الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التألق في قصيدة -رواية بين الثنايا- جاسر البزور

رائد الحواري

2017 / 12 / 26
الادب والفن


التألق في قصيدة
"رواية بين الثنايا"
جاسر البزور
هناك قاعدة تقول أن القصيدة عندما تكون انعكاس لحدث ساخن تفقد بريقها بمجرد فقدان السخونة، والمقصود هنا سخونة الحدث، ويرى البعض أن على الشاعر ـ تحديدا ـ عليه أن لا يكتب وقت الانفعال، لأن ما سيكتبه لن يكون له أثر بعض مضي الحدث، ويصر البعض على إبقاء ما يكتب من قصائد في الأدراج حتى يتخلص الشاعر من انفعاله ثم يقرأ ما كتبه ليقيم ويعدل فيه.
هذا كلام يردده العديد من الشعراء، ورغم أنه يحمل شيء من الصواب إلا أنه يتجاهل حالة الانتعاش/الومضة/الاستشراق الشعري، فكلنا يعلم بأن لحظة الكتابة لا تأتي في أي وقت للشاعر، بل هي تحتاج إلى حالة استثنائية، يتجلى في مزاج وذهن وصفاء الشاعر ليكتب القصيدة، من هنا إذا فقد الشاعر هذه اللحظة/الومضة الشعرية ولم يكتب ما فيه سيفقده لاحقا، من هنا نجد مقوله: "أنا لا اكتب القصيدة، وإنما القصيدة تكتبني".
ما جعلني اقدم رؤية متباينة في النقد، قصيدة "رواية بين الثنايا" للشاعر "جاسر البزور"، فمن خلال قصيدته يؤكد وجهة النظر الثانية، والتي تقول أن "القصيدة تكتبني،" بمعنى أن الشاعر هو لم يكتب القصيدة وإنما هي من دفعه ليكتبها، فهي كالطاقة المكبوتة إن بقيت محبوسة ستنفجر بصاحبها، فكان لا بد من إخراجها.
لكن هل فعلا قصيدة "رواية بين الثنايا" الساخنة ستفقد بريقها حال فقدان سخونة الحدث؟، باعتقادي أن مثل هذه القصيدة ستعمر طويلا، ليس لموضوعها فحسب، بل لجمالها، لرقيها، لتضمينها الحديث عن الحيوان، لسلاسة لغتها، لمقاطعها المختزلة والمكثفة، فهي صغيرة في حجمها، لكنها واسعة في أفكارها، في مداخلها الجمالية، ولكي نضع القارئ أمام حقيقة التألق والأبداع الذي لا يخضع لمفهوم محدد، وإنما هو عالم واسع لا يمكننا أن نحصره أو نعرفه بوجود شكل أو طريقة أو مدرسة بعينها، نفتح القصيدة أمام المتلقي لندخل إلى عالمها الواسع والرحب.
يفتتح الشاعر قصيدته بفعل الأمر: الفعل المطلوب من الاستفسار/السؤال عن الغزالة
"سَلوا تِلك الغزالة عن صِباها
وَكيف تَشتَّتتْ عَنْها ظِباها"
الفعل المطلوب منا الاستفسار/السؤال عن الغزالة، فهو فعل أمر فيه من التشويق أكثر مما فيه من الأمر السيادي، فهو جاء من صديق/أخ يحرص على إيصال فكرة/صورة/حدث جلل لنا، فهو يهتم بنا لهذا خصنا بهذا الاستفسار.
ولكي يشوقنا الشاعر ويشدنا إلى ما يرد قصه علينا، يستخدم "الغزالة" والتي تشير إلى الجمال، إلى الطبيعة، إلى الحرية، وقد جعل في هذا البيت تشويق آخر عندما تحدث عن فقدانها لصغارها، وهنا نجد حالة جذب أخرى تدفع المتلقي نحو المزيد من المعرفة، وإذا ما أخذنا أن ثقافة العربي التي تحب سيرة وقصص الحيوان وتميل إليها، حيث أنها متربطة بحكمة كتاب "كلية ودمنة" لأبن المقفع ورسائل اخوان الصفا، يكون الشاعر قد جمع كل عناصر الجذب والتشويق في فاتحة قصيدته، وهذا بحد ذاته فعل ابداعي متألق، لا يمكن أن يتوفر إلا في شاعر يتقن فن كتابة الشعر.
الشاعر، القاص يحدثنا بطريقة التشويق، فهو يعي الأسلوب المناسب لمخاطبتنا، لهذا نجده يضع هذه المقدمة:

"عَنِ الْغابات والأزهار عَنْها
وهلْ تُركت لِمغتصبٍ سَباها
أُجبْكم في سطوري والثَّنايا
لأَحْداثٍ توالتْ في رُباها
سَأكتب قِصةً تُروى لِطفلٍ
وإنْ سَمع الكبير بِها بَكاها"
هذه المقاطع تثير فينا مجموعة اسئلة، ما هو القصد/الهدف من هذه القصيدة، هل هو الحكمة التي تحملها؟، أم الشكل الذي قدمت فيه، أم اللغة التي حملت الفكرة؟ أم كل هذا؟
ينقلنا الشاعر إلى التفاصيل المتعلقة "بالغزالة" فيقول:
" هُنالك منذ أزْمانٍ تَوالتْ
بِلادٌ كانَ يُضرَبُ في صَفاها
ثِمار التين والزيتون فيها
وأعنابٌ تَدلَّت عَنْ قِباها
وغزلان وأطيار تآختْ
تُزيّنها وَتنهل مِنْ جَناها"
واقع الحرية والجمال والخير يجمله الشاعر في هذه الابيات، فنجد الانسجام بين الالفاظ والفكرة التي يريد تقديمها، "صفتها، ثمار، التين، الزيتون، عناب، غزلان، أطيار، تزينها، تنهل، جناها" فهنا الألفاظ بشكلها المجرد تعطينا فكرة جمالية عن الحال الذي كانت فيه الغزالة، فهي تعيش في طبيعة أخاذة، فيها من الخيرات الكثير، ومن الجمال ما هو متعدد الألوان والصور.
قلنا في موضع غير هذا "العديد من الكتاب عندما يتناولون الحيوان في أعمالهم الأدبية تكون حالة السواد هي السائدة، فهل يتوافق هذا القول مع قصيدة "رواية بين الثنايا"؟
" وفيها كانَ تَحْتَ الأرضِ جُحْرٌ
لِجرْذان تَوارت عَنْ سِواها
فما خَرجتْ لِتفسد ماء نهرٍ
وما بانتْ لِصقرٍ كي يَراها
وعِنْدَ الْصخرة الصّماءِ ذِئبٌ
يُراقب غَفْلةً مِمنْ رَعاه"
مشهد يوحي بوجود شيء/حدث سيقلب حالة الجمال والطبيعة الهادئة إلى شيء مغاير، فالجرذ يرمز للخراب وفقدان الخير، والذئب للافتراس والغدر، والصقر الحامي غائب أو مغيب لا يرى ما يفعله الجرذ ولا يرى الذئب.
" يُساوِم ثعلبا يُعطيه وَعداً
بِمُلْكٍ وافرٍ ما إِنْ غَزاها
فَما رَدَّ الأخيرُ له سُؤالا
وَراحَ مُخادعاً أَسداً عَلاها
لِيلقي جيفةً قُتلتْ وَيرْمي
بِتُهْمَتِهِ لِصقرٍ في سَماها"
يضيف لنا القاص/الشاعر حيوان أخر هو الثعلب وكيف يخادع الأسد عندما رمى له جيفة، وكيف يفرق بينه وبين الصقر.
" وكان الحُكْم للضرغامِ يَقْضي
بِطردٍ إِنْ تَبَيَّنَ مَنْ جَنَاها
هُنا الجرذان أَعْلَنت انْتماءً
إلى مَنْ للخيانة قَدْ دَعاها
وَجاءتْ للأرانب هَدّدتها
بِأَفعى فغَّرتْ للصيدِ فَاها
دَعاها الجُبْن فانطلقت بِذعرٍ
وَما عادتْ لِتسْكن في خِبَاها
كذلك والدجاجة ما تَوانَتْ
لِتهجُرَ بَيضَها وَتَصيح واها"
نجد هنا ما يتماثل مع "كلية ودمنة" فالشاعر في كل بيت يقدم معلومة جديد وحيوان جديد، ويطور الحدث ويوسعه، فيجذب المتلقي لمعرفة مزيد عن الأحداث.
" وأمّا السّبع قَدْ وجدوه مَيْتا
أَتوهُ السُّمَ كأساً فارْتَواها
فَعاثَ الذّئبُ مُفترساً لِيُثْني
جِباهاً ما تَخلَّتْ عَنْ إِباها
فَلا جارٌ يُجيرُ مَنْ اسْتجارتْ
ولا ليثٌ يُزمْجِرُ في رُباها
وذاك الثعلبُ المكّار يَلهو
مَعَ الكلب المُوكّل في حِماها"
خاتمة سوداء ونهاية مفجعة للغزلة، لكن هل قصد/أراد القاص/الشاعر احباطنا؟ أم أراد تحفيزنا ليقدمنا من الفعل لإنقاذ الغزالة؟ علينا نحن المتلقين الاجابة.
لن اتحدث عن الرمز في هذه القصيدة، فكلنا يعلم بوجوده، لكن أريد أن أبين أن هناك تكثيف واختزال غير عادي في هذه القصيدة، فالشاعر قدم لنا مجموعة أحداث في أقل عدد من الأبيات، حتى أن مقاطع الأبيات قصيدة، وهذا يحسب له، فهو لا يريد الاطالة ولهذا قدم لنا ما يرده بأقل عدد ممكن من الابيات، وبأقل عدد من الكلمات، وإذا ما توقفنا عن اللغة سنجدها لغة جميلة تنساب بسهولة إلى عقل وقلب المتلقي، فرغم قسوتها إلا أن جمالية اللغة خففت من وطأة/وقع الأحداث علينا، لهذا نقول نحن أمام قصيدة متألقة.
ملاحظة: بعد نشر المقال تبين أن القصيدة منشورة منذ أربع سنوات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع