الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الذي ينام في -سهرة فينيغان-؟

حكمت الحاج

2018 / 1 / 12
الادب والفن


كان "ت س .اليوت" قد قال عن "جيمس جويس" عام 1922 بأنّه الرجل الذي اغتال القرن التاسع عشر. وبعد ذلك بنحو ستة عشر عاما انتهى "جويس" من كتابة روايته الأخيرة "سهرة فينيغان" التي يقول عنها "جون غروس" ناقده الأشهر، في كتاب نقله الى العربية عبد الوهاب الوكيل، بأنها تمثّل في نهاية المطاف فشلا فاضحا لانحراف رجل عظيم، إنّ كون روايته الأخرى "يوليسيس" حافلة في كل جزء منها بالاقتباسات المستقاة من التراث الشعبي هو ما يعترف به الجميع.
غير أنّ الغرض الذي قصد "جويس" أن تؤديه هذه المادة هو موضع للنقاش على الدوام. ولعل الرأي السائد في هذا الجانب هو أنّه كان يحاول أن يوضح بالملموس وقدر الإمكان التجزؤ التافه والمهين الذي يطغى على الحياة الحديثة. وقد كتب "فرانك بيجن" صديق "جويس" يقول أن أحد جوانب "يوليسيس" التي تبعث السرور في قلبه إنما هو صبغتها الشعبية. فهي تشبه تلك الأغاني الشعبية التي تتحدث عن وقائع مأساوية بلحن جميل تنشدها جوقة مع أن صفة الشعبية هنا لا تعني بالضرورة الديموقراطية، إلا أن ما يدعى بـــــ"ليبرالية" الكتاب الضمنية لن يضيف كثيرا دون أخذنا بنظر الاعتبار استعمال "جويس" المتواصل للمادة المتداولة الصادرة عن الشعب وعامة الناس.
وإذا ما أخذنا رأي الناقد الفرنسي الكبير "ر.م. ألبيريس" بنظر الاعتبار فإنّ "يوليسيس" (لها ترجمتان الى العربية لكل من: د. طه محمود طه، وصلاح نيازي) هي قصيدة ملحمية متنكرة في زي رواية، أو هي بالعكس. ويقول إنّ المقصد القديم للملحمة والشعر هو أن يحولا الحياة إلى أسطورة مجازية. وتوحي أعمال"جويس" التي يصفها بأنها "ما بعد الرواية" توحي بهذه العملية السحرية، حتى ولو لم تحقّقها. فيوليسيس تعبّر عن هذا الصراع العنيف ما بين الرواية وتلك الرواية التي تريد "عبور " الرواية.
كان "جويس" حتى في طفولته مفتونا بأصل الكلمات وقوتها المثيرة. وتشاركه معظم شخصياته اهتماماته نفسها. يشعر "ستيفن هيرو" بجذب مماثل نحو فقه اللغة ونحو الفكرة القائلة بأن للغة خواصا خفية تكاد أن تكون سحرية وهو ينكب على دراسة قاموس "سكيت" في الاشتقاق كل حين ويدرس أيضا أعمال "وليم بليك" و "رامبو" في قيمة الحروف، ثمّ يجرّب بنفسه جمع حروف العلّة وخلطها ليصنع منها صرخات تعبر عن مشاعر بدائية.
في روايته "صورة الفنان في شبابه" 1916 (نقلها الى العربية ماهر البطوطي) نلاحظ كيف تغدو المغامرة البشرية حكاية صوفية على نحو سري عند "جويس". فها هو البطل ستيفن ديدالوس الشاب القاطن في لندن، فنان شبه فاشل يعيش في إحدى مدن الحجارة والضباب وكل الأشخاص الذين يصطدم بهم ويخالطهم مبهمين ومجرد أشباح، في رواية واقعية متهكمة. لاشيء خارق في حياة هذا الشاب إلى حد ما، ولكن كل ما يحدث لـ "ستيفن" يبدو أنّ له معنى رمزيا، معنى ثانيا، والهدف هو: الحرية الإنسانية. إنّ هذه الرواية مصنوعة بأكملها من أشخاص حقيقيين، إلا أنّ العقدة التي يشكلونها حول البطل ليست لها أية أهمية أو قيمة بوليسية أو نفسية أو اجتماعية، إنّها رموز وحسب وهي حكاية فنّان في شبابه، وما يمنعه أن يكون فنانا. ان "جويس" هنا يمزج بقسوة نوعين من الإبداع تفصل بينهما سبعة قرون: التصوير الواقعي المعتاد، والرواية المجازية في القرن الثالث عشر. لقد ظل المضمون لدى "جويس" واقعيا وحقيقيا، إلا أنّ الهدف والنسيج يتطلبان من القاري ارتدادا نحو الشعر الدفين.
تصل الرواية هنا إلى مرحلة من مراحل تطورها يفلت فيها الأثر الفني من مواصفات السرد ليقارب كبرى الآثار الأدبية ذات الفلسفة السرية كالإلياذة والكوميديا الإلهية، تلك الآثار التي تمتاز بأن لمخططها الذي لا يظهر للقارئ منذ القراءة الأولى دلالة خاصة، رياضية وروحية. إن "صورة الفنان في شبابه" مشيدة على نحو غامض على صورة المتاهة، ويحمل "ستيفن " اسم ذلك البطل اليوناني الأسطوري "ديدالوس" الذي بنى متاهة ثم تاه فيها بنفسه. "يوليسيس" أيضا لها مخطط فلسفة سرية، ومع ذلك فمادتها تافهة. إنّها 24 ساعة في حياة يهودي ايرلندي، كما هي رواية "السيدة دالاواي" لـ "فيرجينيا وولف" حيث تقدم لنا 24 ساعة من حياة إمرأة انكليزية من الطبقة الوسطى، ولا شئ أكثر تفاهة أو أشد ابتذالا من مادة الرواية، فما من مغامرة وما من حكاية تستحق أن تروى، بيد أنّ هذه القصة المتفاقمة القذرة المملة، هذه القاذورة الحقيقية، على حد تعبير " ألبيريس"، ليوم بشري لا مأساة فيه ولا قيمة له، هذه القصة الواقعية الصبور الباهظة، تتبع مخطط ملحمة الأوديسة. فكل ساعة في يوم "بلوم" هي نقل متسخ وغنائي لفصل من فصول "هوميروس" وإنّ هدف "جويس" لَواضحٌ هنا، فالحياة العامة جدا والتافهة جدا والتي لا معنى لها - يوم من حياة ايرلندي من الطبقة الوسطى عام 1904- تحتوي على بناء شعري خفي يجعلها شبيهة بالملحمة. إنّ لكل أعمالنا معنى ولكل شئ معنى، وإن الحقيقة اليومية المألوفة المقدرة هي بالنسبة إلى الفنان أو إلى الله، قصيدة مجازية.
فكل إنسان أينما يذهب إنّما يعيش كل يوم ملحمة مثل الأوديسة وليس الحياة كما تبدو عليه، أي المستوى اليومي الضعيف لكائن لا معنى له - ما دام الفن يستطيع أن يجسد في هذا الضعف "المخطط" السري لقصيدة ملحمية.
وإذا كانت اللغة في "يوليسيس" قد تخلعت من مفاصلها، فإنها في "سهرة فينيغان" قد انطلقت من عقالها وأصبحت للكلمات حيوات خاصة بها. قد تكون اللغة في "سهرة فينيغان" هي أي كلام، ولكنها ليست على أية حال كلاما فارغا، بل على العكس، إننا عندما نحاول أن نفك رموزها نجد أنفسنا إزاء فيض من معان صعبة الانقياد مما يجعل القارئ يهرب ياستمرار من الموضوع. ومن نتائج ألاعيب "جويس" النحوية أنّه يشجعنا على التمهل عند كل وقفة صغيرة والوقوف مدة أطول مما نفعل عند مضامين الكلمات المتفارقة والعبارات وتعذب القارئ بسراب من التفسيرات البديلة والالتفاتات الجانبية التي قد تقوده إلى مكان مجهول أو قد لا تقوده. ولغتها، كما يقول بعض النقاد، هي لغة الأحلام في لحظتها، فإذا نظرنا إلى لغة الأحلام في "سهرة فينيغان" فإنّها بمجموعها شأن الأحلام نفسها، تقليد أدبي غاية في الصنعة يفتقر كله إلى الوضوح والجلاء اللذين يميزان الأشياء الحقيقية، فإذا ما بدا "جويس" رغم ذلك نموذجا تنطبق عليه مقولة "فرويد" في أن الكلمات كالنقط العقدية في الأفكار المتعددة، بطبيعتها غامضة، فإنّ ذلك يعود مبدئيا إلى أسباب ميتافيزيقية وليست نفسية. كل شئ في هذا الكتاب ينساب ويعود إلى منبعه، ويختلط الماضي بالحاضر بالمستقبل في وحدة واحدة. ولكي يجسد هذا الحلم تعمل "التورية" كواسطة مثالية وبوصفها نقطة تقاطع مؤقت تتزامن عندها قوى هي كالمعتاد متباينة فإنّها تمثّل انشطارا والتحاما في الوقت نفسه وسكونا وحركة أيضا. ثمة مشكلة أولية تخيم علينا في البداية هي أنّنا إزاء كتاب صعب على الإدراك في القراءة الأولى، ولا يزداد وضوحا في القراءة الثانية ما لم نكن على استعداد للاستعانة منذ البداية بالخبراء النقاد والاعتماد إلى حد كبير على توجيهاتهم بشكل يفوق ما يرتضيه القارئ الذي يحترم نفسه أن يفعله عموما مع أي روائي أو شاعر آخر - وحتى بعد ذلك. فإن الصعوبات لا تنتهي، لأن آراء الخبراء تنقسم أيضا على بعضها كثيرا حيال النقاط الأساسية، فان مسألة جوهرية كتحديد هوية الذي يحلم في الرواية، على سبيل المثال، تبقى دون حل، وصاغ البعض من هذه النقطة هذا السؤال التهكّمي: من الذي ينام في "سهرة فينيغان؟".
إنّ لكل كلمة تفسيرا فلسفيا خاصا بها، ويبدو أنّ هذا هو المنهج الوحيد الذي يجدي للنظر إلى لغة الكتاب، وهنالك مناهج دراسية أخرى سليمة رغم أنّها اقل جذرية من سواها يمكنها تقديم العون في القراءة وهي تتراوح ما بين الفيلولوجيا، وتعاليم "القبالا". ويستطيع القارئ أن يلاحظ بوضوح وفي كل صفحة "جويس" القارئ لـ " بليك " و"رامبو" مع إيمان نصفي بالسحر والتعاويذ وبإمكانية الكشف عن سر كيمياء الكلمة، ويستطيع المرء أن يميز أيضا جويس التلميذ المتحمّس أيضا لـ "فيكو " الذي كان يعتاد أن الكلمات تضم ما بين ثناياها خبرة الجنس البشري الماضية كلها. ومن المهم أن نذكر هنا ملاحظة مؤداها أنّ لغة "سهرة فينيغان" رغم غرابة أطوارها هي الانكليزية، والانكليزية المتداولة في الكلام على وجه التخصيص. إذ يستمدّ الكتاب حيويته أساسا من نكهته العامية ومن نبرة الحديث الايرلندي ومن روح النكتة ومن المتعة أيضا التي كان يستمدها من استعمالاته اللغوية الغريبة الشاذة .
إنّ أهمّ بديهيتين أساسيتين في "سهرة فينيغان" هما: أن التاريخ يعيد نفسه دائما وأبدا (فكرة العود الأبدي)، وإن الجزء يتضمّن الكل. فالحضارات تزدهر وتتلاشى وفق نمط دوري محتوم مقدور، وكلما دارت عجلة الزمن دارت معها الشخصيات والحوادث والمؤسّسات نفسها بأقنعة وصيغ مختلفة، أمّا الهوية الشخصية للذات فإنها لا تزيد عن سمك الجلد فهي اختلافات زمنية، ومؤقتة داخل موضوع أزلي. وليست الذات شيئا فريدا من نوعه بل إنها على العكس عالم مصغّر وواحدة من ذوات متماثلة التركيب لا تحصى ولا تعدّ. لقد ألِفنا تماما في عالمنا الحديث النظرة الخطية للزمن حتى أصبح معظمنا ينفر من النظرية الدورية للتاريخ وبالتالي نرفض أسطورة العود الأبدي (هذا تعبير من ميرسيا إلياد) وهي من أشهر المعتقدات القديمة الخارقة للعادة. إنّ عددا ضئيلا من الحضارات باستثناء حضارتنا، تملك مفهوما خطيا عن الزمن ، غير أنّ "جويس" كروائي، يستطيع على الأقل أن يدعي بأنّه يقف في صف خبراء الماضي العتيدين.
ان الرواية الصعبة سهرة فينيغان (Finnegan s Wake) قام بنقلها إلى اللغة العربية المترجم الراحل د. طه محمود طه الذي فارق الحياة بعد فترة وجيزة من مراجعة آخر صفحاتها. وتحمل الرواية سمات جويس العصية على المترجمين وأهمها تضمينه لأكثر من لغة داخل النص الإنجليزي حيث استخدم في الرواية مفردات من 37 لغة. ومن الصعوبات اللغوية الأخرى في الرواية كثرة استخدام الكلمات المنحوتة. ويعد طه محمود طه من أبرز أساتذة الأدب الإنجليزي العرب، فهو أول من ترجم رواية "يوليسيس" (Ulysses) إلى اللغة العربية، وصدرت الطبعة الأولى للترجمة الكاملة للرواية في مجلدين عام 1982 بعد أن قضى طه ثماني سنوات كاملة في إنجازها. وقد كرس أربعة عقود من حياته لنقل عالم روائي واحد إلى اللغة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في