الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الثوري والوعي الطبقي

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2018 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية



المثقف قضية ، والقضية فكر المثقف ، وبدون قضية يندثر المثقف ، ويتحول الى بوق ، وشحرور للنظام ، وطبّال ، وزمّار لاختياراته وسياساته ، على الرغم من إدراك ذاك المثقف الشحرور ، انّ النظام يخبط خبط عشواء مثل الناقة التي لا تبصر نهارا وليس ليلا .
لذا فالمثقف يعني الحركة ، التطور ، الحيطة والحذر ، ليس بسبب الخوف ، لأن المثقف الحامل للفكر لا يخاف أصلا ، بل الحيطة من المقالب ، ومن الغدر ، والتآمر مِمّنْ ينتسبون زورا الى الحقل الثقافي . فالمثقف هو ضد السكون والجمود ، لأنه شعلة تضيئي زمن العتمة ، وتنير الطريق ، وترشد المناضلين . لذا المثقف هو ابن الشعب ، وابن اخلص طبقاته الاجتماعية ، وعليه فالمثقف هو خارج الحكم ، وخارج النظام الذي يقارعه باسم الإنسانية ، والعقلانية ، والمساواة ، والديمقراطية .
المثقف المتعارض وليس فقط المعارض للنظام ، مكانه الطبيعي الشعب لا الحكم . لذا فالانتماء الى الشعب هو قضية ، بل القضية الأولى للمثقف ابن الشعب . ومن ثم فان المثقف هو الاستثناء ، الخارج عن جماعة الضباع التي تسبح بحمد النظام ووليّ الخير والنعمة .
ان مكان المثقف لا ولن يكون إلى جانب النظام . فالمثقف حين يتموقع الى جانب الحكم ، يفقد القضية ، وبعد أن يؤدي الخدمات تلوى أخرى ، وبعد ان يستنزفوه فكرا ، ويُعصروه حامضا ، يستكين الى النسيان حتى يندثر تماما . فكم من مثقفين أناروا الثقافة طيلة الستينات والسبعينات عندما تزاوجوا مع السلطة وأضحوا احد وسائلها ، هجرتهم الثقافة ، وهجرهم المثقفون ، وهجرهم النظام ، وتحولوا إلى أيتام أنذال .
لقد كان عبدالله العروي قدوة ، وكان الاستثناء ، قلم غزير وسيّال ، لكن ما ان ادمجه الملك الراحل الحسن الثاني مكلفا بمهمة بالديوان الملكي ، حتى جفّ قلمه ، وتكلس عقله ، وأصبح بينه وبين الثقافة ، ما بين السماء والأرض . لكن بعد العشرية الأولى من الألفية الثالثة ، وبعد ان شعر باليأس والملل ، ونفور المثقفين عنه ، فبعد محاولته الرجوع الى ثقافته الأولى ، حتى فقد البوصلة ، وأصبح تائها يضرب أخماس في أسداس ، ليطبق في حقه مثل الغراب ومشية الحمام . وهنا رحم الله محمد عابد الجابري ، وأستاذ الفلسفة محمد لحبابي ، ومن سار من المثقفين على دربهم الذي لا تزال أجيال المثقفين ، تحن إليه في زمن أكثر من رديء أصبح كل شيء فيه مباحا وبالمقلوب .
يقول ماوتسي تونغ في الديمقراطية الجديدة : " ان الثقافة كشكل إيديولوجي ، هي انعكاس للسياسة ، والاقتصاد في مجتمع محدد ، ولكنها تمارس بدورها فعلا ملحوظا على السياسة والاقتصاد في المجتمع .. " .
الثقافة الثورية إذن ليست معزولة عن المجتمع ، بل هي مرتبطة بالوضعية الطبقية ، وبالصراع الطبقي ، والسياسي ، والإيديولوجي ، حيث ينعكس على المستوى الثقافي ، الصراع الدائر في المجتمع ، ووجهات النظر الطبقية للطبقات المتصارعة كجزء ، وكامتداد للصراع الطبقي ، وهي بدورها تفعل في ذاك ، وفي بنية المجتمع ككل .
ان ارتباط الثقافة بالطبقات ، يجعل الطبقات السائدة ، تعمل جاهدة من اجل ان تسود ثقافتها في المجتمع ، وان تؤدي الدور المنوط بها ، الذي هو الدفاع عن استغلال واضطهاد الجماهير ، والإبقاء على الأوضاع كما هي وطبيعي أن يكون للطبقات السائدة أدباؤها ، وفنانوها الذين يبلورون وجهة نظرها في ميادين الأدب ، والفن ، والفلسفة ، والتاريخ . كما أنّ لباقي الطبقات الأخرى مثقفوها الذين يدافعون عن أهدافها ومطامحها .
وبقدر ما تكون الطبقة ثورية في المجتمع ، من حيث وزنها السياسي ، ودورها في الصراع الطبقي ، و تتوفر على حظوظ تواجدها ، واتساع صوتها على المستوى الثقافي ، كلما تقدم الوعي الثوري للطبقات الثورية داخل المجتمع ، و كلما تقوى الحيز الذي تشغله الثقافة الثورية المعبرة عنه ، والمرتبطة مع هذا الوعي .
ان المثقف ليس فوق المجتمع وفوق الطبقات ، بل هو وليد المجتمع ، ووليد الصراع الطبقي ، المعبر عن طبقة معينة ضمن إيديولوجيا ، وبالتالي فهو ينتمي الى الصراع الطبقي ، ويعتبر من ثم نتاج أوضاع اقتصادية ، واجتماعية ، وسياسية ، وإيديولوجية ، في كل مرحلة تاريخية من تطور المجتمع الذي يعيش فيه .
ان المثقف الثوري لا يخرج عن هذا الإطار ، لأنه وليد صراع طبقي ، يعبر فيه عن إيديولوجية وأراء ثقافية ، بالنسبة للطبقات الثورية في المجتمع ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ، أنْ يوجد مثقف ثوري ، بدون طبقات ثورية في المجتمع ، ما دام الثقافي محكوما بأوضاع مادية ملموسة ، توجد في البنية التحتية للمجتمع ، من خلال مساهمته الى جانب الطبقات الثورية ، في مواجهة الطبقات الرجعية ، بهياكلها السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والإيديولوجية ، والثقافية أيضا .
ان الوعي الثوري يتولد من خلال الصراع الطبقي نفسه ، و من خلال المواجهات المستمرة بين الطبقات الثورية ، والطبقات الرجعية في المجتمع .
المثقف الثوري لا يمكن ان يكون بمعزل عن الصراع الطبقي ، وعن المجتمع الذي يوجد فيه . فالوعي الثوري الذي يجب ان يتوفر عليه المثقف الثوري ، يتولد من خلال الوعي بالواقع ، وتناقضاته التي تتجسد في التناقضات الطبقية المعبر عنها ، من خلال الصراع السياسي ، والاقتصادي ، الدائر بين الطبقات المتصارعة . كما ان النشاط الثقافي الذي يقوم به المثقف ، بما في ذلك إطّلاعه على ثقافات وأفكار من خارج المجتمع الذي يعيش فيه ، تكون مساندة فقط ، وتفعل فعلها من خلال الصراع الطبقي الداخلي .
إنّ الذي يدفع المثقف الثوري الى التحرك والدينامكية ، ليس هذه النظرية الخارجية او تلك ، او هذا الموقف او ذاك ، و ليس هو النشاط الثقافي المحض الذي يقوم عادة على شكل نزهة فكرية ، وتبريرات ذهنية يقوم بها المثقفون ، بل ان واقع الصراع الطبقي في المجتمع ، والانتماءات الطبقية ، هي التي تدفعه لتمثيل هذا الاتجاه او ذاك .
ان هذه المسألة لا تخص المثقف الثوري وحده ، بل هي عامة بالنسبة لجميع المثقفين ، سواء الرجعيين ، او التقدميين الثوريين . فمثقفو الطبقات الرجعية في المجتمع يُدْخلون دائما نظريات ، وأفكارا تلاءم مصالحهم ، ومصالح الطبقات التي يمثلونها . ولا يمكن أن يُدمج في ثقافتهم كل ما يطّلِعون عليه ، لأن الذي يوجههم هنا ليس هو الكتب ، بل المصالح الطبقية في المجتمع ، وهي التي تدفعهم للاقتباس من هنا او هناك ، فليس كل من قرأ ماركس يصبح ثوريا ، بل قد يوجد رجعيون أعداء ، يهتمون بدراسة ماركس من اجل مواجهة الفكر الثوري في مجتمعهم . وهنا يكون الخلاف بين هذا الرأي ، والرأي الذي عبر عنه العروي ، واضحا ، لأنه يعطي الأسبقية للعوامل الخارجية ، بل وقد يعتبرها حاسمة ، لأنها تعتبر من المحاور الأساسية في فكره ، وتطبيقها على المثقف الثوري أدت به إلى اعتبار ان هذا الأخير ، لا يمكنه ان يظهر في المجتمع ، إلاّ عن طريق التأثير الخارجي . ولولا هذا التأثير الخارجي في نظره ، لاستحال ظهور المثقف في المجتمع العربي والمغرب منه . هكذا نواجه هنا أيضا نماذج من التفكير المثالي للعروي .
ان شروط نمو الوعي الثوري في المجتمع ، ترتبط وتتجدد من داخل المجتمع نفسه ، والتأثير الخارجي لا يكون هو الحاسم ، بل يكون مساعدا فقط . فإذا أخذنا المغرب كمثال في سنوات السبعينات التي كانت غزيرة بالتنظير وبالنشاط السياسي ، والإيديولوجي ، والثقافي ، فإننا سنجد ان نمو الوعي الثوري فيه في نهاية الستينات ، ارتبط بالتحولات التي عرفها المجتمع المغربي ، وتطور الصراع الطبقي فيه منذ 23 مارس 1965 ، حيث عبرت الجماهير عن طموح فعلي لتجاوز الفكر الرجعي الإصلاحي . وكان عجز هذا الفكر عن تحقيق طموحات الجماهير ، هو الدافع القوي لظهور مثقفين ثوريين ، تمردوا على دائرة الفكر الإصلاحي الرجعي ، وارتبطوا سياسيا ، وإيديولوجيا ، وفكريا ، بالطموح الثوري الذي عبرت عنه الجماهير بالملموس .
وإذا كان للهزيمة والنكسة في 1967 من دروس تساهم في نمو الوعي الثوري في المجتمع المغربي ، فذلك لأنها كانت تصب في هذا الاتجاه ، فهي كانت تؤكد عجز الفكر البرجوازي الإصلاحي الرجعي ، عن تجسيد طموح الجماهير الكادحة المغربية والعربية ، من التحرر من الصهيونية ، والامبريالية ، والاستعمار ، والهيمنة ، ومن أذنابه من أقزام خدموا المخططات الرجعية ، التي ألحقت اكبر الإساءات للصراع المحلي الوطني ، والإقليمي لفائدة إسرائيل ، وواشنطن والعالم الغربي .
وإذا كان التعامل هنا مع النكسة والهزيمة ، يدخل ضمن إطار محاربة الامبريالية ، والصهيونية ، وأذنابهم ، فان المغرب لم يعيش الهزيمة والنكسة عن قرب ، ولم يتأثر بها إلاّ من خلال كونها مشكلة قومية . وما كان لهزيمة النظام الناصري في سنة 1967 ، ان تولد بشكل مباشر ، او تلعب دورا حاسما في نمو الوعي الثوري في المغرب .
وإذا حاولنا ان نبحث عن مؤثرات خارجية أخرى ، مثل مايو 1968 ، والثورة الثقافية الصينية ، فلا نجدها كيفما ما كان حجمها ، حتى ولو كان الاحتكاك يها قويا ( مايو 1968 ) ، ذات تأثير حاسم في بروز المثقف الثوري بالمغرب ، بل ان ما يجعل من تلك الأحداث تؤثر ايجابيا في المغرب ، هو الواقع المغربي ، وتناقضاته ، والصراع الطبقي الإيديولوجي ، والسياسي ، والثقافي الذي عرفه المجتمع المغربي في تلك الفترة ، والذي افرز المثقف الثوري المغربي . لقد كان الصراع حول الحكم لا حول ضفافه ، اي حول الجمهورية لا الملكية ( البرلمانية ) .
فالمثقف الثوري المغربي إذن ، هو وليد المجتمع المغربي ، ولا يعلو عليه ، وهو نتاج الصراع الطبقي في المغرب ، وتبنيه لنظريات ومواقف من خارج المجتمع المغربي يلعب دورا مساعدا فقط . انه يستفيد من كل الثقافات والأفكار الثورية في العالم ، كما يعمل على الاستفادة من التجارب الثورية للشعوب ، ومساهمات مفكريها ، وقادتها الثوريين ، باعتبارهم عبّروا بالملموس عن الطموحات الثورية لشعوبهم وطبقاتها الثورية ، و نظرا بالضبط ، لان تلك الأفكار والمواقف وخلاصات التجارب ، تنسجم ومتطلبات الطبقات الثورية في المغرب .
هكذا إذن بالتأكيد ، أنّ الوعي الثوري في المجتمع ، هو وليد الظروف السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والإيديولوجية ، والثقافية التي يعيشها ذاك المجتمع .
ان بروز المثقف الثوري نفسه ، مرتبط بتلك الظروف ، وبتوفر شروط طبقية يفرزها الصراع الطبقي ، وحدة التناقضات بين الطبقات الرجعية ، والطبقات الثورية في المجتمع . وما يجعل دور المثقف الثوري مهما في نمو الوعي الثوري في المجتمع ، هو انه يستطيع وبارتباط مع حركة الصراع الطبقي ، أن يُعبّر بشكل واعي عن كل ما يجري بشكل تلقائي ، وما يتولد موضوعيا في المجتمع من ممارسات الطبقات الثورية نفسها .
ان تمثُّل المثقف الثوري للثقافة السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه ، واطّلاعه على ثقافات خارجية ، تساعده على ان يعبر فكريا بشكل واعي عن حركة الصراع الطبقي في المجتمعات ، والتحولات التي يعرفها ، وفي ارتباط وثيق مع تصاعد حدة الصراع الطبقي . ومن هنا يساهم المثقف الثوري ، في تغذية الوعي الثوري المتنامي داخل الطبقات الثورية ، وفي مساعدتها على التحكم الواعي في مستقبلها وممارستها الثورية . فالثقافة كما عبر عن ذلك ماوتسي تونغ ، تستطيع ان تؤثر في السياسة كما في الاقتصاد ، وهنا يكون دور المثقف الثوري ايجابيا ، لأنه يصارع الثقافات الرجعية والإصلاحية السائدة في المجتمع ، ويعري عن هويتها الطبقية ، في نفس الوقت الذي يستطيع فيه ، وبارتباط مع الممارسة الثورية ، إبداع مضامين وأشكال تعبيرية ، تستجيب لمتطلبات النضال الثوري في كل مرحلة ، وتعبر عن الآمال والطموحات الثورية للجماهير ، ومسيرتها من اجل التحرر من الاستغلال ، والاضطهاد ، والعبودية ، والقمع الثقافي .
إنّ أول مشكلة تعترض المثقف المغربي والعربي ، هي الموقف من التراث ، و من الماضي الثقافي . وفي هذا الإطار نجد ثلاثة اتجاهات سائدة على مستوى الثقافة العربية والمغربية :
--- الاتجاه الأول ، هو اتجاه تقديس التراث بشكل هستيري : يرفض أصحاب هذا الاتجاه أيّ مسّْ بالتراث او غربلته ، ويعتبرونه تجسيدا لكلمة الله ، وبالتالي فأي موقف انتقادي له ، يُدان ويحارب ، لان الأمر يتعلق بالنسبة لهم ، ببنيان إيديولوجي ، يستمدون منه ( قداستهم ) ، وهيمنتهم في المجتمع ، وبالتالي يلعب التراث بالنسبة لهؤلاء دورا وقائيا من كل موجات الحداثة ، والعصرنة ، ونشر الثقافة اللاّئيكية ، والديمقراطية ، والثورية . فحاجز المناعة يجعل من سيادتهم الماضوية ، وصية إلهية ينفذونها ( نيابة ) عن الله . لهذا فهم يتشبثون بالتراث الماضوي باسم لله ، ويعتبرونه في فترات ( ازدهاره ) ، تعبيرا عن أهليتهم ( الوارثة ) للمسؤولية من الله عن البشر .
ان المدافعين عن قداسة التراث ، يمارسون ذلك من اجل خدمة مصالحهم ، حيث بسقوط قداسة التراث المزعومة ، سينكشفون على حقيقتهم ، كمستغلين ومضطهدين للجماهير ، يخفون ( هالتهم ) بواسطة هالة تراثية مزعومة .
إنهم يتخذون من الإيديولوجية الغيبية التي تمتد جذورها في التراث العربي والمغربي ، أداة للتعبير عن ذلك ، لحماية مصالحهم الطبقية في المجتمع ، ويحرصون على ان يحتفظوا به ، ويطوروا كل ما يجدونه في التراث ، كما هو مبلور في إيديولوجيتهم " بدعة " يستحق معارضها العقاب .
ومن السذاجة تصور ان المدافعين عن قداسة التراث ، يفعلون ذلك بحكم غموض الأفاق ، وسوداوية المستقبل ، او بسبب تهديد خارجي كما يدعي العروي ، او أنهم يتشبثون به في استقلال عن الطبقات الرجعية ، و عن طبقات اخرى تسانده في المجتمع ، لأنها تجد في ذلك خدمة لمصالحها .
ولقد سبق أن أوضحنا ، أنّ السلفية باعتبارها دعوة إيديولوجية للرجوع الى الأصول الدينية ، ارتبط ظهورها بظروف اجتماعية مر منها العالم العربي والمغرب ( مرحلة مناهضة الاستعمار ) ، كما ارتبطت بمصالح طبقية برجوازية ، والتي ما زالت تتشبث بتلك الإيديولوجية ، بل وتلتف حولها بشكل اكبر ، مع احتداد الصراع الطبقي ، ونمو الوعي الثوري في العالم العربي وبالمغرب .
--- الاتجاه الثاني ، هو الذي يرفض التراث الماضوي جملة وتفصيلا ، ويحمله كل المسؤوليات بصدد الواقع الذي يعيشه المغرب ، والعالم العربي حاليا ، والمشاكل التي يتخبط فيها من تخلف اقتصادي ، واجتماعي ، وسياسي ، وثقافي الذي نعاني منه .
ان هذا الاتجاه الذي سبق ان مثله العروي قبل ان يلتحق كمكلف بمهمة بالديوان الملكي ، يلتجئ إلى بديل تراثي من خارج المجتمع ، هو التراث الليبرالي الغربي . ان هذا الاتجاه يعتمد على منطلقات خاطئة تتمثل أساسا في عجز الفكر العربي من الخروج من دائرة التفكير التراثي ، انطلاقا من الواقع العربي ، ويعتبر ان الحل الوحيد ، هو تبني وبشكل كلي ، للتفكير الغربي الذي يسميه العروي ، استيعاب مكتسبات التفكير الليبرالي ,للأسف ينسى ان التفكير العربي لا يتغير ، إلاّ بارتباط مع تغيير الواقع المجتمعي .
--- اتجاه ثالث نفعي ، وهو الذي يتعامل مع التراث بشكل انتقائي ، فيقدمه على انه يحتوي على الايجابي والسلبي ، ومن ثم فيجب اخذ الايجابي منه وترك السلبي ، وكأن الأمر يتعلق ببضاعة تجارية .
إن هذا الاتجاه ، نجده عند مفكرين رجعيين حربائيين ، كما قد نجده عند مفكرين تقدميين . وإذا كان الاتجاه التقدمي يحاول فعلا اكتشاف وإحياء بعض الجوانب التقدمية في التراث ، فانه لا يختلف على مستوى المنهج الذي يتعامل مع التراث الفكري والتاريخي من منطق طبقي ثوري .
إذن إن الاتجاهين معا ( الثاني والثالث ) ، يواجهان الموقف من التراث الذي يدافع عنه أصحاب الاتجاه الأول ، ومن هنا فهما يلعبان دورا ايجابيا ، رغم ان نظرتهم غير الطبقية ، ومنهجهم الانتقائي ، يجعلهما غير مؤهلين لمعالجة إشكالية التراث بشكل طبقي .
ان النظرة للتراث العربي الفكري ، يجب ان تكون نظرة طبقية ، تطبق المنهج الجدلي المادي على الماضي والتراث الماضوي ، من خلال كونه تعبيرا عن صراع طبقي عرفته المجتمعات العربية ،كغيرها من المجتمعات البشرية . فليس المجتمعات العربية هي التي تواجه حاليا إشكالية التراث ، بل ان كل المجتمعات تواجهها . ان المسألة ليست من خصوصيات العالم العربي وحده .
واذا كانت مشكلة التراث تطرح اليوم على المجتمعات العربية بحدة ، فليس ذلك إلاّ تعبيرا عن احتداد الصراع الطبقي الذي يمتد إلى المجال الإيديولوجي ، والثقافي ، الذي من إحدى مميزاته ، تزايد إلتفاف ممثلي الطبقات السائدة حول التراث ، في مواجهتهم انتشار الفكر التقدمي والثوري .
ان عجلات الصراع الطبقي يزداد ضغطها ، ولهذا يَهْتَزُّ كيان عتاة الفكر الغيبي ، الذين يرون ان الفكر التقدمي الثوري ، بدأ ينتشر ويجتاح مقدساتهم ، وتعريتها من طرف الفكر الثوري على يد المثقفين المدافعين عن الشعب المُستبلد والمُستحمر .
فالماضي العربي هو تجسيد للصراع الطبقي في التاريخ العربي ، وهذا التراث يطفو عليه فكر وإيديولوجية الطبقات التي سادت على امتداد التاريخ ، وبالتالي فهو مطبوع بأيدلوجيتها وتفكيرها .
ان تلك الطبقات هي التي عملت على سيادة مكرها في المجتمع ، وقمع كل فكر يناقض الفكر المعبر عن طموحات الجماهير الكادحة ، التي قاومت طبقيا وسياسيا ، وأبدعت أنماطا من ثقافتها الخاصة التي تعبر عن مصالحها في حدود هيمنة الإيديولوجية الإقطاعية الغيبية . ومن هذه الزاوية يجب التعامل مع التراث ، حيث من الضروري البحث عن الأسباب المادية والاجتماعية ، التي أدت الى سيادة الإيديولوجية الغيبية الإقطاعية في التراث العربي ، في ارتباط وتنسيق مع البنية الطبقية للمجتمعات العربية ، ماضيا ، وحاضرا ، ومستقبلا ، حيث ستستمر الطبقات السائدة في الدفاع عن كل ما هو رجعي وغيبي في التراث وترفض ما عداه .
وكما تمارس هذه الطبقات الحالية ، مصادرة ومطاردة الفكر التقدمي الثوري ، فلقد مارست الطبقات الإقطاعية في التاريخ العربي ، مصادرة كل فكر تجد فيه الجماهير الكادحة تعبيرا عن مطامحها وأهدافها ، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيتها الغيبية القروسطوية .
ان اي دراسة علمية للتراث ، يجب ان تستهدف بالدرجة الأولى تعرية التاريخ العربي الذي عادة ما يُقدم وكأنه منسجم وخالي من الصراع الطبقي ، واكتشاف تناقضاته والقوانين المحركة له ، والكشف عن الأشكال التعبيرية التي مارستها الجماهير ، للتعبير عن طموحاتها ومتطلباتها ، في إطار المواجهة مع الفكر الغيبي الرجعي ، الإقطاعي ، القروسطوي . ان هذه مجرد أفكار الولية نحو بلورة نظرة علنية للتراث .
ان العروي يحتقر التراث الشعبي ، وينظر إليه على انه تجسيد لتخلف الشعوب العربية ، وبالتالي فهو يرفضه . ان هذا الموقف ينسجم مع موقفه الذي يحتقر الجماهير ويراها " متخلفة " " غارقة " في الأوهام . وينفي ان يكون لها اي دور في عملية التغيير الثوري للمجتمعات العربية ، وبالتالي تجاوز نزعة " التقليد " ، والخروج من دائرة الفكر الغيبي الإقطاعي القروسطوي .
ان التراث الشعبي يعكس بشكل من الأشكال ، الثقافة الشعبية ، وهو بذلك تجسيد في جوانب هامة من هذا التحدي ، الذي واجهت به الجماهير عملية القضاء على ثقافتها . لكن الطبقات السائدة عملت على إدخال ذلك التراث ميدان التجارة ، فحولته الى بضاعة ، وأخضعته الى قانون العرض والطلب ، ضمن علاقات التبعية ، وفي ارتباط مع السوق الامبريالية ، ومن ثم بدأت تقدمه في لوحات ترفيهية للمحتكرين والامبرياليين كفلكلور .
ان هذه حقيقة لا يمكن نكرانها . والتعامل معها يجب يكون تعاملا طبقيا ، وبالتالي فمن الضروري مواجهة هذا الهجوم الجديد الذي استهدف التراث الشعبي من اجل إفراغه من تعبيره الطبقي ليشكل مصدر الربح .
ومن إحدى لوازم الصفقات السياسية في العالم العربي ، وفي مواجهة هذا الواقع ، فإننا لا نؤيد مظاهر الإيديولوجية الغيبية الإقطاعية والقروسطوية ، و نعمل على خلق ثقافة ثورية تعبر عن مطامح الطبقات الثورية في المرحلة التاريخية الراهنة ، وتعتمد على طاقاتها الخلاقة ، وإمكانياتها الإبداعية باعتبار ان الثقافة لا تنفصل عن المجتمع ، بل ترتبط بالشروط المادية التي يعيشها ، وبالتحولات التي يعرفها من خلال التعبير عن الطبقات المتصارعة . لذا الثقافة الجديدة التي تنمو منذ سنوات في أغلبية البلدان العربية ، تونس -- المغرب ، هي ثقافة الديمقراطية الجديدة في ارتباط مع هذه المهمة ، باعتبارها محور الصراع الطبقي في أغلبية بلدان العالم العربي حاليا ، بين الطبقات السائدة والطبقات الثورية .
فكل ثقافة ديمقراطية ثورية تستجيب لتلك المهمة ، وتعكسها على المستوى الأدبي والفني ، تساهم فعلا في المهمة الثورية المرحلية على الصعيد العربي ، من خلال التعبير على كل القضايا التي تشملها تلك المهمة ، وما عداها فهو لا يستجيب لمتطلبات وطموح الجماهير العربية .
ان مهمة المثقفين الديمقراطيين والثوريين ، تتحدد من هذا المنطلق ، وفي ارتباط وثيق مع نمو الصراع الطبقي ، وتتأثر به ، وتؤثر فيه ، وتناهض كل ما يعارض طموحات الجماهير ويشوهها ، وكل من يريد تكبيلها او تسخيرها بأيّ شكل من الأشكال ، لخدمة الطبقات المُسْتغَلة ، والحفاظ على الأوضاع على ما هي عليه .
فمن هذه الزاوية ، تتصدر مهمة مواجهة الايدولوجيا والثقافة الغيبية الإقطاعية القروسطوية ، التي تخنق الوعي الثوري للجماهير ، وتحاول مصادرته وإجهاضه .
هكذا يكون المثقف مندمجا في مجتمعه وليس غريبا عنه ، متغربا في أنماط من الثقافات ، لا علاقة لها بشرط المرحلة التاريخية التي تمر منها المجتمعات العربية ، والتي تتمثل في الصراع بين ثقافتين ، الثقافة السائدة الرجعية الإقطاعية القروسطوية ’ والثقافة الديمقراطية الجديدة ، اي الثقافة الديمقراطية الوطنية المرتبطة بالمهمات الثورية ، التي تعمل الطبقات الثورية على تجسيدها في المجتمع ، والتي هي ملزمة لكل مثقف ديمقراطي ثوري .
ان التفتح على الثقافات العالمية ، يكون محددا بتلك الشروط التي تحكمه تلك الأهداف ، وليس انطلاقا من رغبات ذاتية برجوازية أنانية ، بتحكم المنهج الانتقائي الذي يتميز به كل المفكرين البرجوازيين . ان عدم الاستناد الى الشروط الموضوعية السياسية والاجتماعية التي تتحكم في المجتمع ، والمهمات المطروحة للتغيير الثوري للمجتمع من اجل خدمة مصالح الجماهير الكادحة فيه ، تؤدي بالمثقف الى التهاون والعزلة التي ليست إلاّ شكلا من أشكال التعبير البرجوازي الغارق في الأنانية والفردية ، والذي يعيش على هامش الصراع الطبقي ، ويعجز عن المساهمة الايجابية فيه ، وهي ظاهرة يولدها الصراع في المجتمعات الرأسمالية والتبعية على السواء ،حيث تسود الايدولوجيا البرجوازية القطاعية ، ويتحكم الرأسمال في رقاب البشر .
ففي الوقت الذي يُولد فيه هذا الوضع وعيا ثوريا لدى المثقفين للجماهير الكادحة ، نجد بعض المثقفين الصغار يلتجئون الى الغربة واليأس ، وبالتالي يعيشون على هامش المجتمع ، يجترون المآسي والأحزان في آبارها ، حيث يجدون نهايتهم الفعلية .
ان الثقافة لا تنشأ ، ولا تنمو ، ولا تنتشر إلاّ في ارتباط مع حركة الطبقات الثورية في المجتمع ، والمثقف الثوري لا يمكنه أنْ يكون كذلك ، إلاّ إذا التزم بجانب الطبقات الثورية ، وعبر عن مآلها وآلامها ، من خلال اندماجه ،
ضمن الممارسة الثورية للطبقات الثورية للجماهير الكادحة ، فكرا ، و ممارسة ، وشعورا .
ان المثقف الثوري هو ابن الشعب ، وقضيته هي قضية الشعب والجماهير المسحوقة . لذا فقضيته هي قضية الشعب ، وما دامت له قضية ، فهو مثقف ، لان الثقافة قضية ، وفي غياب القضية يندثر المثقف ويذوب .
ان المثقف الثوري بحجم هذه المسؤولية ، هو قلب الشعب ، هو نبضاته ، عيونه ، روحه ، بل هو الشعب . ومن هنا فان اي مثقف ديمقراطي ثوري يرتبط بالشعب وبالوطن ، يبقى مكروها من قبل الأنظمة الدكتاتورية ، والاستبدادية ، والشمولية التي تخاف سلاح المثقف الذي هو القلم . لذا فالأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية لا تتردد في فبركة وتزوير المحاضر ، والملفات ضد المثقفين الثوريين الديمقراطيين ، لرميهم في السجون حتى تتخلص من إزعاجهم واحتكاكهم . إنها تريد تجفيف الأقلام وليّها حتى يتسنى لها الاستفراد بالمجتمع وبالخيرات ، لكن هيهات فما دامت هناك قضية ، فالمثقف سيظل هو ضمير الأمة والشعب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في