الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعرت باتمان والسلطنة

آرام كربيت

2018 / 2 / 2
الادب والفن


لم يبق من عائلتنا في سعرت/ محافظة باتمان/ أي كائن. لقد أقدم الأتراك على قتلهم، والقضاء عليهم، وتهجير ما تبقى من الأحياء منهم. وخلا الاناضول من العنصر الارمني المنفتح على الحياة، والحضارة الإنسانية الحديثة. لم تكن كارثة بحق قومية أبيدت من على الخارطة العالمية، أنما عار على الإنسان في كل الأزمان.
لقد قتلوا التاجر، والحرفي، والفلاح، والعامل، المحامي والمسرحي، الكاتب والمفكر، والفنان والموسيقار والمغني والعازف، من أجل بقاء قومية أخرى، خائفة على وجودها القلق. هؤلاء، جاؤوا من التبت، أو من المناطق الصفراء. حملتهم الرياح الصفراء، وغرائب الزمن، والاقدار الغريبة، لتوقع بغيرهم الموت والدمار.
لم يستطيعوا أن يشكلوا دولة المواطنة، لتكون وعاءً لجميع مكونات المجتمع، لهذا اختاروا اقصر الطريق للحل، هو القتل الجماعي. ليصبحوا عار القرن العشرين.
حتى نبع الماء في سعرت، لم يتذكر هؤلاء البؤساء. وتنكر لهم، لجذورهم وقاماتهم وبقاءهم. لقد هرب جدي، وعائلته إلى سوريا، واستوطنوا في ريفها مع ما تبقى من أقرباءه. وسكنوا في الشماسية بعد أن بنوها، وقرية دبانة، وملوك سارة، وحربة وغيرها من القرى.
ترك والدي الضيعة، وذهب إلى جوار الخابور في منطقة رأس العين، وعمل خادمًا في قصر اصفر ونجار في بداية الاربعينيات. واستقر به المقام هناك، بصحبة نبع قطينة والأرض والمطر والثلج.
لقد كانت عائلة اصفر ونجار، تترك القصر في الشتاء، وتعيش في القامشلي أو في محافظة أخرى من محافظات سوريا الأبية، الجميلة، الكريمة والمضيافة.
يبقى الشتاء كله في ذلك المكان، والمخازن مملوءة، بالقمح والشعير والرز. والخيرات تفيض وتزيد. إلى أن شب وأصبح رجلًا. تعلم قيادة السيارة، وأصبح سائقًا عند مجيد اصفر. بيد أن قلبه كان مسكونًا في سعرت، شجرة الدالية، أحجار الأرض وطيور السماء، رمالها وذرات ترابها، والشمس والجبال والوديان. مشتاقًا للنبع، والسهل الأخضر المنبسط. قال لي ذات يوم، قبل سنوات:
ـ آه، لو أرى ذلك المكان مرة واحدة، قبل أن اموت. أريد أن اكحل عيني بذلك الفضاء والصفاء. إن ألمس هواء الأمس، واتزين باكاليل الفضاء ورعشته. وأضاف:
أحس أن زمني توقف عند تلك المروج والوديان. بيت جدي، عمي، خالي، وقبور أجدادي. كل شيء دفن وأصبح هبوب رياح عابرة، وزمن آخر، يقبع بين أيدي الجنيات، وسعادين السماء، وجشع الإنسان، وبخله، ونوازعه المجنونة. كنت اسمع كلماته، أحس بوجعه. وأحيانا اتنكر لهذا الوجع، أقول لنفسي:
ـ لقد ماتت هذه القضية، وإلى الأبد. وذهب هؤلاء الضحايا إلى زمنهم الآخر، دون شفقة. حتى الله، ومسيحه، وأنبياءه، ودجاليه، لم يقفوا إلى جانب أولئك الضحايا. والإنسان عبر الزمن لم يراكم مسؤولية أخلاقية أو وجدانية للدفاع عن المهمشين والضعفاء. فما مضى مضى، وما سيأتي اسوأ.
لنقل بصدق، بصريح العبارة، أن الإنسان عبر التاريخ لم يكن أخلاقيًا أبدًا. كان يعشق قضيبه ومؤخرته. حاول, ويحاول أن يجمل نفسه عبر إغداق صفات كثيرة، وبراقة، وجميلة، ليست منه وله، كالكرم والوفاء والنبل، ليهرب من حقيقته وتكوينه الحقيقي. إنه قاتل في طبعه.
ولهذا كان قلب أبي محروقًا على نفسه، وتاريخه. يبكي مرات كثيرة، عندما يختلي بنفسه، بصمت أقرب إلى الموت. يقول لي:
ـ لا تنس باتمان، النبعة والدالية، اللغة والتاريخ.
ويدفعنا دفعًا إلى المدرسة لنتعلم. كنت أقول لنفسي:
ـ ليدرك أولئك الذين يقتلون بدم بارد: أنكم، بإراتكم تحولتم إلى مجرمين. وقتلتم أشياء جميلة في ذواتهم. تحولتم إلى مجرد إلى قتلى، وحملتم أولادهم هذا الوزر من بعدكم. ووالدي يعيش زمنه في ذلك الزمن. أقول له مرات كثيرة:
ـ إن قضية الإنسان خاسرة عبر التاريخ. والتقوقع أكبر خسارة. إن استرداد الحقوق يجب أن يكون متكاملًا، غير مجتزء. والأرمن، مثلهم مثل الكثير من البشر تعرضوا لمحن مشابهة، قاسية، كالمسلمين في اسبانيا، والهنود الحمر في الولايات المتحدة، والشعب الأصلي في استراليا، وقبائل التوتسي والهوتو في روندا وبروندي، والفلسطينيين والأكراد والسريان والأشوريين والعرب، في سوريا واليمن وليبيا والعراق والحبل على الجرار.
وهناك، من تحول من ضحية إلى جلاد في الزمن الآخر كما فعل اليهود، بالعرب. فبدلًا من أن يحترموا ماضيهم، ويسعوا إلى النبل والتسامح تحولوا إلى مجرمين.
دخلت الروضة والحضانة في مدرسة اللواء الخاصة في مدينة الحسكة. ألوان الكراسي والطاولات، الاصفر, الاحمر, الازرق والاخضر والنهدي ما زالوا في ذاكرتي. وجوه الأطفال النضرة. الهدوء الذي يلف المدينة. نخرج من البيت، يد بيد، أنا وأختي أنجيل ولوسين، نمشي في الشوارع خائفين من الغجر واليهود بالرغم من عدم وجود هذا العنصر الأخير في الحسكة. بيد أن خطف الأطفال كان سائدًا. نحتمي برجل ما، يسير في الشارع، نمشي بالقرب منا لنوحي للآخرين على أنه من أقرباءنا. نخاف من الرجال الذين يلبسون ثيابًا ملفتة للنظر. ونمشي في الأماكن المكتظة بالناس. لم أكن أدري لماذا كان الناس يزرعون في عقول الأطفال هذا الخوف الغير مبرر له في ذلك الوقت. كنت أسمع:
ـ لقد سرقوا طفلا. مصوا دمه ورموا جثته في الشارع، ليحولوا ذلك الاحمر الذي خرج منه إلى عجين، وخبز يأكلوه في صلواتهم. اعتقد أن في ذلك الكلام كذب ومبالغة كبيرة لا يمكن تصديقها.
ونبقى في المدرسة من الساعة الثامنة صباحًا، إلى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر. وفي استراحة الساعة الثانية عشرة الا ربع، يغلقون الباب علينا حتى لا نخرج إلى الشارع. ونبقى إلى الساعة الواحدة والنصف إلى حين مجيء المعلمين والمعلمات بعد الغذاء.
تضع والدتي سندويشة حلاوة أو دبس أو زعتر أو جبنة في حقائبنا التي صنعته من معطفها الأحمر لقلة ذات اليد. قسمته إلى عدة قطع وخيطته بالإبرة والخيط. نحمل تلك الحقيبة كخرج على أكتافنا.
ما أصعب أن يشعر الطفل الصغير بعجز والديه، وضعفهم أمامه. لم يستطع والدي مرات كثيرة أن يشتري لنا صداري المدرسة ذات اللزن الازرق. وأحيانا كثيرة كانت المدرسة تعيدنا إلى البيت لتنفيذ القرار بضرورة اللباس الموحد. وأحيانا نرجع للبيت لعدم قدرة الأهل على دفع الاقصاد الشهرية للمدرسة. فتتدخل الطائفة الأرمنية وتتبنى المصاريف، وتأخذ على عاتقها دفع تكاليف الطلاب الفقراء والمحتاجين.
على الأهل أن يدركوا أن الطفل كائن نبيل، حساس جدًا ويدرك ما يدور حوله، ففيه، كل الجمال والخير. وعلينا أن نزرع في قلبه الجميل حب الحياة والطبيعة والآخر. ونخلق منه كائن محب، قوي، ناضخ التكوين حتى يشعر بغيره. محبًا للخير والجمال ومنتميًا للإنسان والطبيعة، كبديل عن الانتماء إلى الدين والوهم والقومية.
حتى جدران المدرسة، روائح الحيطان والمعلمات والمقاعد في أنفي. أميزهم بدقة في ذاكرتي.
أذكر الباحة الجميلة، غرفة الآذن، الكنيسة المغلقة لعدم توفر قسيس. وأحيانا يأتي في أوقات متقطعة. يبقى شهر أو شهرين ثم يذهب إلى القامشلي، وخاصة المطران انترانيك بجلبابه الاسود، وعشقه لسوريا والوطن السوري والعربي.
على تلك الأرض لعبنا كرة القدم. لم أكن مبدعًا الا بهذه الكرة. عندما كنا نلعب، كنت أحس بوجودي في هذه البقعة الصغيرة الجميلة، تحت فضاء السماء العالية وروح العالم الذي يغني معي، مع الرياضة والركض والفرح.
مع كل خطوة يمدها الإنسان عبر الرياضة يخلق في داخله فرح مفتوح على الفرح. يحس بتلك النسمات الجميلات يلعبون في داخله. ويروض ذلك الوحش الكائن فيه. يحرره ويطلقه للحياة الحرة.
وكانت المدرسة تجبرنا على أرتداء ثياب الرياضة، الخفافة الصينية البيضاء، والشورت الأسود، والقميص الابيض.
واسوأ الأوقات كانت بالنسبة لي، عندما كنت أكون في الحصة بين الجدران المغلقة، كالسجن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع