الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد داعش: المأساة السنية

نوار قسومة

2018 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


يشكل المسلمون السنة أغلبية السكان في الشام والعراق إلا أنهم ينقسمون بشكل عرقي وعقائدي مما يمنع وجود "عصبية" قوية "جامعة" عندهم.
"العصبية" التي تحدث عنها ابن خلدون والتي كان الحكم السني يستند عليها عبر التاريخ لم تكن عصبية سنية إنما عصبية قبلية أوعرقية، بمعنى أنه لم يكن هناك أي رابط يجمع الأغلبية السنية والنخبة الحاكمة سوى خرافة الانتماء "للأمة" الإسلامية. هذه الخرافة كان لها دور تخديري يمنع السكان أو الرعية في أغلب الأحيان من الاعتراض أو الثورة على الحاكم "المسلم السني".
المسلمون الشيعة عندهم بلا شك عصبية تاريخية متوارثة "جامعة" بسبب الاضطهاد والخوف من الحكم السني المتتابع وعندهم طقوس وشعائر وممارسات خاصة تخلق وحدة متينة فيما بينهم. الذكرى السنوية لمقتل الإمام الحسين مثلاً لها دور كبير في تعزيز الهوية الشيعية وتجديد الانتماء للمذهب وللجماعة. و"التقية" كممارسة لمواجهة الخطر "السني" تثبت أيضاً في العقل الباطن للإنسان الشيعي أنه "مختلف" عن الآخر وأن عليه المحافظة على الخلاف والاختلاف بأي طريقة سراً أوعلناً. التقية طبعاً غير محصورة بالشيعة، فكل الأقليات التي خرجت أو انشقت من الإرث الإسلامي تمارس أو مارست في التاريخ هذه "التقية" لتجنب العنف السني.
نجح "المغفور له" آية الله الخميني بإيقاظ الشيعة من سباتهم الناجم عن انتظارهم الطويل لعودة الإمام المهدي من "غيبته" الكبرى، ونجح أيضاً بتوحيد القسم الأكبر منهم تحت قيادته ومرجعيته الدينية مستفيداً هو وخليفته خامنئي من موارد الدولة الإيرانية وثقلها الإقليمي والدولي. طبعاً هناك قسم من الشيعة لا يتبع مرجعية الولي الفقيه، لكنه ينظر إلى إيران كمصدر للحماية والقوة وإلى مدينة قم كالمركز الديني الشيعي الأهم في العالم. وهناك بعض "المثقفين" الشيعة الذين يقفون في المشرق ببسالة ضد ولاية الفقيه، لكن هؤلاء يقتاتون على فتات المال السعودي أو القطري، الأمر الذي يجردهم من المصداقية بين أبناء جماعتهم.
نجحت إيران بتمكين العصبية الشيعية في أكثر من مكان .قد يقول أحدهم أن السيد السيستاني أهم مرجع في العراق لا يتبع ولاية الفقيه؟! الإجابة بسيطة: السيستاني إيراني أولاً وأخيراً ولم يقبل بالجنسية العراقية ولم يسبق لي أن سمعته ينطق بكلمة أو خطبة باللغة العربية (لغة أتباعه)، والعصبية الشيعية موجودة قبل ولاية الفقيه وستسمر بعدها. ولاية الفقية أكرر هنا "مكنتها ولم تخلقها". وحتى إذا لم يقبل الشيعي بولاية الفقيه وفضّل تقليد مرجع آخر، فإنه بالتأكيد ينظر إلى إيران كالدولة الوحيدة القوية التي تدافع عن الشيعة ومصالحهم.
هناك عصبية ملفتة عند العلويين والدروز، بسبب الانغلاق والتزاوج المستمر من داخل الجماعة فقط. وهكذا مع مرور الوقت، يتحول الدين إلى إثنية وتتشابه ملامح أتباع هذا النوع من الجماعات إلى درجة كبيرة ويصبح أيضاً من الصعب فصل الإثنية عن الدين. الإسماعيليون في سوريا يمتلكون أيضاً هذه الخاصية ولكنهم في عصرنا الحالي بلا أي ثقل ديموغرافي أو جغرافي مهم بالمقارنة مع العلويين أوالدروز.
وهنا حتى لو وقفنا أمام علوي "ملحد" أو درزي "ملحد" (أفضل استخدام عبارة غير متدين) فإن هويته الإثنية تبقى فعالة وتجمعه وتوحده مع أفراد الطائفة بغض النظر عن درجة تدينه. حالتهم هنا تشبه اليهود فاليهودية أيضاً دين وإثنية. وإن كانت الحالة اليهودية معقدة أكثر بسبب التوزع الجعرافي لليهود في شتى أصقاع الأرض وكون الانتماء للدين و"للشعب" اليهودي يتم بشكل حصري تقريباً عبر الأم، وهكذا تمكن اليهود من الاندماج "نسبياً" في المجتمعات التي عاشوا فيها أو لنقل اختراقها فقد يعيش اليهودي المولود من أب مسيحي وأم يهودية حياته اليومية والمهنية و"السياسية" كمسيحي، لكن رحم والدته يمنحه عند الجالية اليهودية ورجال الدين اليهود نفس الميزات والحقوق والواجبات التي يحصل عليها أي يهودي آخر متدين دون زيادة أو نقصان. من الممكن أن نشاهد يهودي غير متدين أو ملحد (ربما يدعي ذلك ليندمج أو ليؤثر في أوساط معينة أو لغاية في نفس يعقوب!). لكن على أي حال لنفرض أن هذا اليهودي ملحد وصادق تماماً في هذا الأمر، رغم ذلك فإن إلحاده لن يُسقط هويته الدينية طالما أنه وُلد من والدة يهودية ولن يُخرج إلحاده من عقله فكرة أنه ينتمي إلى "الأمة الإسرائيلية" أو "شعب إسرائيل" وأنه "مختلف" و"أفضل" من "الأنواع" البشرية الأخرى. زعماء الصهيونية الأوائل الذين أسسوها كانوا غير متدينين لكن لا أحد منهم كان يقول أنه ليس يهودي.
اليهودي "الغير متدين" يستفيد كأي يهودي متدين من ميزات الانتماء لهذه العصبية الدينية وتفتح أمامه أبواب وفرص تبقى مغلقة أمام شخص غير يهودي من الأغلبية المسيحية في أي بلد غربي. ما يعنينا هنا أن الانتماء للعصبية يساعد هذا الشخص اليهودي "المتحرر" " الملحد" الذي ينتقد التوراة والتلمود والأديان...الخ، ويعطيه فرصة أكبر بمئة ضعف للنجاح من المسيحي "الملحد"و" المتحرر"... الذي لا يملك هذه العصبية والذي فقد حتى تعاطف قسم كبير من أبناء جلدته الدينية والقومية بسبب تقليده "الأعمى" لهذا اليهودي "الغير ديني".
العصبية السنية إن وجدت في العراق فهي مشتتة عشائرياً وعرقياً. والسني في سوريا لا يملك هذه العصبية القوية نهائياً... فلو أن رجل سني من ديرالزور التقى مع رجل سني من دمشق أو من حلب أو مع كوردي سني من القامشلي لما شعر مع أي منهم بأي رابط قوي جامع. ولو التقى سني صوفي مع سني سلفي لانتهى اللقاء بشكل حزين جداً.... هذا لا يعني أن السني غير طائفي كغيره أو أنه ينظر بدونية وقرف أحياناً لأبناء الطوائف والأديان الأخرى. طبعاً هناك عصبيات مناطقية عندما يتعلق الأمر مثلاً بحوراني سني مع حوراني سني آخر إلا أن هذه العصبية برأيي ضعيفة جداً ولا تمتلك متانة وأصالة العصبية التي ترافق أبناء الأقليات الدينية والمرتبطة بالتاريخ والطقوس السرية والمصير المشترك ورابط الدم القوي والأهم من ذلك مواجهة الخطر السني.
فعندما يلتقي علوي مع علوي أو درزي مع درزي في وسط سني كدمشق أو حلب، فإنه من المؤكد أن هذا اللقاء سيخلق تضامناً معيناً وتآلفاً كبيراً بين الشخصين. الانتماء لهذا النوع من الطوائف الدينية يشبه إلى حد كبير الانتماء إلى جماعة سرية. هذه العصبية الدينية-الإثنية للطائفة هي التي مكنت العلويين من السيطرة على الجيش ومن ثم مكنت حافظ الأسد من تأسيس وتمكين نظام الحكم القائم حتى هذه اللحظة. الدروز أيضاً كان من الممكن لو ساعدتهم الظروف الخارجية أو لو كان عددهم أكبر أن يسيطروا على الحكم والجيش في سوريا وقد أظهروا نفس الطموح وقاموا بعدة محاولات فاشلة قبل وصول حافظ الأسد للسلطة وإحكام قبضته وتقليم أظافر الأقليات المنافسة للعلويين في الجيش كالدروز والإسماعليين.
العلوي أو الدرزي يهاجر إلى المدينة الكبيرة وهي في أغلب الأحيان دمشق وعنده أمل أن رابطه الديني سيكون مفتاح نجاحه في إيجاد عمل بالجيش أو الأمن أو الدولة.... أو حتى في إيجاد فرصة مهنية في عالم الفن. ربما المثال الأوضح هنا هو المعهد العالي للفنون المسرحية، فأغلب الطلاب المقبولين فيه (80-90% في بعض السنوات) هم من العلويين والدروز رغم أن جميع العاملين في المعهد بما فيهم عمال التنظيف والتشطيف هم من المثقفين والمتنورين وأتباع ماركس ونيتشيه وسارتر وبريخت وبيكيت...
أما المسيحي المشرقي فعنده أيضاً عصبية ويتضامن مع المسيحي حتى لو كان من طائفة أخرى لأنهما يواجهان الخطر نفسه. لا يمكن للمسيحي رغم ذلك أن يتنفس الصعداء ويعبرعن هذه العصبية إلا عندما يغادر الشرق ويستقر في أوروبا وأميركا الشمالية وأجنيبيا (أجنيبيا: بلد غالبية سكانه من الأجانب)... يلاحظ عندها صديقنا المسيحي أن دينه يضمن له فرصة أكبر للإندماج والقبول ويجنبه "أحياناً" من ملاحقة نظرات الشك والقلق والريبة التي ترافق وجوده في المجتمع الجديد بسبب الملامح الشرق أوسطية "اللعينة"، فيحاول أن يخبر الجميع وبكل فرصة ممكنة بأنه طيب ولطيف ولا ينتمي لهؤلاء الأشرار أو لدينهم ناهيك عن معاناته معهم وبسببهم (قد يضطر أحياناً لتأليف بعض القصص الخيالية الحزينة).
من الطبيعي أيضاً أن نشاهد مهاجر مسيحي من مصر، لبنان، العراق، سوريا... وبشكل خاص عندما تكون بشرته حنطية أو سمراء يعلق على رقبته صليب كبير بعض الشيء أو لنقل بصراحة كبير جداً بشكل ملفت للنظر فيبدو هذا الإنسان المسيحي وكأنه يعلق على رقبته الصليب الذي حمله المسيح على ظهره في درب الآلام. وبهذا الشكل فإن صديقنا المسيحي المهاجر المندمج في واقعه الجديد يوجه رسالة غاضبة لسكان "أجنيبيا" مفادها: "أيها الأشقر اللئيم! يا من ترمقني بنظرة احتقار! أشكيك باسم هذه الصليب العظيم ليسوع الجبار!".
الحرب اللبنانية مثال آخر وواضح على ضعف العصبية السنية. أبناء السنة كانوا الطرف الأكثر تشرذماً في هذه الحرب بسبب هذا الضعف. فلم يكن عندهم جماعة سياسية أو مليشيا قوية واضحة في فترة الحرب بخلاف باقي الطوائف اللبنانية المتقاتلة ولا شك أن الدول الداعمة خارجياً لم تساعد السنة في تلك الفترة كون السعودية كانت مشغولة مع ال "سي آي ايه" بتمويل الجهاد في أفغانستان، وحافظ الأسد لم يسمح بقيام كيان سني قوي في لبنان، وعراق صدام حسين كان في نفس الفترة يخوض حرباً دموية مع إيران. بعد انتهاء الحرب اللبنانية، شكلت تجربة رفيق الحريري محاولة لتوحيد السنة في لبنان تحت زعامة رجل وتيار واحد وغطاء إقليمي سعودي. الآن بعد الأزمة التي حصلت بين سعد الحريري وحاكم السعودية محمد بن سلمان، أعتقد أن السنة في وضع حرج. فسعد الحريري يبحث عن بديل للسعودية كغطاء إقليمي له والسعودية أيضاً تبحث عن بديل للحريري في لبنان.
على كل حال، ما حصل في العراق وسوريا كان محاولة من الأغلبية السنية "المهزومة" في المنطقة لخلق عصبية عن طريق الدين. المشروع "الداعشي" متخلف وهمجي وغير عصري ومن السهل تدميره كما تابعنا. ومع سقوطه الآن، فإن السنة هم الخاسر الأكبر في المنطقة في المرحلة القادمة.
المشروع السني الإخواني فاشل أيضاً وأردوغان الذي دعم هذا المشروع مازال عاجزاً عن تصدير نفسه كزعيم لكل السنة في المنطقة. شعبيته على سبيل المثال تزداد في المناطق الحدودية مع تركيا ومناطق التركمان وتخف في العمق العربي والعشائري للسنة كما أن زعامته مرفوضة بشكل مطلق في الأوساط الكوردية.
لا أريد أن يُفهم كلامي بأنني أشجع على الطائفية والعصبية، فما أردت قوله أن أغلب المكونات الدينية والإثنية عندها عصبية وطائفية كتحصيل حاصل فيما السنة يفتقدون لهذه العصبية التي تمكنهم من الصمود أو حتى التحرك سياسياً بشكل فعال.
أقول قولي هذا الآن بعد أن زال خطر داعش ونجح الشيعة في العراق بمساعدة إيران وأميركا باستعادة نفوذ الدولة العراقية في أغلب المناطق التي سيطر عليها التنظيم "السني" الهمجي الداعشي. لكن في نفس الوقت لا ألمح في الأفق أي بصيص أمل بأن تقوم السلطة العراقية "الشيعية" بمراجعة أخطاء المرحلة الماضية التي تسببت بخلق الحاضنة الشعبية لداعش في الأوساط السنية. يبدو أن المناخ العام السياسي السائد في العراق يتجه لتحميل السنة المسؤولية الإخلاقية عن جرائم داعش ولو جزئياً لمنعهم حتى من المطالبة بأبسط حقوقهم في المستقبل. إذاً التفاؤل صعب في منطقة ستتحكم فيها العصبيات لفترة طويلة قادمة. وفي سوريا المقسمة المنقسمة او حتى "المنتصرة" لن يتغير شيء على ما يبدو إلى للأسوأ.
المشروع القومي والوطني انفضح وانكشف! والنموذج الإجرامي الإسلامي السني المتخلف فشل وتحطم، وعلى السنة في هذا المنطقة البحث عن بديل عصري ومتحضر "نوعاً ما".
الكل يدعو إلى التسامح والتآخي والحب والمحبة والتحرر من الدين وبنفس الوقت الكل يحافظ على عصبيته سراً وعلناً. وإلى أن يتمكن السنة من خلق عصبية توحدهم في مواجهة الآخرين -ليس بالضرورة عسكرياً- لنقل سياسياً على الأقل فإنهم سيكونون الخاسر الأكبر في هذا الشرق الدموي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا