الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيثاغوراس والآلهة الصماء

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2018 / 2 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المدرسة الفيثاغورية هي إذا تيار ديني وطريقة صوفية وحزب سياسي وفي نفس الوقت تيار فكري وفلسفي قائم على فكرة أساسية وهي العدد. الأعداد تكوّن جوهر الأشياء. وفي نفس الوقت الأشياء ذاتها تحاكي الأعداد في نظامها الأساسي الداخلي، وكل الكائنات مصاغة على نسق نموذج متعال هو العدد. غير أن أصحاب المدرسة الفيثاغورية لا يفصلون بين الأشياء ونموذجها كما هو الحال عند إفلاطون بخصوص نظرية المُثل. فالكائنات والأعداد هي في نهاية الأمر شيء واحد، ولا توجد ثنائية بهذا الخصوص. وقد استعانوا بحركة النجوم والأفلاك لبناء هذه النظرية، وأيضا بالعلاقات الصوتية في الموسيقى أي العلاقة بين طول الوتر ودرجة إنشداده التي تحدد طبيعة النغمة الصادرة. ويُروى أن فيثاغورس كان في أحد الأيام يتجول في أحد الأسواق حين مر أمام ورشة حدادة، فاسترعت سمعه أصوات الطرقات الرنانة الناتجة عن ضربات المطرقة على قطع الحديد الساخنة والسندان، والتي بدت كأنها أنغام موسيقية منتظمة ورتيبة. ودخل الورشة وعاين المطارق ذات الأوزان المختلفة واستنتج من ذلك أن النغمات الموسيقية تتوقف على نسب وعلاقات عددية. وقد قام بالعديد من التجارب ليتأكد من هذه النظرية، فأتى بوترين متساويين في السّمك وفي التوتر والإنشداد، وتبين له أن النغمات الموسيقية تتغير حسب طول الأوتار ودرجة إنشدادها وسمكها، وأنه هناك علاقة رياضية يمكن استنتاجها ويمكن أن تقدر كل نغمة موسيقية تقديراً رياضياً، وأن يعبر عنها عدديا. وإذا كانت كل الأجسام التي تتحرك في الفضاء تخرج أصواتاً بدورها، تتوقف درجة ارتفاعها على حجم الجسم وسرعة حركته، فإن كل كوكب في فلكه حول الأرض يحدث صوتاً يتناسب مع سرعة انتقاله، وهذا الصوت يعلو أيضاً كلما بعُد الكوكب عن الأرض؛ ويتكون من هذه النغمات المختلفة تناغم كوني أو موسيقى كونية "موسيقى الأفلاك"، وهي موسيقى لا يمكن سماعها بالأذن المجردة نتيجة لتعودنا الدائم على سماعها.
فيثاغورس، بواسطة دراسته استطاع الكشف عن العديد من النظريات الهندسية في الرياضيات، وأهمها هو ما يسمى بنظرية فيثاغوراس أو مبرهنة فيثاغوراس والتي هي علاقة أساسية في الهندسة الإقليدية بين أضلاع المثلث قائم الزّاوية، حيث أثبت أن مجموع الزوايا الداخلية في أي مثلث يساوي قائمتين أي ١٨٠ْ، وأن المربع المقام على الضلع المقابل للزاوية القائمة في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. ويقول أبلودورس Appollodorus إنه لما اكتشف هذه النظرية ضحى بمائة ذبيحة شكراً للآلهة على هذا الكشف العظيم ولا شك أن هذه المعلومة تدخل في عداد الأخبار الأسطورية العديدة عن فيثاغوراس، لأنه كان نباتيا ويدين التضحية بالدم. وانتقل فيثاغوراس بعد ذلك من دراسة الهندسة إلى الحساب. ولم يكن يقصد بالحساب وقتئذ أن يكون فناً عملياً للتعداد وإحصاء الأشياء المادية في الحياة العامة، بل كان نظرية مجردة للأعداد. وهو أول من قسم الأعداد إلى فردية وزوجية، واكتشف الأعداد الصماء التي أثارث زوبعة داخل النظام الفيثاغوري ذاته، وعيّن الأعداد القابلة للقسمة، وقد صاغت الفيثاغورية نظرية النسبة والجبر الهندسي. وكان منهج الدراسة يتألف من أربعة موضوعات : الهندسة النظرية، والحساب، والفلك، والموسيقى. وكان يبدأ بالرياضيات ؛ والتي لم تكن العلم العملي الذي كانت عليه على أيدي المصريين القدامى، بل كانت علماً مجرداً نظرياً يبحث في الكميات كما سبق القول، ومثلاً أعلى في التدريب المنطقي يجعل التفكير منظماً واضحاً ويمرنه على الاستدلال والبرهان الواضح الملموس. وأضحت الهندسة النظرية من ذلك الوقت مجموعة من البديهيات، والنظريات، والبراهين. وكانت كل خطوة في القضايا المنطقية المتتالية ترفع من مستوى الطالب الفكري إلى درجة أعلى من مستواه السابق يستطيع منه أن يدرك بوضوح أكثر من ذي قبل هندسة وميكانيكية بناء العالم والكائنات.
ولا شك في الدور الكبير الذي لعبته التأثيرات الخارجية المتعددة الناتجة عن سنوات الترحال الطويلة لفيثاغوراس في الشرق، ولا سيما تأثير الحضارة البابلية التي كانت تعطي للأعداد خصائص وأسرارا تتعلق بالوجود عامة. ذلك أن فيثاغوراس قد تلقى علمه الأول في ساموس، على يد هيرموداموس الذي علمه أشعار هوميروس، الإلياذة والأوذيسة، ثم بدأ في دراسة الروح وخلودها وتعلم التقاليد الأورفية، وعلى يد أناكسامنذريس تعلم أسس الرياضيات. ولمّا كانت مصر في ذاك الزمان هي مركز العلم والمعرفة، فقد انتقل إليها عن طريق فينيقيا حيث بقي كما تقول الأسطورة، إثنين وعشرين عاماً تلقّى خلالها المعرفة على يد كهنتها، وتعلم أسس المعرفة الباطنية السرية.. وقيل أن معلِّموه نقشوا على ساقه "الغصن الذهبي" لأوزيريس. في ذلك الحين، في نهاية إقامة فيثاغوراس على أرض مصر، كان غزو الملك الفارسي قمبيز Cambyse II Καμϐύσης - Kambysês لمصر وحسب رواية هيرودوت بأنه عندما عاد قمبيز من حملته الفاشلة لغزو النوبة أصابته لوثة عقلية، وبدأ يرتكب فظائع فى "مصر", فقد إضطهد رجال حاشيته من الفرس كما إضطهد الكهنة المصريين وإحتقر ديانة البلاد وعقائدها. وكان نفيه لكهنة مصر، وفي جملتهم فيثاغوراس، إلى بابل حيث قضى اثني عشر عاماً، تفتَّحت أمامه فيها آفاق معرفية جديدة، فتعرَّف إلى كهنتها واطَّلع منهم على ما تملَّكوه من علوم والتقى، على حدّ ما يقال، بـمن يسمى زاراتاس الذي يرى فيه بعضهم النبي زرادشت نفسه. ومن بابل عاد فيثاغوراس إلى ساموس، ليواصل رسالته، ولكن دعوته لم تلق هناك آذاناً صاغية، فلم يطل الإقامة فيها وغادرها إلى كروتونا في جنوب إيطاليا حيث أسس مدرسته المشهورة والتي فصلنا الحديث عنها سابقا.
الفكرة الفيثاغورية المركزية إذا هي أن إنسجام العالم وثباته ودوامه ونظامه يرجع أساسا إلى قيامه على الأعداد التي هي في غاية الدقة والثبات. كان الفيثاغوريون أول من عرف ما ندعوه اليوم بالنسبة الذهبية أو العدد الذهبي الذي يشار إليه عادة مقربا إلى 1.618 الذي فتن العديد من العلماء والفنانين، بدءاً من أفلاطون، مروراً بليوناردو دافنشي، وصولاً إلى المدارس المعمارية الحديثة. فالعدد الذهبي أو الـ modulor قد يكون أصدق تعبير رياضي لهذا التناغم الكوني الذي يستوعبنا، وهي نسبة تتحقق عندما تكون النسبة لمجموع قيمتين عدديتين والأكبر بينهما تساوي النسبة بين أكبر العددين والأصغر بينهما. وهو عبارة عن ثابت رياضي تبلغ قيمته 1.6180339887 تقريبا. فيثاغوراسلم يكن ينظر إلى العدد ككمية مجرَّدة فقط وإنما كتجلٍّ إلهي وكانعكاس للواحد الذي هو منبع وأساس التناغم الكوني، فعلم الأعداد كان بالنسبة له جزءاً من عملية فهم القوى الحيَّة وجزء من ذلك الفيض الفاعل في جميع العوالم ومن بينها عالمنا الإنساني. والأعداد الفيثاغورية كانت من حيث الأساس أعداداً صحيحة وموجبة ومرتبطة بالملموس. ففي البدء، لم يكن الفيثاغوريون، على ما يبدو، يميِّزون بين العدد وبين الأشياء المحسوسة في العالم الواقعي، إنما حصل هذا التمايز لاحقاً على يد أفلاطون وجماعته. قسم الفيثاغوريون الأعداد إلى أعداد فردية وأعداد زوجية، وكانت تمثَّل بنقاط هندسية موزعة كمتتاليات بواسطة زوايا حيث تمثل الأعداد الموجبة أو المربَّعة، شكلاً هندسياً متوازناً، بينما تمثل الأرقام الفردية مستطيلاً، أي شكلاً هندسياً غير متوازن. كان العدد الأول الـ 1 يمثِّل بالنسبة لهم أول الأرقام ورمز الألوهة، فعنه ينبع كل شيء وهو، بحكم كونه رمزاً، تحدُّه نسبيتنا ومحدوديَّتنا، منبثق عن العدم أو اللانهاية الذي ليس بوسعنا استيعابه، أما على المستوى الإنساني فيبقى الواحد هو المنطلق والأساس لجميع الأعداد التالية، فهو إذن محور الكون، منه ينبع الثنائي أو الـ 2 وهو النسبي وهو الخليقة، ويُرمَز له عادة بخط مستقيم. وتوصَّل الفيثاغوريون أيضا إلى معرفة العدد غير الصحيح .. الأمر الذي كان يشكِّل في حينه مأزقاً فلسفياً لايمكن استيعابه.. فالعدد غير الصحيح كان ربما أول تعبير فلسفي واقعي ملموس للفوضى الكونية المفترضة. في الرياضيات، الأعداد غير النسبية أو العدد الأصم أو الجذر الأصم Irrational number هي الأعداد الحقيقية التي لا يمكن كتابتها على صورة كسر اعتيادي - أي كسر بسطه ومقامه عددان صحيحان ومقامه يختلف عن الصفر- وأقدم الأعداد الصماء هو الجذر التربيعي للعدد ٢ والذي اكتشفه فيثاغوراس في محاولته البرهنة على نظريته التي ذكرناها، وهو ما يساوي مقدار : 1.41421356 وهو عدد غير منته أبدا. هذا العدد سيخلق مشكلة هائلة في النظام الفيثاغوري ويفتح شرخا في البناء الصلب الذي تم بنائه خلال سنوات عديدة، لأن هذا الإكتشاف يمس أركان الرياضيات ذاتها والتي اعتبروها اساس العالم والكون والأشياء، فكل البناء الفكري والفلسفي والديني يمكن أن ينهار فجأة. إنه عدد غير معقول، سماه العرب بالعدد الأصم، عدد جديد وغير صحيح ولا تنطق به الطبيعة، كما أنه يمكن أن يكون فرديا وتارة زوجيا وهذا تناقض لا تحتمله نظرية التبات والتوازن، إضافة إلى أنه عدد غير متناه وهذا سيخلق إشكاليات لا حل لها، فالعدد الصحيح عدد متناه، يسبقه ويليه عدد متناه، فكيف سنصل إلى العدد الموالي للعدد الأصم اللامتناهي؟ لقد وجد فيثاغوراس نفسه في فخ أعده وبرهن بنفسه على وجوده، أثبت أنه بين عددين صحيحين متناهيين يوجد عدد لا متناه. العدد الصحيح المحدد الكم هو وحده العدد القادر على الانسجام مع العقيدة والفلسفة الفيثاغورية التي أقامت نظريتها ورؤيتها إلى الوجود على أساس التناسق والتناغم والإنسجام الذي تمثله الأعداد. المدرسة الفيثاغورية الأم - كروتونا - والتي تطورت فيها الرياضيات بشكل لا نظير له في تاريخ العلوم، وجدت نفسها في مأزق "العدد الأصم" الذي هز جدرانها وأسسها، ولم تكن قادرة، لعدم وجود الإمكانيات النظرية الكافية في ذلك الوقت، على مواجهة هذه الأزمة لأن ذلك يقتضي إجراء مراجعة جذرية لكامل نسقها الفلسفي والديني والشك في مصداقية مقدماتها. فأعلنت "قانون الصمت" مهددة كل من يتحدث عن هذا الإكتشاف بالطرد من المدرسة أو بالموت حسب البعض الآخر. أن هذا الاكتشاف هو ما دفع زينون وجماعته على ما يبدو، إلى معارضة المدرسة الفيثاغورية ومفاهيمها الدينية والفلسفية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال شيق شكرا لك على المجهود استاذي الفاضل
رويدة سالم ( 2018 / 2 / 26 - 18:46 )
شكرا على الوجبة الدسمة التي قدمتها لنا استاذي الفاضل
خالص المودة والشكر


2 - لا اله سوى العقل
نور الحرية ( 2018 / 2 / 27 - 20:47 )
ما أحوجنا لمواضيع كهذه تشحذ الأفكار وتنير العتمة. بالتوفيق أستاذ سعود

اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس