الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبقري الأبله

صيقع سيف الإسلام

2017 / 12 / 28
الادب والفن



أن يكون الإنسان بطل العالم للشطرنج في هذا العام ، ثم في الذي يليه، ينسحب من المباراة الأولى في التصفيات رغم أنه قد فاز بها ، ورغم أنه المرشح الوحيد لنيل لقب بطل العالم للشطرنج مرة ثانية على التوالي ، حيث صارت حظوظه أقوى لغياب منافس حقيقي على اللائحة ، الإعلام يؤكد ذلك ، و أنا البطلة الفائزة بنفسي كنت أؤكد ذلك و بثقة تامة ، ثم في غفلة يتغير كل شيء و تنقلب الأمور رأسا على عقب ، الأعجب هو من يقلبها حقا ؟ ... هذا الأعجب هو خصمي في المباراة الأولى ضمن التصفيات و الذي تغلبت عليه في مدة قياسية ، خمسة دقائق ، وهو خصم يشارك للمرة الأولى في لعبة الشطرنج ، خصم يصغرني سنا بعشر سنوات ، خصم أتى بحركات خرقاء توحي بعمق جهله بأبجديات التفكير الاستراتيجي ، بأبجديات لعبة الملوك الشطرنج . هو خصم لم يعطني من ردة فعل سوى ابتسامة صفراء قبل مغادرته ، هناك عند جلسة الاستراحة و بعد أن حللت شكل المباراة التي خضتها معه ، أعلنت انسحابي من مسابقة بطل العالم للشطرنج ، و أضفت مصرحة أن البطل الحقيقي هو منافسي الذي فزت عليه ، و أنا الآن أريد تقديم محاولة شرح سبب هذا الانسحاب المفاجئ ؟ .
أعمد بدءا إلى تحليل صغير أبين من خلاله القضية . . . في السنة السابقة تفوقت على أحد أعظم الأذكياء وهو شيفر ، بل ليس شيفر وحده، إنما كذلك سباسكي ، فعلى رغم توفر هاذين الجديرين ، استطعت أن أنال البطولة العالمية ، وأن يكتب في عناوين الصحف و المجلات « ميليفيا تسحق بوبي فيشر و بوريس سباسكي » . هذا الموسم لم يكن أحد من المتفوقين بمستوى فيشر أو أدولف أندرسن ، ولا شك أن هذا قد دعم حظوظي في الفوز مجددا ، حظوظ قوية و نصر سهل ليس متعبا كالذي سبقه ، فمنطقيا و من غير تبجح كنت أنا ميليفيا الفائزة بالبطولة ، و كان منافسي الصغير الأبله قد خسر على يدي في ظرف زمني محدود جدا ، هذا عدا عن حركاته الخرقاء التي أتى بها ، وكم تدل على ذهن بسيط ساذج ، غير محترف و متمكن من الاستراتيجيات المحكمة ، فكيف بحق السموات أن أعلن أنه هو الفائز الحقيقي بالبطولة ، بعد أن كنت أنا الفائزة بحق ؟ .

الجواب : هو أذكى مني بمراحل . . . إن منافسي الصغير قام بتلك الحركات الفاشلة على لوحة الشطرنج لأنني لم أعطه التحفيز الكافي كي يشعل ذهنه و يستغل ذكائه ، ما قمت أنا به لأفوز بالمباراة الأولى كان حركات تدل على ذكاء متوسط عندي أنا ميليفيا ، ولأنه أدرك لوهلة أن ذكائي متوسط ، لم يهتم لمجرى المباراة ، لم يهتم لربحه أو خسارته ، هكذا حرك قطعه تحريكا ارتجاليا كما يحركها طفل في الخامسة حتى انتصرت عليه ، حرك قطعه بتلك الطريقة حتى تنتهي الجولة سريعا ويغادر ، لأنه علم أن الفائزة بالبطولة العالمية ليست كفؤا له و أن مستواها الذهني دون مستواه هو ، فخرج وهو الوحيد المدرك حقا لمن يستحق كلمة بطل العالم للشطرنج ، غير أن هنا سرا لطيفا أحب كشفه لكم ، هو سر يفهمه من لا يجد تناقضا بين هذين القولين . القول الأول « منافسي استخدم كل لياقته الذهنية لأقصى جد» . القول الثاني «منافسي لم يستخدم لياقته الذهنية أبدا » . . . و تعليل انسحابي يكون بشرح هذه الفكرة التي تشير في مضمونها العميق إلى شخص « العبقري الأبله » . فمن هو العبقري الأبله ؟

قبل القيام بأي خطوة ، بدت أمارات التحمس و توسع العيون على هيئة خصمي ، قد كان متشوقا لأن يبصرني و أنا أضع له الألغام بطريقة ماكرة لا يكشفها ، بطريقة أخدعه بها دون أن يفطن لذلك ، متلهف لأن يرى ذكائي يشتغل فيدمره ويفتك به ، لكن حينما قمت بتحريك تلك القطع و أنا أتوسل خططا متنوعة مثل تكتيك نابليون ، ضربة الراعي في المغرب العربي ، و عددا من التحايلات الأخرى ، شعرت بفتور عجيب يتناهى إلى أعين خصمي ذاك ، و انطفأ نور ما كان يكسوه ، انطفأ نور حماسه بأن يتمتع بذكائي ، مع ذلك كان يبدو عليه أنه يفكر بجهد و قوة حتى ينتصر علي ، لكن لا جدوى من تفكيره ذاك بعدما انطفأ حماسه ، فغاية ما أتى به هو ممكون لطفل في الخامسة كما قلت . . . هنا علمت أن خصمي من نوع الإنسان الذي يملك عبقرية فذة ، لكن عبقريته هذه لا تنطلق إلا في حالة واحدة هي : توفر تحدي عظيم يستحق الجهد الذي تبذله تلك العبقرية ، أما توفر تحدي غير كاف لانطلاق تلك العبقرية المختبئة ، تلك الطاقة الكامنة ، هناك تبقى أسيرة لصاحبها أبدا . يعني مرة أخرى :

هذا الفتى الذي أكبره بعشر سنوات يملك تفكيرين ، تفكير أحمق غبي و آخر عبقري مبهر جدا ، و الفاصلة التي تفرق بين التفكيرين هي فاصلة التحدي المطروح ، فإن كان التحدي على قامة وحجم العبقرية انطلق وحش مرعب من الفطنة ، وإن كان التحدي دون ذلك انطلق وحش ثاني مرعب من البلادة و البلاهة ، بلاهة حتى دون المستوى العادي ، و لأن الحياة وما تعرضه في أيامها لا يزيد عن تحديات لا تكفي لإثارة هذا الفتى الذي نتحدث عنه ، فستجده يفشل في الامتحانات و يرسب في حل معادلة تافهة ، ستجده لا يحسن أن يملأ دلوا صغيرا بالماء دون أن يغرق أرضية بكاملها ، و لا له أدنى فكرة عن كيفية صنع أي شيء ، و بالعموم نجده يجهل كل ما يمكن أن يعلمه أولئكم « العارفون بكل شيء » الذين لهم تمام الإحصاءات الأخيرة ، من تزوج فلان و كم يملك من المال ، و الساعة التي يخرج فيها وينام ... الخ . ستجد هؤلاء العارفين بكل شيء يسخرون من العبقري لأنهم لا يبصرون إلا وجهه الأبله الذي لا يستجيب للتحديات الضعيفة الغير متناسبة مع حجم ذكائه و أقول مع حجم الشر داخله ، وسأعود لأشرح هذا الشر بعيد قليل . في المقابل يحسن فهم بعض ما أعوص على أقوى الأذهان و أبرع الفهوم ، فقضية فلسفية عويصة أو لغز شيفرة يحرق الأعصاب أو بحث عن حل لأعسر المشكلات الإنسانية . الخلاصة أن هذه المسائل التي يرتفع فيها مستوى الوعي ويتاخم حدود الذكاء الشديد ، تجد هذا الإنسان متفوقا فيها يعيها وعيا كبيرا ، وهي المسائل بعينها التي يجهلها العارفون بكل شيء ، فبالتالي لا وصف يطلق عليه من قبلهم إلا وصف « الأبله » . . . إن عقل الفتى إذا كان مكونا من مائة جزء ، فجزء واحد في النور و تسعة و تسعون جزءا مختفية في الظلمة ، بجزء النور الواحد يعيش الفتى كل حياته التي لا تعطي تحديا يلائم تلك الأجزاء المختفية في الظلمة ، فإذا حضر تحدي قوي ، فورا تستجيب الأجزاء التسعة و التسعون و ينطلق وحش محبوس يمكنه تحقيق أشياء مرعبة مذهلة ، لذلك وفقا لهذا يكون معنى القول « منافسي استخدم لياقته الذهنية لأقصى حد » : أنه استخدم جزء النور الواحد ذاك استخداما كليا ، و يكون معنى القول « منافسي لم يستخدم لياقته الذهنية أبدا » : أنه لم يستخدم الأجزاء التسعة و التسعين المهمة من ذهنه و المختفية في الظلمة منتظرة التحدي المناسب الكفيل بإيقاظها .

أحد أقوى التحديات التي تخرج هذا الجني من مصباحه السحري هي الخصم الكفؤ ، شخص يمكن أن يبارزه ببراعة شديدة وبرشاقة ذهنية عالية ، في هذه الحالة يتحفز الفتى تحفزا شديدا و يصبح ضاريا ، و ينطلق في التضييق على خصمه وإحاطته ومحاصرته ، لا يريد بذلك تحطيمه ، البتة ، بل يضيق عليه و يحاصره و يخنقه ثم ينتظر في لهف و شوق شديد ، يريد أن يرى كيف سيخرج خصمه البارع من هذه المآزق التي صنعها له ، المتعة كل المتعة عند هذا الفتى أن ينتظر كيف سيتخلص خصمه الرشيق من هذه الورطة التي أورطه إياها ، ولو علم الفتى للحظة أن خصمه الذي يقف أمامه سيتحطم مع أول محاولة ، فلن يتعب نفسه بالمشاركة أصلا في هذا النزاع الذهني . أنا ميليفيا كنت لأتحطم من أول مأزق سيضعه لي هذا الفتى لذلك لم يتحفز ولم يتحمس أبدا لمنازلتي منازلة الفرسان في ميدان الدهاء ، هذا فضلا عن أنني بتحريكي لقطعي فضحت ذهني البارع لكنه البارع فقط ليس البارع الفذ ، وهذا معنى الشر الذي أشرت إليه قبلا ، أردت أن أبين كيف يستطيع العبقري الأبله أن يكون فتاكا شرسا حينما يتواجه مع من يجاريه بل ومع من يتفوق عليه . يفضل العبقري الأبله خصما يتفوق عليه ، كي يستمتع بمشاهدته وهو يقلب خططه عليه ، كي يبتهج بمشاهدته وهو يبطل حيله البائسة المعوزة ، هذه بالذات رغبته العظمى ، حتى إذا ظفر بمن يتفوق عليه صار أذكى و بدل تسعة وتسعين جزءا فقط ، تنطلق سلسلة عمليات تناسخية تخلق تسعة وتسعين أخرى ، على قدر التحدي المفروض ، وهو تحدي يستدعي شرا عارما لا يعرف الرحمة ، و حقيقة لا داع لمثل هذه الرحمة إذا ما تقاربت رشاقة الأذهان ، و لا رحمة حينما لا يهتم الرشيق ذهنيا و لا يدخل مع من يكفيه جزء واحد فقط ، على أن بادرة قد تخطر : من يفوق الآخر ، العبقري الأبله ، العبقري الأدهى ؟ و الجواب عن هذا هو عينه الإحاطة بسر لماذا العبقري الأبله أبله ؟ .

إن العبقري الأبله حينما يذهب يملأ دلوا صغيرا بالماء فيغرق أرضية بكاملها ، يجعلنا نقول أن عقله لم يكن حاضرا في تلك الساعة وإلا أغلق الحنفية ببساطة ، و هذا هو مفتاح المسألة . عقل هذا النوع من العباقرة يعيش حياة برزخية و لا يبقي للذات الحقيقية إلا نسبة ضئيلة جدا كي تدرك العالم من حولها ، وحتى هذه النسبة الضئيلة يسرقها أحيانا كما فعل في حالة ملء الدلو فتسبب بإغراق الأرضية ، حيث ينفصل هذا العبقري عن ذهنه كأن له كيان خاص به لوحده ، أي ذهنه بالتسعة و التسعين جزءا يعيش في كون وبعد آخر يحلل مسائل و يشرح أفكار و يفتش عن حلول ، أما الذات التي تحمل هذا الذهن فتعيش في تلك النسبة الضئيلة فقط ، من جديد هذا النوع لا يعيش العالم الخارجي بل يعيش داخل عقله ، فإذا كان يمشي أو يكتب ، فهو لا يمشي و لا يكتب ، بل يسيح داخل عقله و قد فقد قدرته على البصر تماما ، حتى يأتيه منبه خارجي يعيد له حاسة البصر ، و لأن عقله بأكمله تقريبا يعيش حياة برزخية ، فهو لذلك لا يتمكن من إحسان أي عمل تافه لا يتحدى عقله فيخرجه من الحالة البرزخية إلى الوجود الحقيقي ، خلافا للعبقري الأدهى الذي لا يملك عقله حياة برزخية على الإطلاق ، فهو لا يتجه إلى معالجة الأفكار و المشكلات و البحث عن الحلول ، قلت هو لا يتجه لكل هذا اتجاها خالصا لا يشاركه فيه عمل ، بل اتجاهه اتجاه ناقص لأن ذهنه يعيش الوجود كله فيشارك العارفون بكل شيء معرفتهم و لا يغرق الأرضية حين ملء الدلو ولا يسقط راسبا أمام معادلة تافهة ، من هنا كانت عبقري الأبله أفضل من عبقرية الأدهى ، فذهن الأبله خالص للقضايا العظيمة تلك أما ذهن الأدهى فليس خالصا لها ، أي مرة ثانية هو لا يملك جزءا واحدا فيه نور و تسعة وتسعين جزءا مختفية في الظلام ، بل كل أجزائه في النور . أيا ما يكن ، فقد خسرت أنا ميليفيا أمام الفتى ، وحقيقة المسألة كانت كالآتي : أنا ميليفيا لم استطع تحفيز ذهن الفتى ، فخسرت بدءا ، لأنه لو تم تحفيزه بتحدي كاف لأوضعني في مآزق ما فككت منها ولا خلصت ، لكن ظاهر المسألة : أنني انسحبت وقد تغلبت على الفتى في زمن قياسي بعد حركاته الخرقاء ، اذن من جديد البطل الحقيقي هو ذاك الفتى ، ذاك العبقري الأبله .

سألني صديقي إدفارد عن سبب شرحي لانسحابي بمثل هذا الصدق ، و قد أجبته :

« يكمن معنى أخلاقية الفارس في أن يتحرى الصدق دوما ، غير أن لي وجهة نظري الخاصة ، وجهة نظر تقول : لو لم أعط تعليلا لانسحابي و أشرح الوضع على حقيقته لانتهى ضميري إلى كآبة و هوس قاتل قد يودي بحياتي ، لا أني أخلاقية عظيمة ، أبدا لا ، فالأخلاقية يحكمها المبدأ و لا مبدأ لي أنا . إن الشر و رؤية التدمير هو هوس و مرض موجود لدى البعض فيذهب ينقض ويدمر و يشاهد سقوط الأشياء و تحطمها حتى يمتلأ غروره و يشبع تلك النزعة الشريرة ، كأنه قد أخذ حقنة دواء ارتاح من ورائها ، ومثله معي أنا ميليفيا يا إدافارد ، أبحث عن كشف لبس هذه القضية و سبب انسحابي حتى يرتاح صدري ، حتى تمتلأ لذتي ، تحضيرا لليوم الذي سأهزم فيه مثل هذا العبقري الأبله ، تحضيرا لليوم الذي أحفز فيه ذهنه و أنتقم منه ، ساعتها لا يقال أني بخسته حقه يوما ما ، ففي بخسي لحقه انتقاص من قيمة انتصاري عليه ، وأنا أريد أن يكون انتصاري تاما كاملا لا تشوبه شائبة ، أريد تدميره تدميرا نهائيا لا يبقى له أثر من بعدي ، أن أتنعم باحتساء نخب النصر كاملا غير منقوص قطرة أو قطرتين ، بحثي عن أن أذله إذلالا عظيما هو سبب أني أعطيه الآن و الحين حقه و نصيبه ، فتبقى لذة انتصاري عليه القادمة لا تشوش عليها أية ضبابة أو عجاجة مهما خفت ، أما أخلاقية الصدق فهي التي يكمن من ورائها المبدأ ، وأنا ما يكمن وراء هذا الصدق هو شهوة الانتقام القادمة »








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث