الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العودة للجذور

آرام كربيت

2018 / 1 / 5
الادب والفن


أكثر ما كان يبهج خاطري، ويحملني على قنديل الضوء في ذلك الوقت الظافر بالأمل، هو الغروب اللذيذ في قرية دبانة.
عندما كانت الشمس تطوي جناحيها لتنام وتتحول الجمرة إلى بقايا رماد، ويغيب الضوء خلف تلال الذاكرة والزمن. كنت أرى نفسي عصفورًا نائمًا على خدود الأفق. تبقى عيناي عالقتان على عودة القطيع إلى الحظيرة. أرى من بعيد الغبار العالق بين الأرض والفضاء في رحلة العودة. ما أن يقترب القطيع حتى يبدأ صوت ثغاء الأغنام يتصاعد.
تركض الأغنام بلهفة الملهوف إلى البيت. وتقترب من جدي وجدتي. كأنهم كانوا يعرفون البيت وأهل البيت. كانوا كالأطفال المشتاقين لأسرههم. تبدأ عمتي أو جدتي بحلبهم. كأن الأغنام تكون متعبة من هذا الحمل. ما أن تتفرغ الضروع حتى أرى وأشاهد الفرح بعيونهم، ويبدأون البحث عن طريق الزريبة ليناموا فيها.
ويتحول الحليب إلى لبن في الصباح.
كنت استيقظ مرات كثيرة على صوت عمتي أو جدتي في الصباحات الباكرة قبل أن يشقشق الضوء، ويفتح عينيه على جراح النهار. كانا يعملا بهمة ونشاط.
كان لديهما قربة من الجلد يضعان فيه الحليب ويخضانه فترة طويلة من الزمن. كانت أصواتهم عالية جدًا عندما يتحدثون. وأحيانًا كثيرة يتشاجرون دون سبب.
كنت أبقى في الفراش قلقًا متوترًا من توترهم وصراخهم الذي لم أر له سببًا مقنعًا. ويسخنون الماء على نار الجلة بأدوات بدائية جدًا. حتى المغرفة كانت مصنوعة من القرع المفرغ أو المجفف. له يد طويلة على طارفه، يملأوه بالماء ويحملونه وينقلوه من الحوض الحار إلى طشت غسيل الثياب.
كنت اشم رائحة مواد تنظيف الغسيل، والماء المغلي والهواء الطلق عندما تبدأ الشمس في الصعود واللعب في جنبات السماء.
لم يكن جدي أو جدتي أو عمتي يحسنون القراءة والكتابة. كانوا أميون مثل بقية أهل الضيعة ،وبقية القرى في ريف الجزيرة السورية في ذلك الوقت.
كان جدي مفتول الشاربين، متوسط القامة كبيرًا في السن ربما تجاوز المئة. فيه انحناء في ظهره، يبدو أن الزمن لفض بقايا جسده وقزمه. يستيقظ بشكل دائم باكرًا ويسترخي قلقًا على الصوت الصارخ الصادر من عمتي وجدتي, يقول لهم:
ـ لماذا تتشاجران؟ ماذا حصل لكما والشمس لم تمتلئ بعد من عتمة الحزن والصمت. خفضا صوتكما، لماذا تصرخان من عند باب الصباح الذي لم يكتمل؟
لا يردان عليه. كانت النساء في الضيعة قاسيات مثل الرجال لا يعملون حسابًا لضيف أو لإنسان صغير أو كبير. لم تهذبهم الحضارة المدنية المزيفة. كانوا أحرارًا في ممارستهن لحياتهم. دون خوف أو رد فعل من أي كائن. وخاصة النساء:
قويات، صلبات الجسم واللسان والذاكرة والقلب، معطرات الروح ولا يحسبن حساب هشاشة الواقع وانهزامه أو انكساره. يعملن في الأرض، يجلبن الماء من مسافات بعيدة، ويحلبن المواشي. وفي الضحى يجلبن روث الأبقار، يلموها، ويحولوها إلى أكوام. ويضعوها في إطار دائري ثم يتركوها تحت الشمس الحارقة إلى أن يجفوا ويتحول إلى وقود في التنور أو المدفأة في الشتاء.
يبقى جدي في مكانه. يضع عمامته البيضاء فوق رأسه ويجلس القرفصاء ويدخن وحيدًا. ينظر إلى الفضاء المفتوح عبر الباب أو النافذة. ويكش الذباب الذي يملأ البيت والفناء المجاور للمنزل. بعض الأحيان يتناول كسرة خبز من الرغيف السميك الذي عجنته وخبزته عمتي قبل وقت الغروب بساعة على التنور مع القليل من اللبن أو القيمغ
وبجواره كلبهم الكبير، يجلس بالقرب من الباب ويحرك ذيله نحو اليمين واليسار.
كان قطر الرغيف الواحد حوالي ثلاثين سم وسماكته ثلاثة سنتمترات.
كانوا انقياء إلى نقي العظام في صراخهم وشتائمهم. في أوجاعهم. في كلماتهم وشهيق أنفاسهم. لم يكن يعرفوا الزيف أو ممارسة الكذب أو اللف والدروان. كلماتهم كانت مباشرة، خشنة، واضحة، قاسية وعنيفة مثل أغلب أبناء أهل الريف في الأناضول في علاقاتهم مع بعضهم أو مع الأخرين. يتبادلون الأحاديث بصوت عالي, دون مجاملة أو رقة أو لين.
كان البيت يطل على الشمال. ويجاوره إلى اليمين مباشرة بشكل طولاني عدة بيوت فارغة.
أصحاب تلك البيوت سافروا عبر قوافل الراحلين الذين رحلوا إلى أرمينيا في أعوام /1964/, /1965/ وتركوا كل شيء وراءهم: الفراغ والصمت والغربة والحسرة لمن تبقى في دهاليز الهواجس والترقب. وإلى اليسار كان هناك غرفة تم بناءها لتكون اسطبلًا للحيوانات كالأبقار والأغنام والخيول. لكن أبي أخذها قبل أن تقطنها تلك الحيوانات وسكن فيها مدة قصيرة من الزمن أثناء فقدانه للعمل وعدم قدرته على الإقامة في المدينة. كان زمن البطالة والتعتير ككل مراحل سوريا.
في ذلك البيت البسيط ولدت كما تلد الحيوانات. قالت لي والدتي فيما بعد:
ـ بمجرد أن أحسست بالطلق رأيتك قد خرجت إلى الحياة قبل أن تأتي عمتك مع تنكة الماء الساخن برفقة النساء لمساعدتي في ولادتك. لم تعذبني يا ولدي أثناء الولادة ولكنك عوضتها فيما بعد أثناء حياتك وسجنك. وأردفت:
ـ أنت في منتهى القسوة يا ولدي. ليس في قلبك رحمة أو شفقة على أي إنسان. أنت قاسي على نفسك أيضًا. يردف والدي ويقول:
ـ أنه ذئب. إنه أبن البراري. أقول لهم:
ـ لم أعد ذئبًا. أنا الأن كائن مسكين، السجن قلم أظافري وخرب أشياء كثيرة حلوة وجميلة كانت مسكونة في أعماقي. لم يبق مني الا صورتي الأخرى، شكلي المخفي وراء ذلك الكائن الأخر. لا تنغروا بملامحي أو شكلي. ففي وراء الفاظي النائمة ماتت أجزاء كثيرة من كينونتي. شكلي الجديد أنتم لا تعرفونه.
وضعني مرة والدي على الطريق العام ومضى إلى عمله برفقة الموظفين باتجاه تل حميس وتل كوجك. قال لي:
ـ أذهب إلى الضيعة. تعرفها. أنت رجل. صحيح أنك في السابعة من العمر، بيد أنك قويًا. أنت ذئب. أنت لا تخاف. لا تحتاج إلى مرافقتي. لدي عمل. أبق في بيت جدك كم يوم، وعندما أعود من رحلتي سأخذك معي إلى الحسكة. لقد اغلقت المدارس أبوابها منذ أيام. جلبتك معي حتى تلتقي بجدك وجدتك. لا تبق مدة طويلة تحت الشمس اللأفحة. غيابي لن يطول، بضعة أيام وأعود. قلت له:
ـ لا تتأخر. الملل سيأكل قلبي. الضيعة هي الضيعة، الغبار من كل مكان وصمت طويل وأولاد الضيعة لا يعرفون لعبة كرة القدم.
لم يكن الطريق يبعد سوى مائتي متر عن بيت جدي. رأيت الغبار يتصاعد من وراء دولايب سيارة والدي أثناء ذهابه. وأكملت طريقي. اقترب أطفال الضيعة مني. ورحبوا بي. مشينا في حقل. قال لي أحد الأطفال:
ـ هذا الحقل عائد لجدك.
كان الوقت ظهرًا. رأيت ثمار البطيخ والجبس قد نضجوا. هكذا خمنت. قطفت عدة ثمار وحملتهم معي وركضت برفقة الأطفال. رأيت جدتي جالسة برفقة نساء الضيعة. ما أن رأت القطاف حتى انبرت تصرخ، قائلة:
ـ لماذا قطفت هذه الثمار، وهي لم تنضج بعد. أنت طفل شرير لا تخاف الله. تقطف الثمار وهي في حضن السماء!
كانت تنظر إلي شزرًا. والشرر يتطاير من عينيها. لم ترحب بي ولم تقل الحمد لله على السلامة. ولا اذكر انها حضنتني في يوم من الأيام كما لم تقبلني، لم تكن تحبني كما لم تضحك في وجهي او رحبت بوجودي. كانت امرأة صادقة، قالت:
ـ من أين جئت؟ من جاء بك إلى هنا؟
ـ من الحسكة. لقد رماني والدي على الطريق وذهب.
لم تتكلم. لم تقل المزيد. التفت إلى بقية النساء وغمغمت. قالت كلمات غامضة لم أفهم مضمونها. وتركتني لشأني.
لم أكن اهتم بحبها لي على الأطلاق. أذكر عيناها الزرقاوان وشعرها ووجها الأبيض.
مضيت برفقة الأطفال مسافة بضعة مئات الأمتار شمالًا باتجاه القامشلي على الأرض الترابية. عبرنا رافد نهر الجغجغ ومشينا فوق جسر خشبي قصير وقطعنا بضعة عشرات من الأمتار إلى أن وصلنا إلى أراضي الحاج منصور العاكوب.
كان محرك الديزل مسترخيًا على الأرض داخل غرفة خاصة به. ويعمل، ويستجر الماء من جوف الأرض ويرميها في بركة عالية. مسبح صغير. رمينا ثيابنا جانبًا. تعرينا تمامًا ثم نزلنا في الماء البارد كالثلج وسبحنا.
كانت حقول القطن مفروشة أمام أعيننا. والمحرك لا يرحم. يعمل ويقذف المياه الجوفية الذي يستخرجها من جوف الأرض ويرميها في حقول القطن. أنه يستنشق كل ما يراه في جوف الأرض من ماء. المحرك يدور والأنابيب الواصلة بأعماق البئر يستجر ما يراه أمامه. والتربة البكر تشرب. والقطن يشرب بشراهة. والشمس تشرب وتبدد ذلك الكائن الجميل في الفضاء دون رحمة أو شفقة. حتى تخضر العيدان وتتحول إلى أبواغ وقطن وحطب. وتتملح الأرض وتتصحر التربة وتموت الأشجار والحياة والحيوانات والماء.
أننا أمام قدر يصنعه الإنسان ويقوده إلى الخراب.
كان هناك حقل للبندورة. والرطوبة تعم على ذلك المكان، وهناك بضعة أشجار وظلال.
خرجنا من الماء وأسناننا تصطك من البرد. بقينا مدة تحت ظل الشمس الحارقة حتى نتزود من طاقتها ببعض الحرارة.
أرتدينا ثيابنا ووقفنا بضعة لحظات تحت ظلال الأشجار. كانت رائحة البندورة منعشة، طرية ولطيفة وطافحة بالشهوة. رائحة الأغصان الخضراء الرطبة مترافقة مع رائحة البندورة المعلقة فوق الشتلات، شيء يدعو إلى البحث عن الجمال في الجمال، في الأرض وفي المزروعات الطبيعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا