الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايام يوليو.. لماذا لم يستولي البلاشفة على السلطة؟

دانيل جايدو

2018 / 1 / 12
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


ترجمة: عايدة سيف الدولة
في عام 1917، كان لدى روسيا أكثر من 165 مليون مواطن، 2.7 مليون منهم فقط يعيشون في بتروجراد. وضمت العاصمة 390 ألف عامل مصنع – ثلثهم من النساء – وما بين 215،000 إلى 300،000 جندي حامية، وحوالي 30،000 من البحارة والجنود المتمركزين في قاعدة كرونشتاد البحرية.

في أعقاب ثورة فبراير وسقوط القيصر نيكولاس الثاني، تنازل السوفيتات، بقيادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، عن السلطة لحكومة مؤقتة غير منتخبة عازمة على استمرار مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى وتأخير الإصلاح الزراعي إلى ما بعد انتخابات الجمعية التأسيسية، التي ما لبث موعدها أن تأجل إلى أجل غير مسمى.

كما دعت تلك السوفييتات نفسها إلى تكوين لجان للجنود وأمرتهم بعصيان أي أوامر رسمية تتعارض مع أوامر وقرارات سوفيتات مندوبي العمال والجنود.

وقد خلقت هذه القرارات المتناقضة حالة من ازدواج السلطة اتسمت بأزمات حكومية متكررة.

اندلعت أولى تلك الأزمات في أبريل 1917 حول مسألة الحرب، وانتهت بالإطاحة بالزعيمين السياسيين البرجوازيين الرئيسيين – “بافيل ميليوكوف” من حزب الكاديت (الديمقراطي الدستوري) و”الكسندر غوشكوف” من الحزب الأكتوبري. علاوة على ذلك، كشفت تلك الأزمة عن عجز الحكومة في مقاطعة بتروجراد: حيث تجاوبت القوات مع اللجنة التنفيذية لسوفييت بتروجراد أكثر مما تجاوبت مع القائد العام آنذاك “لافر كورنيلوف”.


التوجيه رقم 1 الصادر عن سوفييت بتروجراد يوم 14 مارس 1917. تناشد هذه الوثيقة كافة الوحدات انتخاب لجان الجنود وإرسال ‏ممثلين للسوفييت وطاعة أوامر الضباط والحكومة المؤقتة فقط في حال لا تتناقض تلك الأوامر مع أوامر وقرارات سوفييت ‏بتروجراد. كما يجب تسليم كل السلاح لتلك اللجان ولا يجوز بأي حال تسليمها للضباط حتى لو أصدروا الأوامر بذلك”‏

ضمت الحكومة الائتلافية التي انبثقت عن هذه الأزمة تسعة وزراء من الأحزاب البرجوازية وستة مما يسمى بالأحزاب الاشتراكية. وظل الأمير “جورجي لفوف” رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية، ولكن وزير الحرب والبحرية “الكسندر كيرنسكي”، عضو الحزب الاشتراكي الثوري، سرعان ما أصبح النجم الصاعد للحكومة. كما ضم مجلس الوزراء المناشفة “ايراكلى تسيريتيلى” وزيرا للمناصب والبرق و”ماتفى سكوبيليف” وزيرا للعمل. كما انضم الاشتراكيون الثوريون “فيكتور تشيرنوف” و”بافل بيريفيرزيف” إلى الائتلاف كوزراء للزراعة والعدل على التوالي.

الحزب البلشفي في صيف 1917
ناضل البلاشفة في النصف الأول من عام 1917. لقد عارضوا في البداية مظاهرة يوم المرأة العالمي، التي أدت إلى ثورة فبراير. ثم شهد الحزب البلشفي تحولا حادا إلى اليمين في منتصف مارس، عندما عاد “ليف كامينيف”، و”جوزيف ستالين”، و”م. ك. مورانوف” من سيبيريا وسيطروا على جريدة الحزب، برافدا. وتحت سيطرتهم، دعت الجريدة إلى دعم حاسم للحكومة المؤقتة، ورفضت شعار “فلتسقط الحرب”، ودعت إلى إنهاء الأنشطة غير المنظمة على الجبهة.

تناقضت هذه المواقف بشكل حاد مع الآراء التي طرحها لينين في “رسائل من بعيد”، لذلك ليس من المستغرب ألا تنشر برافدا سوى أولى تلك الرسائل فقط مع الكثير من الحذف.. وفقا لشهادة “الكسندر شليابنيكوف”:

“كان يوم ظهور أول عدد من “البرافدا بعد إصلاحها” في 15 مارس، يوم انتصار لمن طالبوا باقتصار المشاركة في الحرب على الدفاع عن الوطن دون الهجوم على بلدان أخرى. وكان قصر توريد بأكمله، بداية من أعضاء لجنة الدوما إلى اللجنة التنفيذية، وهي قلب الديمقراطية الثورية، منتشيا بخبر واحد ألا وهو انتصار البلاشفة المعتدلين والواقعيين على المتطرفين. وفي اللجنة التنفيذية نفسها، قوبلنا بابتسامات صفراء.”

كانت هذه الآراء هي السائدة بين قادة البلاشفة في بتروجراد عندما وصل لينين إلى محطة قطار فنلندا في 3 أبريل. في اليوم التالي، عرض لينين “موضوعات أبريل” الشهيرة لمندوبي البلاشفة في مؤتمر سوفيتات مندوبي العمال والجنود لكل روسيا. وعلى النقيض من “كامينيف” و”ستالين”، أكد لينين مجددا رفضه التام “للدفاعية الثورية” ودافع عن التآخي على الجبهة مع جنود القوات المعتدية. كما تبنى أيضا وجهة نظر “ليون تروتسكي”، التي وصفت “اللحظة الراهنة” بأنها مرحلة انتقالية بين المرحلة الأولى “البرجوازية – الليبرالية” للثورة والمرحلة الثانية “الاشتراكية” لها، التي سيتم خلالها نقل السلطة إلى أيدي البروليتاريا.

اعترض لينين على “الدعم المحدود” الذي قدمه “ستالين” و”كامينيف” للحكومة المؤقتة، وطالب بدلا من ذلك برفضها رفضا تاما، واستبعد إمكانية إعادة توحيد البلاشفة مع المناشفة الأقل جذرية. منذ ذلك الحين، دعا البلاشفة إلى نقل كل السلطات إلى السوفيتات، التي من شأنها تسليح الشعب، وإلغاء الشرطة والجيش وبيروقراطية الدولة ومصادرة ممتلكات أصحاب الأراضي ونقل السيطرة على الإنتاج وتوزيعه إلى العمال.

وفى المؤتمر السابع (ابريل) للحزب البلشفي لكل روسيا الذي عقد في بتروجراد في الفترة من 24 إلى 29 أبريل حظيت مواقف لينين حول الحرب والحكومة المؤقتة بتأييد الأغلبية.


الصفحة الأولى من منشور لينين “موضوعات أبريل” كما ظهرت في جريدة البرافدا

ظل الحزب البلشفي صغيرا حتى بداية عام 1917، حيث اقتصرت عضويته على حوالي ألفي عضو في بتروجراد، بما يمثل 0.5 المائة فقط من الطبقة العاملة الصناعية في المدينة. ولكن مع افتتاح مؤتمر أبريل، ارتفعت عضوية الحزب إلى ستة عشر ألفا في العاصمة وحدها. وبحلول أواخر يونيو، تضاعف عدد العضوية. كذلك انضم ألفا جندي حامية إلى المنظمة البلشفية العسكرية، والتحق أربعة آلاف آخرون بنادي برافدا، وهو منظمة غير حزبية للعسكريين تديرها المنظمة البلشفية العسكرية.

ظل الحزب البلشفي صغيرا حتى بداية عام 1917، حيث اقتصرت عضويته على حوالي ألفي عضو في بتروجراد، بما يمثل 0.5 المائة فقط من الطبقة العاملة الصناعية في المدينة. ولكن مع افتتاح مؤتمر أبريل، ارتفعت عضوية الحزب إلى ستة عشر ألفا في العاصمة وحدها. وبحلول أواخر يونيو، تضاعف عدد العضوية. كذلك انضم ألفا جندي حامية إلى المنظمة البلشفية العسكرية، والتحق أربعة آلاف آخرون بنادي برافدا، وهو منظمة غير حزبية للعسكريين تديرها المنظمة البلشفية العسكرية.

وقد أدى هذا النمو الهائل في العضوية إلى تحول في المنظمة، وتضاعفت عضويتها بالمجندين العفويين الذين كانوا يعرفون القليل عن الماركسية ولكنهم كانوا تواقين للعمل الثوري.

في تلك الأثناء، بدأ البلاشفة في إدماج المنظمات القائمة. يوم 4 مايو، أي قبل يوم من تشكيل الحكومة الائتلافية، عاد “تروتسكي” من المنفى. وإذ وجد نفسه يقف على أرضية مشتركة مع لينين، بدأ “تروتسكي” في ربط منظمته، “ميزريونتسي” أو منظمة مقاطعات بتروجراد، بحزب الأخير.

وعلى الرغم من هذا النمو الهائل، ظل البلاشفة أقلية. كان لديهم أقل من 10 في المائة من مندوبي المؤتمر الأول لسوفيتات مندوبي العمال والجنود في كل روسيا الذي افتتح يوم 3 يونيو. وشمل هذا الاجتماع الوطني 090 1 مندوبا – 822 منهم يحق لهم التصويت- ممثلين لأكثر من ثلاثمائة سوفيتات عمال وجنود وفلاحين، وثلاثة وخمسين سوفييت إقليمي ومناطقي إضافة إلى سوفيتات الأحياء. وكان للبلاشفة ثالث أكبر تمثيل بـ 105 مندوبا، بعد الاشتراكيين الثوريين (285 مندوبا) والمناشفة (248 مندوبا).

في ذلك الوقت، كان لدى بتروجراد ثلاث منظمات حزبية بلشفية مختلفة: اللجنة المركزية المكونة من تسعة أفراد، والمنظمة العسكرية لروسيا، ولجنة بطرسبرغ. وكان لكل منها مسؤولياتها الخاصة، مما يعرضها لضغوط مختلفة وأحيانا متضاربة. وكثيرا ما وجدت اللجنة المركزية، التي يتعين عليها النظر في حال البلد بأسره، وجدت نفسها تقيد الجماعات الأكثر جذرية.


التنظيم البلشفي المسلح

اعداد الساحة
خططت المنظمة العسكرية البلشفية لمظاهرة مسلحة يوم 10 يونيو للتعبير عن معارضة جماهيرية لاستعدادات الحكومة المؤقتة لهجوم عسكري، ومحاولات “كيرنسكي” إعادة الانضباط في الثكنات، وتزايد التهديد بالترحيل إلى الجبهة. وقد أُلغيت هذه الفاعلية في اللحظة الأخيرة، استجابة لمعارضة مؤتمر السوفيتات.

رأت بعض عناصر الحزب البلشفي، ولاسيما في لجنة بطرسبرغ والمنظمة العسكرية، في المظاهرة التي تم إحباطها انتفاضة محتملة. بل أن لينين اضطر في الواقع إلى الظهور في اجتماع طارئ للدفاع عن قرار اللجنة المركزية بإلغاء التعبئة المخطط لها. وأوضح أن على اللجنة المركزية أن تلتزم بالتوجيه الرسمي الصادر عن مؤتمر السوفيتات وأن الثورة المضادة كانت تنوي استخدام المظاهرة لأغراضها الخاصة. وأضاف لينين:

حتى في الحروب البسيطة، يحدث أحيانا أن نضطر إلى إلغاء الهجمات المخطط لها لأسباب إستراتيجية، وهذا من المرجح أن يحدث بدرجة أكبر في الحرب الطبقية. . . . من الضروري تقييم الوضع واتخاذ قرارات جريئة.

صوّت مؤتمر السوفيتات لصالح تنظيم مسيرته بعد ذلك بأسبوع، في 18 يونيو، وأمر جميع الوحدات العسكرية بالمشاركة، غير مسلحين. وقد حول البلاشفة هذه الفاعلية إلى مظاهرة ضخمة ضد الحكومة، شارك فيها أكثر من أربعمائة ألف متظاهر.

يتذكر “نيكولاي سوخانوف” في “رواية شاهد عيان على الثورة الروسية”:

شارك كل عامل وجندي في بطرسبرج في تلك المظاهرة. ولكن ماذا كان الطابع السياسي للمظاهرة؟ بعد أن رأيت الشعارات قلت “البلاشفة مرة أخرى، وراءهم طابور بلشفي آخر.. “كل السلطة للسوفيتات!”.. “يسقط الوزراء الرأسماليون العشرة!”.. “السلام للأكواخ، الحرب للقصور!” بهذه الطريقة القوية والمؤثرة عبر عمال وفلاحو بطرسبرج، طليعة الثورة الروسية والعالمية، عن إرادتهم.

كان البلاشفة قد خططوا للمظاهرة الأصلية مع فيدرالية بتروجراد للشيوعيين الفوضويين، وهي إحدى المجموعتين الفوضويتين الرئيسيتين الناشطتين في ذلك الوقت. وقررت اللجنة الثورية الفوضوية المؤقتة أن تتفوق على حلفائها، وتمكنت من تهريب “ف. ب. خوستوف”، محرر صحيفة الجبهة العسكرية البلشفية، من سجن “فيبورغ”.

ردا على ذلك، داهمت الحكومة مقار الفوضويين، مما أسفر عن مقتل أحد قادتهم. جنبا إلى جنب مع هجوم “كيرنسكي” في يوليو وأوامر جديدة بتعبئة السلاح والرجال، أثار مقتل “أسنين” المزيد من الاضطرابات العسكرية، لاسيما في كتيبة السلاح الآلي الأولى، حيث بدأ جنودها في التخطيط لانتفاضة فورا – في أوائل يوليو – بتشجيع من الشيوعيين الفوضويين.

خلال مؤتمر المنظمات العسكرية البلشفية في كل روسيا تم تحذير المندوبين من عدم الوقوع في يد الحكومة من خلال تنظيم انتفاضة غير منظمة وقبل الأوان. وبدا وكأن خطاب لينين يوم 20 يونيو يتنبأ بما سوف يحدث ويحذر منه:

يجب أن نكون منتبهين وحذرين بشكل خاص، حتى لا نخضع للاستفزاز. . . . خطوة واحدة خاطئة من جانبنا يمكن أن تحطم كل شيء. . . . لو أننا قادرون الآن على الاستيلاء على السلطة، فمن السذاجة أن نتصور أننا قادرون على الاحتفاظ بها.. لقد قلنا أكثر من مرة أن الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية هو سوفيتات من مندوبي العمال والجنود والفلاحين.. ما هو الوزن الحقيقي لتيارنا في السوفيتات؟ حتى في سوفيتات العاصمتين، ناهيك عن باقي السوفيتات، نحن أقلية لا تذكر. علام يدل ذلك؟ لا يمكن تجاهل الأمر. يدل على أن غالبية الجماهير مترددة، لكنها لا زالت تؤمن بالاشتراكيين الثوريين والمناشفة.

وقد عاد لينين إلى هذه الفكرة في واحدة من افتتاحيات برافدا:

لقد سار الجيش نحو الموت لأنه اعتقد أنه يقدم التضحيات من أجل الحرية والثورة والسلام المبكر. ولكن الجيش فعل ذلك فقط لأنه جزء من الشعب الذي يتبع في هذه المرحلة الأحزاب الاشتراكية الثورية والمناشفة. هذه الحقيقة العامة والأساسية، أي ثقة الأغلبية في السياسات البرجوازية الصغيرة للمناشفة والاشتراكيين الثوريين، التي تعتمد على الرأسماليين، تحدد موقف حزبنا وسلوكه.

لكن العمال والجنود، بحسب تروتسكي:

يتذكرون أن قادتهم في فبراير كانوا على استعداد للانسحاب عشية النصر؛ وأن مطلب ثمان ساعات ليوم العمل تم اكتسابه في شهر مارس بفضل النضال من أسفل؛ وأنه في أبريل طُرد “ميليوكوف” بواسطة الجنود الذين نزلوا إلى الشارع بمبادرة منهم. إن تذكر هذه الحقائق يثير المزاج المتوتر والمتعجل لدى الجماهير.

أيد قادة وحدات المنظمة العسكرية في بتروجراد إلى حد كبير اتخاذ إجراء مباشر وفوري ضد الحكومة المؤقتة، وشعر العديد من قواعد الحزب البلشفي أن انتفاضة مبكرة أمر لا مفر منه، بل ومرغوب فيه.

إلا انه حين كان الهجوم على وشك الانهيار، وقعت الحكومة في أزمة أخرى: أربعة وزراء من حزب الكاديت انسحبوا من التحالف احتجاجا على تسوية “كيرنسكي” مع رادا الوسطى الأوكرانية. هذا الانشقاق المفاجئ ترك الحكومة في حالة من انعدام التنظيم والضعف بعد أن اقتصرت على ستة وزراء اشتراكيين و خمسة رأسماليين فقط. ومع بداية أيام يوليو، فاز البلاشفة بالأغلبية في قطاع العمال في سوفييت بتروجراد، مما دل على تزايد نفوذهم بين الجماهير.

المظاهرة المسلحة
بدأت سلسلة الأحداث المعروفة باسم “أيام يوليو” يوم 3 يوليو، عندما بدأت كتيبة السلاح الآلي الأولى تمردا بدعم من عدد من الوحدات العسكرية الأخرى. وتزامن اندلاع الانتفاضة مع مؤتمر البلاشفة الثاني في مدينة بتروجراد الذي افتُتِح في الأول من يوليو.

عندما أصبح واضحا أن العديد من الوحدات، بدعم من جماهير العمال، نزلت بالفعل إلى الشوارع بمشاركة قواعد البلاشفة، عندها فقط انضمت اللجنة المركزية إلى الحركة، وأوصت بأن تستمر المظاهرات في اليوم التالي تحت رعاية البلاشفة. وعلى الرغم من إدراك اللجنة المركزية أن المتظاهرين سوف يحملون السلاح، إلا أن التوصية لم تذكر شيئا عن انتفاضة مسلحة أو الاستيلاء على المؤسسات الحكومية. وبدلا من ذلك، كرر القرار الرسمي الدعوة البلشفية إلى “نقل السلطة إلى سوفيتات مندوبي العمال والجنود والفلاحين”.

وهكذا تولت المنظمة العسكرية البلشفية قيادة حركة الشارع التي نشأت أصلا خارج سيطرتها. أثار هذا الفوران غير المتوقع حالة من الفوضى داخل الحزب، حيث وجد من أطاعوا اللجنة المركزية ودافعوا عن تأجيل الثورة أنفسهم في صراع مع الآخرين، خاصة أعضاء المنظمة العسكرية ولجنة بطرسبرغ، اللذان فضلا الفعل الفوري.

يشهد الحزب الثوري، بطبيعة الحال، نموا هائلا في عضويته خلال الثورة: وقد رأينا ارتفاع عضوية الحزب البلشفي في بتروجراد بنسبة 1،600 في المائة في أقل من خمسة أشهر، مما يعرض الحزب لضغط غير مسبوق، يتجلى بدرجات متفاوتة من الشدة في مختلف أجهزة الحزب ويهدد بتمزيق التنظيم.

لا يمكن لأي ترتيب تنظيمي أن يمنع ذلك؛ فإن مجموعة كاملة من الظروف – من بينها الثقة التي فازت بها قيادة الحزب – تؤثر على كيفية تكشف الأحداث الثورية. لذلك فإن عملية بناء الحزب لا يمكن أن تتم في لحظة مشتعلة، كما سوف تكشف الثورة الألمانية فيما بعد.

يوم 3 يوليو، حاول المتظاهرون المسلحون دون جدوى اعتقال “كيرنسكي” قبل الانتقال إلى قصر توريد، مقر اللجنة التنفيذية المركزية للسوفيتات. وكانوا يعتزمون إجبار هذه المجموعة على الاستيلاء على السلطة من الحكومة المؤقتة.

تلك الجماهير – التي قُدر عددها بنحو ستين إلى سبعين ألف شخص – تخطت دفاعات القصر وقدمت مطالبها. لكن اللجنة التنفيذية رفضت. والتقط “تروتسكي” عبث اللحظة حين لاحظ أنه في الوقت الذي يطالب فيه مئات الآلاف من المتظاهرين قيادات السوفيتات بالاستيلاء على السلطة، كانت القيادة ذاتها تبحث عن قوات مسلحة لاستخدامها ضد المتظاهرين.

في أعقاب ثورة فبراير، منح العمال والجنود السلطة للمناشفة والاشتراكيين الثوريين، لكن هذه الأحزاب حاولت تسليمها إلى البرجوازية الإمبريالية، وفضّلت حربا ضد الشعب عوضا عن نقل السلطة سلميا إلى أيديهم . وعندما أدرك متظاهرو يوليو أن قيادة السوفيتات لن تستغني عن حلفائها الرأسماليين – الذين كان معظمهم قد غادر الحكومة على أية حال من تلقاء نفسه – وصل الوضع إلى طريق مسدود.

“خذ السلطة، يا ابن العاهرة، عندما تُعطى لك!”
في اليوم التالي، توجه لينين، الذي كان بعيدا في فنلندا، مباشرة إلى مقر البلاشفة في قصر كشيسينسكايا. بعد وقت قصير وصل إلى هناك أيضا بحارة من قاعدة كرونشتاد البحرية. وكان خطاب لينين الأخير إلى ما بعد ثورة أكتوبر على غير ما توقع البحارة: فقد شدد على الحاجة إلى التظاهر السلمي وأعرب عن يقينه بأن شعار “كل السلطة للسوفيتات” سوف يفوز في النهاية. واختتم كلمته مناشدا البحارة ضبط النفس والعزم واليقظة.

ألقت أيام يوليو ضوءا غير معتادا على اللجنة المركزية البلشفية، خاصة لينين: فقد منعت انتفاضة سابقة لأوانها في العاصمة، كانت كفيلة، في حال نجاحها، أن تؤدي إلى عزلة البلاشفة وسحق الثورة، مثلما حدث في كومونة باريس في 1871 والانتفاضة السبرطية في برلين عام 1919.

توجهت مسيرة قوامها حوالي ستين ألفا إلى قصر توريد، لتواجهها نيران القناصة عند زاوية شارع نيفسكي مع لتيني، ومرة أخرى عند زاوية شارع ليتيني مع بانتيليمونوف. بيد أن معظم الخسائر جاءت نتيجة اشتباكات مع سربين من القوزاق استخدما المدفعية ضد المتظاهرين. بعد هذه المعارك الضارية في الشوارع، وصل بحارة كرونشتاد إلى قصر توريد، بقيادة “فيودور راسكولنيكوف”، حيث انضموا إلى كتيبة السلاح الآلي الأولى.

ثم وقع أحد أكثر أحداث اليوم درامية ومأساوية: أُرسل “فيكتور تشينوف”، الذي كان يسمى بمُنظِر الاشتراكيين الثوريين لتهدئة المتظاهرين. فما كان من الحشد إلا أن ألقى القبض عليه، ولوح أحد العمال بقبضته في وجهه قائلا: “خذ السلطة، يا ابن العاهرة، عندما تُعطى لك!”


بتروجراد، يوم 4 يوليو 1917. المتظاهرون في نيفيسكي بروسبكت يبحثون عن ملاذ بعد أن فتحت القوات النيران عليهم‏

أعلن المتظاهرون أن “تشرنوف” قيد الاعتقال واقتادوه إلى سيارة قريبة، إلى أن أنقذه تدخل “تروتسكي” في الوقت المناسب. وصف “سوخانوف” ذلك المشهد الغريب كالتالي:

كان الحشد متوترا ويصل إلى ما لا تستطيع العين أن ترى مداه.. كان كل من في كرونشتاد يعرف تروتسكي، ويثق به بحسب تصوري. لكنه بدأ يتحدث ولم تهدأ الحشود. لو أن رصاصة واحدة أُطلقت من باب الاستفزاز في مكان قريب في تلك اللحظة ، لحدثت مذبحة هائلة، ولمزقتنا الحشود تمزيقا، ربما بما فينا “تروتسكي”. لكن “تروتسكي”، متحمسا وإن كان عاجزا عن العثور على الكلمات في هذا الجو الوحشي، عجز عن جعل أقرب الصفوف تستمع إليه. . . . وعندما حاول أن يمرر الكلمة إلى “تشيرنوف نفسه”، بدأت الحشود حول السيارة في الغليان. “لقد جئتم لإعلان إرادتكم ولكي تظهروا للسوفيتات أن الطبقة العاملة لم تعد ترغب في رؤية البرجوازية في السلطة [أعلن تروتسكي]. ولكن لماذا تؤذون قضيتكم عن طريق أعمال عنف تافهة ضد أفراد عاديين؟ . . . لقد أظهر كل واحد منكم تفانيه في الثورة. كل واحد منكم على استعداد لمنح حياته للثورة. وأنا أعلم ذلك. أعطني يدك يا رفيق! يدك، يا أخي!” مد تروتسكي يده لأحد البحارة الذي كان شديد العنف في احتجاجه. إلا أن الأخير رفض الاستجابة بعناد. بدا لي أن البحار، الذي لابد أنه استمع لتروتسكي في كرونشتادت أكثر من مرة، تولد لديه شعور قوي وقتها بأنه خائن: تذكر خطاباته السابقة وشعر بالارتباك.. وإذ أُسقِط في يدها وأصبحت لا تعرف ما يجب عليها القيام به، أطلقت جماهير كرونشتادت سراح “تشيرنوف”.

عاد تشيرنوف إلى قصر توريد وكتب ثمانية افتتاحيات تدين البلاشفة. وفي النهاية نشرت جريدة الاشتراكيين الثوريين “ديلو نادورا” أربعة منها.

رغم ذلك انتقمت الحكومة المؤقتة بطريقة شديدة الغرابة: ففي اليوم التالي، بدأت حملة تشهير وصفت لينين – الذي وصل إلى روسيا عبر ألمانيا في قطار مغلق – بكونه عميلا لهيئة الأركان العامة الألمانية

انتصار الرجعية المؤقت
يوم 5 يوليو، أطلقت اللجنة التنفيذية المركزية للسوفيتات والمنطقة العسكرية في بتروجراد حملة عسكرية لإعادة تأكيد السيطرة على العاصمة. احتلت القوات الموالية للحكومة قصر كشيسينسكايا وحطمت مطبعة جريدة برافدا. ونجا لينين بالكاد.

لا طائل من التكهن بما إذا كان لينين ليتعرض لنفس مصير “روزا لوكسمبورغ” و”كارل ليبكنشت” في أعقاب الانتفاضة السبرطية لو أن الحكومة المؤقتة نجحت في إلقاء القبض عليه، لكن الكاريكاتير، الذي نشر في صحيفة “بيتروغرادسكايا غازيتا” اليمينية بعد يومين، قد يؤشر لما كان يمكن أن يحدث:


‏”لينين يبحث عن راية عالية؟ … حسنا؟ هناك مكان جاهز له!!!‏

كذلك احتلت القوات الموالية قلعة بطرس وبولس، التي سلمتها كتيبة السلاح الآلي الأولى بناء على توجيه من المنظمة العسكرية البلشفية. وأمرت اللجنة المركزية للحزب أتباعها بإنهاء مظاهرات الشوارع، ودعت العمال إلى العودة إلى العمل والجنود إلى العودة إلى ثكناتهم.

في الوقت نفسه، أصدرت الحكومة أوامر باعتقال البلاشفة بما في ذلك “لينين” و”كامينيف” و”غريغوري زينوفييف”، إضافة إلى “تروتسكي” و”أناتولي لوناشارسكي”، رئيسي منظمة المقاطعات. وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء السجناء السياسيين، بمن فيهم تروتسكي، غادروا السجن أثناء انقلاب “كورنيلوف” لتنظيم مقاومة العمال، فإن آخرين ظلوا في السجن حتى ثورة أكتوبر.

وهكذا انتهت أيام يوليو، التي كانت، بحسب كلمات لينين، “حدثا أكبر بكثير من مظاهرة وأقل من ثورة”.

اضطرت بعض القيادات الرئيسية في البلاشفة إلى اللجوء إلى العمل السري، وأغلقت جرائدهم. إلا أن تلك النكسة كانت قصيرة الأجل. ذلك أن هجوم الجيش الحادي عشر الفاشل على الجبهة الجنوبية الغربية ضد هجوم مضاد نمساوي-ألماني ضخم، مقترنا بتدهور الوضع الاقتصادي، جدد مصداقية الشعارات البلشفية.

والواقع أن الصحف البلشفية سرعان ما عادت إلى الظهور بأسماء مختلفة قليلا، ووجدت لجان الحزب لنفسها مواضع قدم بسرعة كبيرة. كان نزع سلاح الوحدات العسكرية المتمردة، كما أمرت الحكومة، أصعب في التطبيق عنه في الأمر به. وقبل أن يمر وقت طويل انعكس الحال مع هزيمة انقلاب “كورنيلوف” في أغسطس 1917، ممهدا أخيرا الظروف لمحاولة بلشفية ناجحة في الوصول إلى السلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع