره ومواقفه وأحكامه. لهذا يسهل السير معه إلى النهاية، تماما كما يستحيل الاطمئنان والركون إلى ما فيه. ومع كل يقين شك يوازيه دون أن يرتقيا إلى مصاف المنظومة. من هنا تعايش مختلف الأفكار والأحكام المتضاربة. والثبات الوحيد هو للقيم. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن تجربته الفردية وشخصيته العلمية والاجتماعية والوطنية والثقافية. لكنها شخصية لم تتكامل بمعايير الرؤية المنهجية، بقدر ما كانت تسرح وتمرح بقوالب متناقضة.
فعدما وصفوه مرة بأنه كاتب برجوازي أجاب: "لست كاتبا برجوازيا، وما أحببت أن أكون برجوازيا، وإنما رجل شعبي المنشأ والتربية، وشعبي الشعور والغاية أيضا". كما يمكن للمرء "أن يوصفني بما يشاء ولكني لست ارستقراطيا ولا برجوازيا". وعندما وصفوه مرة بالفوضوي في الأدب، فانه قبل هذا التوصيف استنادا إلى فكرته عن أن لا يستطيع رؤية الأدب وتصوره على غير هذه الحالة، بمعنى اعتماده على الحرية المطلقة بلا قيود ولا تخضع لنظام أو قانون . ووسع هذا المدى على مواقفه الاجتماعية والسياسية والثقافية العقلية منها والوجدانية. ومن المكمن رؤية ذلك على أمثلة كثيرة يمكن العثور عليها في كتاباته العديدة. كما يمكن الكشف عنها على سبيل المثال لا الحصر في مثال نموذجي عندما نراه ينتقد حالة "الضمير الأدبي" أي انفصام الشخصية وخضوع كل شيء لاعتبارات ثانوية . لهذا نراه يتناول في احد أحاديثه (مقالاته) قضية "نزاهة الأدب" مقابل قضية "نزاهة الحكم" . بمعنى الصيغة التي تتزاحم فيها وتتراكم الشخصية الفكرية والاجتماعية والسياسية والأدبية على أساس وحدة العقل والوجدان. لكنها صيغة أشبه ما تكون بما في ذلك من حيث مظهرها بأولئك القصاصين الكبار الذين كانوا يملئون الجوامع والمساجد والمحلات والأزقة في العهود السالفة، كما نراها على سبيل المثال في كتاب (من أدب التمثيل الغربي) . والشيء نفسه يمكن قوله عن كتاب (الفتنة الكبرى) وغيره من كتبه المشهورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات