الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تروتسكي والنزعة التوفيقية - البلشفية طريق الثورة

آلان وودز
(Alan Woods)

2018 / 1 / 31
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


البلشفية طريق الثورة

الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية

تروتسكي والنزعة التوفيقية

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

اعتقد تروتسكي أنه كان من الممكن توحيد البلاشفة والمناشفة، أو بعبارة أصح: الاتجاه اليساري للمناشفة، الذي كان يمثله مارتوف على الخصوص. لم يكن تروتسكي الوحيد الذي تبنى تلك الفكرة، فقد تبادرت للينين نفسه، أكثر من مرة، فكرة الوحدة مع مارتوف، الذي كان دائما يعترف بميزاته الشخصية والسياسية. يتذكر لوناتشارسكي أن لينين استمر، حتى أواخر عام 1917، يأمل في التوصل إلى اتفاق مع مارتوف. لقد استمر لينين حتى ذلك الوقت يعقد الآمال على عودة مارتوف:


«وجهت سنوات المنفى ضربة قوية لمارتوف؛ ربما لم يسبق لنزعته المتذبذبة أن كانت بمثل هذا الوضوح، ولا ربما بهذا الألم. سرعان ما بدأ الجناح اليميني المنشفي يتعفن، وينحرف في اتجاه ما سمي بـ"التصفوية". لم يكن مارتوف يرغب في أن ينجذب إلى هذا التفكك البرجوازي الصغير للروح الثورية. لكن "التصفويين" كان لهم تأثير على دان وكان لدان تأثير على مارتوف، وكما هي العادة سرعان ما جر "ذيل" المنشفية الثقيل مارتوف إلى القاع. كانت هناك لحظة عندما توصل فعليا إلى عقد اتفاق مع لينين، وذلك بفضل ضغط تروتسكي وإنوكنتي، اللذان كانا يحلمان بتشكيل مركز قوي لمواجهة اليسار المتطرف واليمين المتطرف.

كان هذا الخط، كما نعلم، مدعوما بقوة من طرف بليخانوف أيضا، لكنه لم يدم طويلا، فقد اكتسب اليمين اليد العليا على مارتوف ونشب نفس الخلاف بين البلاشفة والمناشفة مرة أخرى.

كان مارتوف يعيش في باريس. هناك بدأت مرحلة الانهيار الذي هو دائما خطر كامن ضد المنفيين. صارت السياسة تتحول إلى مسألة مشاحنات حقيرة، وبدأ شغفه لحياة المقاهي البوهيمية يهدده بتقليص قدراته الفكرية. ومع ذلك فإنه عندما اندلعت الحرب تمكن مارتوف ليس فقط من استعادة رباطة جأشه، بل وتمكن منذ البداية من أخذ موقف حازم للغاية».[1]

كان أمل تروتسكي هو تجميع كل العناصر اليسارية معا على أساس القطيعة مع اليمين التصفوي داخل المناشفة ومع اليسار المتطرف داخل البلاشفة. وعلى الرغم من أن تروتسكي كان من الناحية السياسية قريبا من البلاشفة، فإنه كان ينتقد ما اعتبره نزعة "تكتلية" عند لينين. كان يأمل في أن يعمل الجناح اليساري داخل المناشفة على القطع مع اليمين، ولذلك غضب مما كان يبدو له تشددا من جانب لينين. وابتداء من أكتوبر 1908، نجح في نشر جريدة أطلق عليها اسم برافدا (الحقيقة) كانت موجهة للتداول السري داخل روسيا، وقد حققت نجاحا كبيرا. صدرت برافدا من فيينا ومولها اثنان من المتعاطفين الأثرياء، هما: أدولف يوفي، الذي صار لاحقا دبلوماسيا بارزا في الدولة السوفياتية، قبل أن يقدم على الانتحار احتجاجا على البيروقراطية الستالينية، وسكوبيليف، ابن مالك شركة للنفط في باكو، الذي عاد للظهور في وقت لاحق وزيرا في الحكومة المؤقتة. كان من بين أسباب نجاح الجريدة الجديدة أنها كانت تكتب بأسلوب حيوي وشعبي وتتجنب اللهجة التكتلية المتشددة التي ميزت المنشورات الاشتراكية الديمقراطية السرية الأخرى. وبدلا من مهاجمة المنشورات الأخرى والمجموعات الأخرى، ركزت على شجب مشاكل الطبقة العاملة، وحاولت إيجاد أرضية مشتركة بين البلاشفة وبين يسار المناشفة. لاقى هذا الأسلوب شعبية كبيرة جدا بين العمال في روسيا، لكنه أثار غضب لينين الذي كان منخرطا في صراع على جبهتين وكان يشك في نوايا دعاة الوحدة، لكنه وجد نفسه أقلية بين صفوف قيادة فصيله، حيث كانت الميول التوفيقية قوية.

كان موقف تروتسكي الخاطئ من التنظيم مصدر خلافات لا نهاية لها مع لينين. وقد شهدت تلك الفترة أشد المواجهات بين لينين وتروتسكي، حيث ندد لينين بشدة بـ "النزعة التروتسكية". لكن من الواضح أن لينين كان يقصد بـ "النزعة التروتسكية" موقف تروتسكي من التنظيم (أي النزعة التوفيقية) وليس مواقف تروتسكي السياسية التي كانت قريبة من البلشفية. وعلاوة على ذلك، فإن حدة الجدل بين الرجلين كان لها تفسير آخر، غير واضح للقارئ الحديث: إن قسوة لغة لينين في هذه الجدالات أملتها حقيقة أنه في نقده "للتروتسكية"، كان يهاجم في الواقع الميولات التوفيقية السائدة داخل قيادة فصيله بالذات. لكن هذه الحقيقة أخفيت لفترة طويلة تحت طبقة سميكة من الأكاذيب والافتراءات لتبرير سياسة البيروقراطية الستالينية وتشويه تاريخ البلاشفة القدماء الذين ناضلوا ضدها.

في الواقع، بدا، لبعض الوقت، أن تروتسكي صار قريبا من النجاح في مسعاه. كان العديد من القادة البلاشفة يتفقون معه حول مسألة الوحدة - أي أنهم كانوا يؤيدون، على وجه التحديد، الجانب الأضعف في موقف تروتسكي، وليس جانبه الأقوى. وفي اللجنة المركزية كان البلشفيان ن.ب. روزكوف وف.ب. نوغين ذوي نزعة توفيقية. علقت كروبسكايا على ذلك بسخرية قائلة: «كان نوغين توفيقيا يريد توحيد كل الأشياء وكل الأشخاص معا».[2] وهكذا كان حال كامينيف وزينوفييف أيضا. وبالنظر إلى شعبية جريدة تروتسكي بين العمال في روسيا، فإن عددا من قادة البلاشفة كانوا يفضلون استخدامها لغرض الجمع بين البلاشفة وبين المناشفة الموالين للحزب. وفي اجتماع باريس لهيئة تحرير جريدة "بروليتاري"، اقترح كامينيف وزينوفييف، اللذان كانا آنذاك أقرب المتعاونين مع لينين، إيقاف إصدار "بروليتاري"، وأن يتم تبني برافدا باعتبارها الجريدة الرسمية للجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. حظي هذا الموقف بدعم قادة آخرين مثل تومسكي وريكوف. وتم تمرير الاقتراح رغم رفض لينين، الذي عارض ذلك باقتراح إصدار جريدة بلشفية ومجلة نظرية شهرية. وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط بحيث يستمر إصدار "بروليتاري"، لكن ليس أكثر من مرة واحدة في الشهر، وتم الاتفاق في الوقت نفسه على الدخول في مفاوضات مع تروتسكي بهدف جعل جريدته "برافدا" لسان حال اللجنة المركزية للحزب. تظهر هذه الحقيقة قوة الميول التوفيقية بين صفوف البلاشفة، كما تخبرنا الكثير عن موقف البلاشفة تجاه تروتسكي في تلك الفترة. نشرت محاضر اجتماع هيئة تحرير "بروليتاري" المشار إليها، في عام 1934، من أجل تشويه سمعة زينوفييف وكامينيف قبل قتلهما على يد ستالين، لكن سرعان ما تم إرجاعها لاحقا إلى الأرشيف، ولم يعد يشار إليها على الإطلاق.[3]

كان لينين معزولا بشكل متزايد داخل فصيله بالذات، واضطر إلى تقديم التنازلات ضد موقفه رغم صحته، وذلك للحفاظ على الصفوف موحدة. كانت نفسية التوفيقيين البلاشفة مدفوعة بنوع من "السياسة العملية" التي تفخر بازدرائها الفاضح للنظرية والمبدأ، وتبحث دائما عن الطرق المختصرة، والتي دائما ما تتحول في النهاية إلى العكس. هذه العقلية الجبانة تنظر دائما إلى النضال من أجل الدفاع عن المبادئ بكونه نزعة "عصبوية"، وهو الاتهام الذي كثيرا ما وجهه خصوم لينين ضده. لقد اعتبر كامينيف ورفاقه التوفيقيون أنفسهم أكثر حكمة وأكثر واقعية من لينين، ربما ليس على صعيد النظرية، بل على صعيد البحث العملي عن حلول لمشاكل الحزب. في نوفمبر 1908، كتب كامينيف إلى بوغدانوف:


«إنني، في ما يتعلق "بالمشاحنات" التي اندلعت هنا، أقف في "منتصف الطريق" وآمل في البقاء هنا... إني أشعر بأنه مثلما التزمت بالنضال ضد المصالحة في عام 1904، فإنني ملزم بالنضال من أجلها الآن»[4]

في وقت متأخر من عام 1912، عندما كان لينين قد بدأ بالفعل في مسار الانشقاق النهائي عن الانتهازيين، تردد جزء كبير من القيادة، كما توضح ذلك كروبسكايا:


«من الواضح أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مكان داخل الحزب للأشخاص الذين عقدوا العزم مسبقا على ألا يلتزموا بقرارات الحزب. لكن النضال من أجل الحزب بالنسبة لبعض الرفاق اتخذ شكل النزعة التوفيقية؛ لقد أغفلوا الهدف من الوحدة وانحدروا إلى تبني موقف رجل الشارع الذي يسعى جاهدا إلى توحيد الكل مع الكل بغض النظر عن المواقف. وحتى إنوكنتي، الذي اتفق تماما مع رأي إيليتش بأن الشيء الرئيسي هو الاتحاد مع المناشفة الموالين للحزب، أي البليخانوفيين، كان حريصا جدا على الحفاظ على وحدة الحزب بحيث بدأ بدوره يميل نحو موقف تصالحي. إلا أن إيليتش صحح موقفه»[5]

بعودتنا إلى تلك الفترة يبدو أنه لا يمكن تفسير لماذا ضيع تروتسكي الكثير من الوقت في محاولة جمع ما لا يمكن جمعه، لكنه لم يكن الوحيد الذي فشل في فهم ما كان لينين يرمي إليه. يكفي أن نذكر اسم روزا لوكسمبورغ لنوضح هذه النقطة. مثله مثل روزا، كان تروتسكي مخطئا، لكن خطأه كان خطأ ثوري صادق يضع نصب عينيه مصالح الطبقة العاملة والاشتراكية. وعلى الأرجح كان مصدر خطأه مشابها لها أيضا. كانت روزا لوكسمبورغ منذ البداية تكره الجهاز البيروقراطي المركزي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وقد بالغت في ذلك إلى درجة رفض المركزية في حد ذاتها. لم تفهم تماما موقف لينين، وصدقت الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها عنه المناشفة، فعرضت أفكاره التنظيمية إلى نقد قاس وغير عادل، أثر جزئيا على علاقاتهما، على الرغم من أنهما كانا من الناحية السياسية يقفان عادة في الجانب نفسه. كان تروتسكي يكره ضيق أفق محترفي الحزب البلاشفة، الذين كانوا يميلون إلى ابتذال المسائل السياسية الأكثر تعقيدا إلى مجرد مشاكل تنظيمية بسيطة، وصوروا العلاقة الجدلية بين الطبقة والحزب بطريقة ميكانيكية كانت تشبه الكاريكاتير أحيانا، مثلما حدث عندما طالبوا في سان بيترسبورغ مجلس سوفيات المدينة بأن يحل نفسه لما رفض قبول قيادة الحزب له. كان تروتسكي يميل إلى بناء موقفه من البلشفية ليس على أساس مواقف لينين، بل على أساس الصورة الكاريكاتيرية الميكانيكية عن أفكار لينين التي صورت بها البلشفية في دوائر معينة. أدى ذلك إلى إبقائه بعيدا عن البلاشفة، على الرغم من تقارب وجهات نظره السياسية مع آراء لينين، وذلك حتى عام 1917 عندما أدت التجربة الفعلية للثورة إلى حل جميع الخلافات القديمة.

لاحقا اعترف تروتسكي بأن لينين كان دائما على حق بخصوص هذه المسألة. وفي سيرته الذاتية فسر أساس خطأه قائلا:


«أعترف أنه فيما يتعلق بتصور مستقبل المنشفية ومشاكل التنظيم داخل الحزب، لم تصل البرافدا أبدا إلى دقة موقف لينين. كنت ما زلت آمل في أن الثورة الجديدة ستجبر المناشفة - كما فعلت عام 1905 - على إتباع مسار ثوري، لكنني قللت من أهمية الانتقاء الأيديولوجي المسبق والتكوين السياسي الصلب. وفيما يتعلق بمسائل التطور الداخلي للحزب، ارتكبت خطأ تبني نوع من القدرية الاشتراكية الثورية. كان ذلك موقفا خاطئا، لكنه متفوق بشكل كبير على تلك القدرية البيروقراطية، الخالية من الأفكار، التي تميز غالبية من ينتقدونني اليوم في معسكر الأممية الشيوعية»[6]

بعد وفاة لينين عمل الستالينيون، وكجزء من حملتهم الإجرامية لتشويه اسم تروتسكي، على تضخيم الاختلافات التي وقعت بين لينين وتروتسكي. لكن تلك الجدالات القديمة لم يعد لها أي أهمية بالنسبة للينين بعد عام 1917، عندما انضم تروتسكي إلى الحزب البلشفي واتخذ موقفا حازما ضد المصالحة مع المناشفة. في نوفمبر 1917، أي بعد ثورة أكتوبر، دعا "البلاشفة القدامى"، وعلى رأسهم كامينيف وزينوفييف، إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع المناشفة. في ذلك الوقت، قال لينين:


«أما بالنسبة للتحالف، فلا أستطيع أن أتكلم عنه بجدية. لقد قال تروتسكي منذ فترة طويلة إن الاتحاد مستحيل. لقد فهم تروتسكي ذلك، ومنذ ذلك الوقت لم يعد هناك بلشفي أفضل منه.»[7]

هوامش:



1: A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, 136.

2: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 207.

3: Protokoly soveshchaniya rashirennoy redaktsy Proletary, Moscow, 1934, the Istoriya KPSS, vol. 2, 293.

4: Pod Znamenem Marksizma, No. 9–10, 202.

5: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 206.

6: Trotsky, My Life, 224.

7: Trotsky, The Stalin School of Falsification, 105 (التشديد من عندي، آ.و).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم


.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام