الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزء السادس/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة

فواد الكنجي

2018 / 1 / 22
الادب والفن


-78-
ولدت مرات عديدة
ولدت على عامود احراق الساحرات
ولدت في الصحراء في حضن السراب
ولدت في صدفة في قاع البحر
ولدت على غصن شجرة له افعى و تحته تمساح و مستنقع
ولدت في العرس
ولدت في المقبرة تحت الثلج
ولدت على عتبة محكمة تفتيش
ولدت في القطارات و الطائرات و قاعات ترانزيت المطارات
ولدت في العصر الحجري
ولدت على شاشة الانترنت
ولدت ألاف المرات و احترقت
و خرجت من رمادي لأجرب موتا جديدا كل مرة
و حين تضم امرأة عربية الى صدرك
بين ميتة و اخرى من ميتاتها
فانت لا تضم اليك امرأة
بل تاريخ مجرة
من المباهج و الاحزان و الاستمرارية رغم كل شيء

-79-
كان حبنا سلسلة من المرايا المحدبة و المقعرة
نرى فيها وجهينا و تاريخنا مع حبنا
و حروبنا المرحة و شجاراتنا الهزلية و غرامياتنا الطريفة الباكية …
فقط في قمر الفراق وجدنا مرآة الصدق
و لمحنا وجهينا الحقيقين
و ضحكنا حتى البكاء لحروبنا المرحة :
في الحب للجميع وجه مهرج نصف فاشل


الإيقاع الداخلي في هذه المقاطع تمنح القصيدة (الرقص مع البوم) جرسا موسيقيا نحس ونلتمس مشاعر واحاسيس الكاتبة أثناء قراءة النصوص، وهو أمر يتوارد في عموم مقاطع القصيدة وغالبا ما تراهن عليه (غادة السمان) في قصائدها النثرية على هذا النمط من الإيقاع لتضمن لنصها النثري الثبات والاستمرارية لدى متلقيه - وهذا التوازن يتم ضمن القصيدة - ومن أمثلة الإيقاع الداخلي على مستوى تكرار الحروف الوارد على نحو((ولدت مرات عديدة ..، ولدت على عامود.. ، ولدت في الصحراء ..، ولدت في صدفة.. ، ولدت على غصن.. ، ولدت في العرس..، ولدت في المقبرة.. ، ولدت على عتبة.. ، ولدت في القطارات.. ، ولدت في العصر الحجري..، ولدت على شاشة الانترنيت..، ولدت ألاف المرات و احترقت....))، فهذا النمط من التكرار يكشف لنا قوة الانتقاء و الاختيار الذي تعتمده (غادة السمان), لضخ المعنى الفلسفي في ثنايا القصيدة وبغية من الكاتبة للانتباه وتركيز على هذه الجمل ليتسع تأويلات المراد منا، ليتم تسلط الضوء عليها بكونها تمثل عند الكاتبة مركز الإشعاع في الدلالة وإيقاع داخل النص، فمن خلال هذا الإيقاع تركب الجمل بالانسجام داخل النص لأنه في مضمونه يقوي الإحساس بوحدة النص الدلالية وتصبح الكلمات الواردة مفاتيح لا يمكن التغاضي عنها أو تجاوزها في القصيدة .



-80-
احزاني تاكل اظافرها في العتمة
مثل صبي خجول في ركن باحة مدرسة الأيتام
اتستر على احزاني
مثل سكير يتستر على رائحة انفاسه في ماتم والده

-81-

كبومة عاشقة اشتعلت بك و بأبجديتك حبا …
فسحرتني و حولتني الى سمكة
كي ارحل في مجاهل بحار جسدك
سحرتني الى سنونو كي اظل اطير خلف ربيعك
سحرتني الى نملة كي اظل اجمع قمح قصائدك
سحرتني الى غزالة كي اظل اطاردك في براريك
حين سئمتني سحرتني الى خفاش
كي اقف راسا على عقب و اصدق اكاذيبك كلها
ثم سحرتني الى غيمة
و قلت لي امطري بكاء حتى التلاشي
لكن سحر شعب البوم حولني من غيمة الى صاعقة حارقة
و الآن جاء دورك للاشتعال بصاعقتي
جاء دورك لتقاسي غصات الغرام ببومة !
و لتطاردها في دهاليز زئبق الليل و الظلال
و العوالم الممدوة على تخوم هلام الحقيقة و صخور الوهم …
فاهلا بك في الجحيم البومي الجميل ...!

-82-
لانها تخشى سطوة التقاليد
و لا تغادر عشها لطيران الليل السري
و لانها احبته استقبلته في احلامها مرات
و عاشرته بجنون كبتها
و عاشت معه كل ما تشتهيه و تخجل منه في آن
لم يدهشها بعد ذلك ان تكتشف
انها حامل من دون ان يمسها بوم !

المتناقض هنا يصبح شرط الاتصال بالمستحيل على ضوء تركيبة علاقات واستبدالها بعناصر منفصلة بالأضداد لتفتح النص مع ذهن المتلقي لفضاء يبحث فيه عن عملية تواصل في خضم صراع مع الحضارة فـ(غادة السمان) تفيق كإنسانه على حرارة مشاعرها لسبك كلمات الشعر تستحضر تفاصيل كثيرة مما تشعر به و مما عانته فتدفع كل ذلك المخزون في الذاكرة لتناظر بين المعقول واللا معقول وهي تذق اللسعات ما بعد اللسعات على حرارة مشاعرها ويقظتها فهي الشاهد العنيد على المواقف كانت فيها ذات يوم مأخوذة بالعشق ولكن اللسعات حولتها كما تقول : من ((غيمة إلى صاعقة حارقة، و الآن جاء دورك للاشتعال بصاعقتي.. جاء دورك لتقاسي غصات الغرام))، فغادة تستيقظ على الوخز، ومن الوجع تقذف بالصور الشعرية، تخرجها قريحتها المفزوعة من الحياة لتشتعل ذاتها وهي التي تضغط بمشاعره بهذا المدار الفوضوي العارم من الإحساس ومن دوامات متتابعة، لتفاجئنا جمل وعبارات (الرقص مع البوم) التي تضيء لنا بومضات، فضاء مثقل بغيوم وبعواصف....!، وبقدر ما تحرك مشاهد الكتاب تحرك مشاعرنا باتجاهها ونسترجع تلك اللحظات التي عاشتها(غادة السمان) بعيون محترفة التصوير في واقع الصور التي نراها في الكتاب وكأنها لحظات الاسترجاع حقيقية في وسائط التعبير في اللغة الحداثة الشعرية، وبقدر ما تدفعنا كلمات هذا الكتاب إلى الإمام فان صوره ترمينا إلى الخلف لنستشرق بحجم العواطف المكبوتة في أعماق (غادة السمان) عندما تبوح التعبير بمكنوناتها الذاتية بهذا الشكل الجريء المطروح.
فالحزن.. والليل.. والغربة.. والإحساس الملتهب.. والغيوم المتلبدة في الصدر.. و زمن الذات خارج سلطة الرقابة.. هو ما ينضج إبداعها في لغة التعبير التي تختزل جرأتها وحريتها بصدق وشفافية تتكامل إبعادا لحظات التعبير، فتنطلق المفردات بالحداثة والفرادة والمعاصرة بكونها تختزل الكثير المفردات في لحظة اشتعال إحساسها بالغربة، فترسم رؤاها بما يبوح مكنونات ذاتها وهي واعية بما تشهق وبما تتألم بمحسوسات محيطها، فبقدر تعسس (البوم) في محيط الظلام والليل، فان (غادة السمان) تتعسس بمحيطها في كل لحظات وعيها واستيقاظها، فترسم ألامها ودهشتها لتعبر بصدق بذات واعية تدرك محيطها ولكن لا تستطيع تأقلم....! لذا فهي تهرب إلى الإمام لتلجا إلى الليل لان ما من احد يواسي الآم غربتها سواها وهي متمسكة بوعيها معتزة بإنسانيتها وهي تواكب كل تغيرات التي تشهدها الأرض التي أرغمتها إلى الغربة بإحداث سياسية واجتماعية ودينية تتقاطع بما تؤمن بالتعدد والتنوع المجتمعي والحرية، فالغربة وظفت مشاعرها باتجاه ما يغترف في الوطن ليكون نزيف التعبير في لغة الكتابة هويتها المبدعة والمتميزة عبر مفردات قادرة ان تفصح في لغة المخالب لتصيب الهدف بدقة متناهية كما تصيب البوم إثناء الاصطياد، فلغتها تواكب إبداع ذاتها مع الحياة والحضارة والكون لان ذاتها تبقى مستيقظة في الأنا الإنسانية المعبرة بكل ميولها وتجلياتها و تشظياتها عن قيم الإنسانية والحرية .


-83-
قضيت عمري و انا احمل القلم بيد و الكفن بالاخرى
و انا احمل " الكلاشنكوف " بيد و الوردة باليد الاخرى
و انا احمل جواز سفري و ذاكرتي بيد
و بطاقة الطائرة و امنياتي بيدي الاخرى
الآن اريد ان ارمي بذلك كله الى البحر
و اعانقك باليدين معا
-84-

انا قطرة حبر صارت غيمة زرقاء
طاولتي من ورق سريري من ورق حبيبي من ورق
حين اموت سيكون كفني من ورق و تابوتي من ورق
و حين تبكيني ستنتحب على الورقة البيضاء
اكراما لعمر مشترك من الخبز و الملح و الورق

-85-

غازلني الصفر و قال لي انه اهم من الارقام كلها
قلت له : انت لا احد بدون سواك
قال لي : انا العاشق الازلي …لا اصلح لشيء بدون حبيبتي
و لذا انا الاهم و الاعظم

الإشارات البارزة في النص (غادة السمان) تكمن في خاصية عرض مقدمات لإعطاء قيمة للنتيجة تكون كحاصل تحصيل لها وحتمية لا تنازل عنها، هي رغبة الذات في (الحب ) فكل نصوص (غادة السمان) تطلق من هذه التقنية التي تظهر بوضوح كبير في قصائدها النثرية لأنها تمنح اللغة سطوعها الفلسفية والشعرية عن طريق خرق البنية التركيبية لتوليد طاقات تعبيرية تنسجم معطياته مع ما يتيحه النص النثري من دلالات، ويمثل تكثيف الصور من سمات كتابة النص في (الرقص مع البوم) وهو ما يتخذ عنه كانطباع أوليا لأي تحليل لهذه القصيدة ليكون بمثابة هوية النص عند (غادة السمان) والذي يكشف الوجه الآخر للقصيدة من التخيل والتأمل والدلالي المتعاطية في روح النص والتي تستنفر فيها الإحساسات الروحية لبلورة رؤى وأفكار (غادة السمان) التي تشير إليها النصوص بأصابع التأويل، وكما سنشير هنا إلى ذلك في النص:
(( غازلني الصفر و قال لي انه اهم من الارقام كلها
قلت له : انت لا احد بدون سواك
قال لي : انا العاشق الازلي …لا اصلح لشيء بدون حبيبتي
و لذا أنا الأهم و الأعظم ))، فهذه هوية النص التي هي من سمات الحداثة بإحداثياتها التي تمهد المعاصرة في النص المقدم في (الرقص مع البوم) فنسيج الكتابة من حيث التحليل والمقارنة يؤسس في مجمله الحاسة المتمردة المتحدية القادرة على اختراق اليأس والموانع والطرق المغلقة والممنوعة من الدخول، مما يعطي لها عنوان برؤية نافذة لها القدرة على الحضور والاستمرارية .

-86-
قالت البومة:
كلما سمعت كلمة حب شهرت مسدسي
فما من كلمة اكثر التباسا …
الحب ؟ عش من العقارب مغطى بالبنفسج و الفل
مصيدة فئران تحت العشب الحي المتوهج
مستنقع رمال متحركة متنكر في زي بحر
قال الديكتاتور : كلما سمعت كلمة ديمقراطية شهرت مسدسي
قالت الصبية العاشقة : كلما سمعت كلمة حرية
فتحت نوافذ قلبي للعصافير وضوء القمر و الريح
قال الشاعر : كلما سمعت كلمة فراق فرحت
فذلك يعني لقاء مترعا بالجنون مع ابجديتي
حبيبتي وحدها تقف عائقا في وجه الحب و الشعر !!

-87-

أأنا البوم الوحيد لتلقى تبعات الهوى على كتفي ؟
نعم انا واحدة من رعايا الجنون و الاشواق
وريثة العشق العربي من قيس الى ولادة
نعم ثمة زلازل تسري في دورتي الدموية
مع طلوع البدر فوق جسدي الصحراء
و هيجاء محيطات السندباد
و تدليك علاء الدين لمصباحه السحري
و لكنني عاجزة عن الوفاء لمن غدر بي
و لا اتقن حياكة اردية النسيان و لا قطبة الغفران
أأنا البوم الوحيد لتلقي علي تبعات غدرك على كتفي ؟


هنا نرى كيف إن (غادة السمان) توظف (الحب) و (الحرية) بتنظيم خطوط الصور داخل النص بمقدامات لتصل إلى النتيجة فيكتمل التكوين في محيط هذا البناء السلس والمتدرج نحو الأفق، فاختيار المفردة قد جاء في هذا النسق و له فعاليته في عملية التلقي نحو الفضاء الواسع بالحرية ليشكل البناء إيقونة مجسمة بالاندماج النص في كليلة واحدة لا يمكن الفصل بين المحتوى والمضمون، فكل أيقونه في النص تشكل محورا لهدف واحد وهو (الحب) و (الحرية)، فهنا نلاحظ كيف الدلالات تتصاعد في البناء لتثبيت الرؤية عند المتلقي فتساعده للوصول إلى المعنى بلغة حديثة لها إيقاع سلس بكلمات شفاف وكأنها مرسومة برسم توضحي لنصل إلى محتواه بالحداثة ذاتها وهنا يكمن قيمة النص عند (غادة السمان) بكونه نص حداثي يحدث الرؤية إليه شكلا وموضوعا، لأنه نص يمكنه عند قراءته في استعادة الزمان في لحظاته وكأنه يرمم الذاكرة في تلك الإشارات التي خلدت في الروح فتسقط الرؤى عليها لتشكل ومضات تيقظ إحساسنا بومضاتها فنمضي معها .



-89-

سجل الليل في محضر تحقيقه مع حبنا
العلامة الفارقة : عاهة الملل!
-90-
لا اريد تبرئة نفسي من مدن قلبي
و من كل ما عشته و ما لم اعشه و ما ساعيشه
لا اريد تبرئة نفسي من مخالبي و تخويفي لمثقلي الضمير
و لا من حكايا حبي و اناشيدي الليلية
اريد فقط تبرئة نفسي من جريمة هدر العمر بلا طيران ليلي
فانا لم اسفك دم اللحظة
و عشتها " بتبويم " و امتلاء من كل لحظة
و رقص ريشي بطرب للحياة
في صيف للحب و صيف للنسيان
و انتحب ايضا كما لم ينتحب عصفور آخر
ما من جريمة تعادل جرم ان تعيش بومة من دون ان تحيا حياتها

هنا صورة النص الشعري عند (غادة السمان) يفرز من خلال جوهر النص الشعري الحقيقي، فعبر تسجل تجربتها والحالة التي تعانيها وتقاسيها تجئ صورها مدهشة وملتهبة، فالصورة الشعرية التي وردت هنا ما هي الا مظهر من مظاهر خصوصية الكاتبة الفنية وهي التي تفرز وتحدد على مدى قدرتها على الابتكار والخلق، وهي من عناصر تكوين في تجربة النص المتميز فنيا وسط سياق القصيدة ، فتهب في إن واحد وسيلته وغايته في روح النص، فالابتكار والإبداع في خلق الصور هي من سمات القصيدة المعاصرة الحداثية ببصماتها الفنية، وهي هنا جزءا من أسلوب (غادة السمان) الذي تتميز بها برفضها التجاوز والاجترار الزائف فجـاءت صـورها مفعمة بالحيوية وبالمشاعر الفياضة ، لأنها تتبنى مبادئ الصدق وقول الحق ورفض الكذب والتملك الزائف وتبحث عن حريتها وحرية المجتمع ، لذا فان مظهر الخيال المتفنن عند (غادة السمان) هو ذاك الإلهام الذي يعتبر عن نضج القيم من تحصيل وتفكر لتعبر عنها بشكل غير متوقع عبر قراءات وتأملات ومشاهدات و معاناة، وقد انفتحت هذه القصيدة (الرقص مع البوم) كقصيدة حداثية على الصورة الشعرية المليئة بالمعاني ودلالات ورموز والإيحاءات لا يمكن تجاهلها والمرور عنها مرور الكرام – كما يقال- ففضاء هذه القصيدة أنتج عالما رحبا مليئا بالصور الشعرية التي تنطلق التعبير منها وهي تدور في فضاء متعدد الاتجاهات، انطلاقا من الهواجس الذاتية إلى التأمل الكوني المطلق بالموضوعية، متخذة من سمة التجربة الذاتية التي تؤلف بين الموجودات المتنكرة إلى صور موضوعية فكرية تدهش ذوق المتلقي والثقافة الجمالية .


-91-
وحده البوم يعرف
ان العبير هو اسلوب الوردة
في التعبير عن وحشتها

-92-

ولدت في دمشق
واشتهيت فقط ان اسمع صوت الطيور
فطرت الى بيروت
ثم اشتهيت ان اسمع صوت طيور البحار كلها
ومن يومها وانا اطير
تلك حكايتي باختصار وتفصيل !

-93-
لطالما أعلنت حكمتي
وأكدت إنني لن اخلط بين الرسالة وساعي البريد
ولكنني اعترف انك قتلت قدرتي
على الحب حين مت في قلبي
وكنت قبلها الرسالة وساعي البريد في آن
وها أنا أطير خلف النسيان في الليل الباريسي الجميل
وأتابع (تبويمي) حتى ينام الليل فجرا .. ولا ينام جرحي


في هذه النصوص تأخذنا (غادة السمان) إلى استثنائيات في جمع المعنى في مقاربات الصور فحينما تقول ((وحده البوم يعرف ان العبير هو أسلوب الوردة في التعبير عن وحشتها ))، فهذه المقاربة تتجه إلى أفاق لا حدود لها في الحرية والتي تبحث عنها، فالمفردة في جملها تأتي في المعنى ليس كما هو، بل بصور تأويله على كل الاتجاهات الساعية باتجاه (الحرية) و (الحب) ليتم استكمال ما يمكن التكامل معه، فـ(غادة) لا تتعامل مع الحدث بل تنشئه، فـ(الليل) و(البوم) و(الحب) و(الحرية) هي مدارات القصيدة (الرقص مع البوم) ووعاء التعبير الكلي في بنية هذه القصيدة التي تفتح أفاقها الرحبة نحو كل الاتجاهات بمشاعر الضاغطة في وجدان (غادة) لتتنفس بعمق الليل وصمته.
فالنص هنا يفتح أبواب الإرهاصات نلتمسها في عنفوان الكلمات ومفردات ورموزها ودلالاتها وفي هذا التمحور البلاغي تفصح (غادة السمان) عن مشاعرها الهياجة لإثبات عن حالة الغربة المثقلة على نفسها بالآهات والتعب والأرق والألم لإثبات ما هو قائم في أعماقها من حب وحنان للوطن، وضمن هذا الأفق هي تمد الرؤية على مساحة اللغة للبوح عن حالة الصراع النفسي التي تعيشه في خضم ما تفرزه غربة المشاعر بين الروح والجسد، فالصراع الذاتي القائم ما بين مشاعر الندم و بين مشاعر القرار ولا مجال إمامها لتردد لان صهوة الارتحال لا بد إن تمتطيه وهي متيقنة من مشاعرها بان مداد الحنان في ذاكره سيختصر الزمن والمسافة للوصول إلى ربوع الوطن متى ما أغرقها الشوق والحنين لان مسافته مهما طال فان أناملها لقادرة على تحريك مداد القلم لتعبير فوق صفحات الأوراق، وان وجدها ونار أشواقها لقادر على اجتياز الموانع لإيصال رسائلها البريدية ليس عن طريق ساعي البريد وإنما عن طريق نشر قصائدها حيث تختصر فضاء الزمن والمكان، لان قراءة الغربة في ذاتها يفصح ويؤشر في أعماقها بخط عريض وبلون احمر، فلا التعايش والآلفة والاندماج في مدن الغرب قادر على فك الارتباط عمق الحنان وقلع جذورها من ارض الوطن، ولا شيء يجبرها على ذلك لان وطنيتها فوق أي اعتبار، لان الغربة لا يمكن تحديد أطرها ما لم تعيش مفرداتها و (غادة السمان) عاشت وتعيش هذه المفردات، فالكيمياء السام الذي تفرزه الغربة في جسد المغترب لا يمكن إن يفهم ما يفرزه من مشاعر الألم والعذاب وانحسار واعتصار الروح مهما حاولنا الإسهاب في وصفها، لذا فان ما يجوب في عمق (غادة السمان) وما تعبر هو إنتاج لهذا الإحساس الذي يداهم أعماق ذاتها، فهي تفهم ما يجري في أعماقها ولهذا تأتي بمفردات لا تشابه مفردات ولا صور تشبه صور النمطية والاعتيادية، هي مفردات وصور ثائرة ومجنونة تنبثق من الوعي متفجرة متمردة باحثة عن الحرية وعن الحب والانطلاق لا يعيقها شيء رغم قسوة المعطيات وظروف وهي أبواب فتحت كتاباتها للحداثة والمعاصرة بكل خطوطها وفهمها .


- 94-
مات العديد من الذين أحببتهم مرة
مات مرات على تخوم قلبي
وكنت ارفض ان اصدق
وأغلق عيني كأية بومة يؤلمها التحديق بالشمس
وليلة فتحت عيني
شاهدتهم يتساقطون واحدا تلوى الأخر من طائرة عمري
وما زلت احلق وما زلت قبطاني!
-95-
كم يشبه حبك الموت يثقب قلبي ليخطف أنفاسي
يثقب ذاكرتي ليمسح كل ما فيها قبله
يحتويني بلا شريك
وسرعان ما ينتقل إلى سرير "محتضرة" أخرى؟
كم يشبه حبك الأطفال
متغطرسة ويبكي بلا مبرر ويضجر سريعا !
بعيدا عنه أطير.. بحثا عن صيف للنسيان في باريس...!

فالماضي عند (غادة) يتداخل مع الحاضر بل إن الحاضر يستغرق في ألماض ورغم الإشارات الزمنية المعاشة في حاضرها وتكاثفها في النص ولأكن تبقى أسيرة الماضي بكونها مع وفاق مع ذاتها بكل ما يشمله من حب ومن رسائله التي تفيض في أعماقها وهذا ما يفسر ارتباطها بمكان الماضي والرجوع إليه ليكون ذلك الماضي الجميل رهين لمبادرة ذاتها المعبرة والمتكلمة، ويقينها بان واقعها قد تغير وانه يأخذ حيزا من اهتماماتها ولكن واقعها مليء بالمتناقضات في إحساسها له ومن خلال ذاتها وحالة التي تعيشها من الانعتاق ومن الغياب ومن ضجر المكان الذي لا تجد فيه الراحة والتي يسبب لها الأرق والاضطراب، ولهذا تتمنى إن تكون كـ(البوم) لتعيش في الوحدة وسكون وهدوء الليل بعيدا عن الضوضاء والضجر هي رغبة في الانعتاق مما هو حاضر وهذا ما يسلب حضورها نحو الماضي وطفولتها في حارة دمشق القديمة، هو هذا لارتباط العميق في الذاكرة في مكان الطفولة الأولى حيث الألفة والمحبة ولهذا فان الخيال يستعيد ذاكرة إليه حينما تبتعد عنه

- 96-

انتمي الى قبيلة الضوضاء والغبار والضباب والثرثرة
لا شيء صلبا سوى لحى الأجداد
ولذا نتمسك بها
ونتدلى منها مثل الخفافيش المعدنية
في الليل الفضائي للألفية الثالثة!


-97-
حبي الكبير! اه كم عذبني
تخليت لأجله عن أهلي ووطني
حبي الكبير اسمه الحرية
اما هديته لعشاقه الكثر مثلي فهي مقصلة الغربة!


نستدل مما تقدم بان النص عند (غادة السمان ) مشحون بالدلالات والرمز والإيحاءات - كما قلنا سابقا - ويأتي كل ذلك بلغة تعبيرية مخملية شفافة نابعة من أعماقها وهي تعبر بكل ما يجيش في خواطرها، وهذا ما يميز نص عند (غادة السمان) بكونه نص جماليا التعبير ولغة ناضجة ببلاغة وعمق الرؤية و روعة التواصل والحضور، فهي لا تصنع التعبير بقدر ما ينطلق التعبير من خلجات ذاتها بلغة المغالب كإنسانة متمردة تتحدى الظلم وتواجه الغادر بشراسة الكلمات والتي تنساب بعفوية لحجم ما عانت وما ذاقت من مرارة وبؤس الحياة و من المتاعب والمصاعب، ولكن بصبرها وقوة إرادتها وتحديها وعدم الاستسلام وقوة إدراكها العميق و لثقافتها وإمكانياتها الفكرية والفلسفية استطاعت ببراعة ان تقولب كل تعبيراتها عن الحالة تلك وهذه إلى الكلمات عبر فن اللغة وصناعته فأتي تعبيرها عبر ربطها ما بين الفكر وماهيته وبين الذات وينابيعها وهذا ما اخرج نصها بلغة الإشارات الرمزية وبالمعاني المضمرة وبالأسلوب المختصر بكون موضوعاتها تمزج ما بين الذات والقضايا العامة وبإبعاد إنسانية، ليتشكل نصها من خيوط النسيج الشعري والروائي لوحات إبداعية وترانيم تتمازج معا لتتألف بمضامينها وموضوعاتها نشيدا جماليا يملئ في طياته هموم الإنسان الباحث عن الحرية وعن الوطن وهي تعيش ألغربه ليكون نصها هو الضمير المتكلم عن الوطن والحرية وعن شقاء الروح وبؤس الغربة، ليعطي كل هذه المقومات للنص (الرقص مع البوم) قوة مؤثرة يسكن في أعماقنا دون استئذان...! ومن خلاله نشم رائحة الوطن والعشق و الياسمين، فهذا الأحاسيس وهذه المشاعر تنقلها لنا (غادة السمان) بتقنية عالية وهي تهذي بحسها المرهف تحت وطأة الاغتراب وعالمه الموحش لتنساب مشاعرها وهمومها بومضات مكثفة عبر صور شعرية تنساب بلغة أنيقة وبأجراس مفردات هادئة.
وبتنوع حالة الذات عند (غادة السمان) تتنوع نصوصها بين السريالية والرومنتيكية والتعبيرية والرمزية فتكون تجلياتها بإيقاعات جمالية فائقة تأثير في النفس بما تعبر عن وجدانها وإحساسها وعواطفها الجياشة، فتنساب كلماتها في القلب وتلامس الشغاف، لان النص عند(غادة السمان) لا يخرج إلا وهو متقن التعبير بين الكلمات المعبرة لفكرتها، كون (غادة السمان) حينما تنطلق بكتابة النص نحسها بأنها في تلك اللحظات تكون على أتم جهوزية بإمكانية الوعي بعنصر الزمان والمكان في التوقيت الصحيح لمسار الكتابة النص فتنطلق بلا قيود غير مهزومة.. ولا مترددة.. ولا متأزمة.. ولا شيء يوقفها عن التعبير بما تشعر وتحس .
ولهذا فان الصور والرموز المطروحة تتكاثف لديها، وهذا ما يمنح لها الموضوعية والتكامل في البناء المفردات والجمل بمنطق فكري وفلسفي يمنح للمعنى إبعاد جمالية نتذوق فيها الإحساس الجميل والمشاعر الفياضة النابعة من عمق التأثير وحجم التأثير بوجدان الكاتبة، على رغم إننا من خلال قراءتنا للنص نستشف بأنها لا تحدد الأشياء بذاتها وبمستوى واحد بل تطرحها بالصور المعاني وإشكالها وبتعيينات مختلفة وفي إبعاد متباينة ومتداخلة ومتعمقة في الرمزية لتفتح كل المدارات وفضاء القصيدة نحو عمق الإحساس والإسقاط الداخلي الغير قابل للانتهاء لان مداره مفتوح، ومن هنا نجد صور عند (غادة السمان) تتشعب بكل الاتجاهات وتذكر أماكن وشخصيات وساحات ومناطق متعددة وتبني فكرتها من خلال ذلك بشكل مذهل كما سنلاحظ في المقاطع الآتية:
يتبع في الجزء السابع .......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف


.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??




.. عيني اه يا عيني علي اه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو




.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد