الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مانيفاستو اليمين الشعبوي

زياد المي

2018 / 2 / 14
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يبدو أن اليمين الجديد في أوروبا وروسيا وبعض من أجزاء آسيا يقف على أرضية مختلفة عن "اليمين العربي" إن صح وجود هذا اليمين العربي بمعناه الكلاسيكي وبصورته التي عُرفت في الفضاء الغربي، "اليمين الشعبوي" في أوروبا تارة يسمي نفسه محافظا وتارة يسمي نفسه تراثوي/ تقليدي Traditionalist مناضل، وتارة أخرى هو قومي بشكل من الأشكال، طبعا ليست قومية اشتراكية أو اجتماعية ولكن يغلب عليها طابع المحافظة على مكسب وجهود الأمة البيضاء التي يمجدها اليمين البديل Alternative Right دائما في مقابل الهجمة الكونية الكوكبيّة على الخصوصيات الثقافية للشعوب عن طريق ثلاثة عوامل: "السوق الحر" أو المسار الطبيعي للتحديث الاقتصادي ذو الطابع الاختزالي المختزِل في طريقه للظواهر المعقدة في الأدنى والأدنى، وهذا السوق الذي يقارع أيضا البنى التقليدية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية والروحانية، العامل الثاني لهذه الهجمة هي قوة الاتحادات المنظمات والمنتديات العالمية التي تنحو نحو التكتل وتجاوز الحيز الزماني وخاصة المكاني، والعامل الثالث "نشر قيم التنوير" الغربي بوصفها قيم كونية ومشروع كوني لكل البشر وليس حصيلة كدّ وتجربة عناء قامت به الشعوب الغربية.
المعركة الجديدة التي يخوضها هذا التيار الشعبوي تترافق مع عدد هام من عوامل التغيير التي تطال أوروبا تحديدا والعالم المسيحي بالخصوص، أوروبا التي تعاني من أزمة التاريخ الغربي المُنفلت من المسيحية، وتعاني من أزمة ديموغرافية حادّة صار سكان جنوب البحر المتوسط أو بعض شرقيي أوروبا يشكلون خطرا سواء بالهجرة الشرعية أو السرية أو اللجوء، فأغلب سكان جنوب المتوسط مثلا هم عرب ومسلمون وسكان مستعمرات سابقة لأوروبا المفرّطة في مسيحيتها، هي اليوم تحت سطوة ورحمة آلاف من المهاجرين قسرا من مناطق النزاع ومن مناطق الفقر خاصة وأن هؤلاء المهاجرين من الشباب الحالم والغاضب والطموح بل والجائع.
عشرات الصفحات في وسائل التواصل الاجتماعي تم إنشاؤها بشكل منظم في أمريكا وأوروبا وروسيا تنادي بالعودة إلى التقليد TRADITION والتصدي لموجات الهجرة خاصة من هم من "أبناء إسماعيل" الفارين من صحراء العرب، ولجم الخونة من اليسار والكوكبيين والجيل الجديد والفيمينيست والتحرريين ... ممن يساندون مسار تفتيت المسيحية من الداخل وتفتيت مشروع أوروبا سواء الأبيض الرأسمالي أو أوروبا المسيحية التقليدية التي أنجبت "فرسان المعبد" حماة الكأس المقدسة Graal والأرض الحرام (القدس) و"مجاهدي الحروب الصليبية" وحروب الاستعمار والامتداد الحيوي القائمة على قوة الرجل الأبيض الغازي والأسرة الآمنة والمرأة المنجبة الخصبة.
هذه الحركات المتجهة يمينا تؤمن بحقيقة أن الحداثة الغربية وليدة الروح المسيحية حتى في فترة دهرنتها، حتى في فترة القرون التي تسمى علموية وصناعية وأخيرا تقنيا.
تبقى المسيحية الغربية وحتى من دون كنيسة هي الروح الدافعة لكل هذا المجد التاريخي الحديث، وحتى في الفضاء الأكثر مناعة وهو الفضاء الأورثودوكسي الشرقي في روسيا التي قدرت أن تصمد أمام عملية تدمير للبنى التقليدية على أيدي أعتى الأيديولوجيات وأشدها صلابة "الشيوعية العلمية" بل إن اختيار الروس لهذه الأيديولوجيا نابع من ترسّخ عقيدتهم كما يقول منظّر الأوراسية ألكسندر دوغين Aleksandr Dugin فالشيوعية في رأيه لم تنتشر إلا لأن الروس يؤمنون بالجماعة بالعمل المشترك وبالعائلة وبالكنيسة كذلك الحال مع كل شرقي، ولا يختلف الأمر حتى عند علمنتها فالبنية الصلبة واحدة.
أما اليمين البروتستانتي في أطلانطس الجديدة New Atlantis بات متضايقا يوما بعد يوم من تصالحه وتوافقه مع مسار الحداثة والتحديث فالبروتستنتية (أخلاق الرأسمالية) بدورها صارت محاصرة في قيمها وفي روحها التي قد تكون ذات لون أبيض، وذات جهة غربية شمالية، فالنمط الاقتصادي المعولم أبعد ما يكون عن اليمين البروتستانتي المُبارك لأرض الله والمعّمر لمملكة الرب والصانع للثروة، صار الاقتصاد اقتصادا سائلا ومتاحا بل ورقمي/سحابي ليس فيه "بركة الرب".
من هنا ظهرت تشكلات جديدة لهذا اليمين، لا تمثل طبقة أو فئة، بل مجموعات منظمة مع بعض الأفراد من الرهوط الفاعلين الحركيين والمموّلين من بعض المغامرين الأغنياء، مثل ستيف بانونSteve Bannon الكاثولوكي التقليدي الطلائعي المتأثر بالإيطالي إيفولا Julius Evola (ت1974)، بانون يدعم بقوة شخصيته وعلاقاته ذلك الأمريكي الأبيض الضخم، وصاحب العائلة الكبيرة والأطفال دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
كلها صور من معالم الثورة على التيار الديموقراطي الذي صار بلون أمميّ بل متهم بالتروتسكية وتلوّن أكثر من اللازم، وأخيرا صار يرشح لرئاسة الولايات المتحدة امرأة وممكن مثلي في يوم ما، هذا الوعي الذي يحكم بنية الخطاب الشعبوي الجامع بين سطحية التحليل وعمق القضايا.
"نهاية التاريخ" بمعنى من المعاني صارت نهاية تؤذن بحرب كونية أبوكاليبس صدام العالم مع نفسه فإن كانت معركة القرون السابقة بين جهة وأخرى (شرق/غرب) أو ملة وأخرى أو عرق وآخر فصدام اليوم هو صدام عالمي كوني في ظل حضارة تبنت الكونية منذ مئات السنين كما يرى الأديب الراحل أمبرتو إكو، فكل المعسكرات متداخلة وتفتح نوافذها على بعضها كلهم محتاج للآخر في التقنية والطاقة والأمن...، فأي صراع ممتد هو مرحلة توحش لا يسلم منها إلا من يستطيع إدارة الضبابية، هي معارك المجسات والاستشراف في زمن الفوضى واللاتوقع.
لطالما كانت المسيحية حضاريا تحمل في يسارها السيف وفي يدها الأخرى أقوال السيد المسيح والبشارة، الآن الجميع يستعد لما يسمى الدفاع عن ما تبقى، الدفاع عن "المسيحية" ولو كانت في الخيال هذا لا يعني تدينا أو طلبا للإيمان أو دفاعا عن العقيدة أو الدين بل دعوة في عمقها غير متدين، قد يكون ملحدا مثل الملاحدة الأتقياء Atei deviti الإيطاليين الذين لا يرون خلاصهم إلا بتجاوز حدث إخراج "الحداثة" من سياقها وموطنها الغربي الذي ترعرعت فيه، ولا خلاص أيضا إلا بتجاوز خطيئة إخراج المسيحية من موطن عزها (أوروبا) التي سُلِّمت لمشاريع عالمية انتهت بأزمة ديموغرافية حادّة أنتجت هُجنة ماجت فيها الأمم بعضها في بعض وما عادت الأديان تجد تمثلها التاريخي والاجتماعي حاضرا، أمام ارتفاع كبير في نسب الانجاب عند أمم أخرى خاصة العدوة تاريخيا والشقيقة جغرافيا في زمن صار التنوير فيه مظلما.
حتى الحصن الأخير وهو الدولة ذلك "التنين" الذي يحمي بجناحيه رعاياه، ويحرق بنيرانه أعداءه من الخارج أو ما يسمون بقية العالم، هذا التنين هرِم وفلّت مخالبه فهو لا يرى قوته إلا داخل إطار من الأطر مستغفرا لتاريخه ولا يشرّع لنفسه الحرب إلا داخل دعوى من الدعاوي الصادقة أو الكاذبة، "مشروع التنوير" صنع دائرة السوء الخلدونية المؤذنة بخراب العمران حيث تدخل الحضارة في الاضمحلال مع الترف فالأزمنة الصعبة تصنع الحضارة دائما والعكس صحيح، ها هو اللين يدب في جسد أوروبا تلك السيدة العذراء الفاتنة.
يا سادة إن جان داركJeanne d Arc العالم صارت عجوزا حالمة، أين تلك "الأنوثة المذكّرة" المفعمة لروح هذا العالم والحارقة لأعداء الأمة المسيحية هذه الأمة التي من الظاهر أنها خاضت كل مغامراتها ومراهقتها وفتوتها قبل الأمم الأخرى وصارت عجوزا بين قوة وضعف، طبعا هي حكيمة أكثر من غيرها فها هي ألمانيا تتخلى عن الطاقة النووية وعن الطاقات الملوثة وحركات الخضر وجماعات الضغط تقاوم أي تطرف من أي جهة أما تلك الدول "المارقة" والضعيفة تسعى حثيثة لامتلاك الملوث من الطاقة سرا وعلانية ولا تراعي أرض الله ولا مستقبل الأجيال القادمة، تشعر أوروبا أن نهايتها هي نهاية كل العالم بل قد تكون قيامته القريبة، وهذا هو أخطر جزء في هذه الكوميديا الإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في 


.. دعوات أميركية للجوء إلى -الحرس الوطني- للتصدي للاحتجاجات الط




.. صحة غزة: استشهاد 51 فلسطينيا وإصابة 75 خلال 24 ساعة


.. مظاهرات في العاصمة اليمنية صنعاء تضامناً مع الفلسطينيين في غ




.. 5 شهداء بينهم طفلان بقصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي السعو