الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نجوت لأرسم

مروة التجاني

2018 / 1 / 4
الادب والفن



الحرب .. لاتترك متسعاً من الوقت لتجميع الذكريات ووداع من نحب بشكلٍ لائق ، تندلع فجأة فتتهدم المنازل ويتعالى الدخان والغبار ويكاد يلامس السماء لكن الأرواح وحدها هي من تصعد عالياً فتتجمع الغيوم فوق المدينة . صدمة الحرب لا تترك متسعاً لجمع بعض أغراض من نحب ، هناك تحت الأنقاض ترقد ساعة أبي ، سلاسل أمي الفضية ، لعبة أختي ، كتاب أخي ، صورة جدي وجدتي وصناديق فارغة إلا من شوقها لأرواح الذين رحلوا سريعاً . الحرب .. سرعان ما تغير وجه المدينة الجميلة وشوارعها النائمة ، بالكاد تمكنت من الخروج بمساعدة الجيران الطيبين ورجال لا أعرفهم ، لم تتمكن الأنقاض من هدم جسدي على الرغم من نحوله وصغر حجمه . وحيداً وقفت أمام المنزل المحطم ، لا دموع ، لا خوف ، فقط قليل من الدماء وكثير من التراب يغطي كامل هيئتي ، كانت منازل المدينة تتساقط كمنزلنا وحشد من الناس يتراكضون في الشوارع والبعض الآخر يحاول إنقاذ ما تبقى من الأرواح والمؤن من تحت المنازل . هكذا أخذت الحرب أسرتي الصغيرة ، أخذت أشيائنا وأغراضنا ، بعثرت صورنا وألعابنا ، أحرقت الهدوء وورد الحديقة ، سرقت الأغاني والليل الدافئ . فاجأتني الحرب وأنا في العاشرة من عمري ، لم أعرف وقتها من يحارب من ؟ بل حاولت الدخول مرة أخرى إلى الأنقاض بحثاً عن ذكرى ، أمل ، حب لم يكتمل ، حالفني الحظ وعثرت على صورة أبي ، كانت الصورة هي الشئ الوحيد الذي تمكنت من إنقاذه وكأن روحي بعثت مرتين للحياة . وحيداً عدت للشارع المسكون بالرعب والحرائق إلى أن سمعت صوت جارتنا يناديني بعنف " فادي .. فادي " ركضت نحوها ، تمسكت بها ، قبلتني والدموع تغطي وجهها ، حدثتها عن صورة أبي فتبسمت وهي التي فقدت تواً أبنائها ، حملتني وسرنا مع آخرين إلى المجهول ، عبر الطرقات وأصوات الصمت بحثنا عن مخرج من المدينة ، هكذا خرجنا دون وداع أو حقائب سفر ، بكل هذا الحزن رحلنا .

الطريق نحو مكان آمن طويل جداً ، لكن الطرق التي فتحتها الحرب كانت سريعة وواسعة حد المحيط فبين يومٍ وليلة عرفت ما اليتم ؟ أدركت في هذا العمر المبكر معنى أن تفقد الأب ، الأم ، أصدقاء الدراسة والوجوه المألوفة . كنت أسير في الطريق مع العشرات مودعاً أرض مولدي ، مدينتي التي حملت ملامحها ، ها أنا ذا أخرج منها يتيماً والبرد يكاد يفتك بي . الحرب تعلمنا ما معنى أن نفقد شيئاً وما قيمة الأشياء ، ليتني تحصلت على صندوق فارغ لأجمع فيه حاجيات أسرتي ، يا الله كم أحتاج صندوقاً للذكرى فأنا لا أثق في ذاكرة صبي في العاشرة من عمره ، الذاكرة لم تكتمل بعد ولاتزال بها كثير من المساحات التي أحتاج إلى ملئها بالصور والحكايات . يطلقون علينا ضحايا الحرب وأنا منذ اللحظات الأولى لم أعتبر نفسي ضحية ، أرفض هذا المسمى ، نحن الناجون ننظر خلفنا إلى حطام المدينة ودماء الأموات تبلل شوارعها . لم يمهلني الوقت لأشكر جارتنا على إعتنائها بي طوال الرحلة الشاقة حيث غادرتنا صوب مدينة أخرى بحثاً عن أقارب لها هناك ومن يومها لم أعرف مصيرها وماذا حلَّ بها . وحيداً ومع العشرات ممن لا أعرفهم وصلنا لأحدى المعسكرات حيث تحصلنا على مأوى وطعام ، ولأني يتيم أقمت مع أسرة في خيمة كانت بالكاد تقينا من البرد والمطر .
الصحفي الأجنبي الذي كان يتجول في المخيم لم يعرف إنه سيكون سبباً في تغيير مصيري ، كان يلتقط الصور ويتحدث مع الناس فكنت مع كثير من الأطفال ننظر إليه بإستغراب إلى أن أقترب منا وسألنا عن الأمنيات ! توالت الإجابات من الأطفال فبعضهم طلب الحلوى وآخرين كثر الطعام ، أما أنا فتمنيت الحصول على ورق وأقلام وعندما سألني الصحفي عن السبب قلت " لأرسم وجه أبي " . علمتنا الحرب أن لا مكان للأحلام لكن أمنيتي تحققت حيث تلقيت في اليوم التالي مباشرة مجموعة من الأوراق وأقلام الرسم الملونة ، منذ ذلك الحين وأنا عاكف على الرسم فيها داخل الخيمة وبعد عدد من المحاولات رسمت وجه أبي كما تخيلته وأذكره وكما حملت الصورة ملامحه ، نجحت في الرسم ومن يومها وأنا الطفل الصغير أدركت طريقي في الحياة . ها أنا ذا بعد سنوات أفتتح معرضاً بعنوان ( نجوت لأرسم ) في مدينة الضباب بعيداً عن ذكرى الحرب والموت ، ومع ذلك لم تحمل أية لوحة الملامح الحقيقية لصورة أبي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا


.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف




.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??