الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 1

دلور ميقري

2018 / 2 / 28
الادب والفن


أشجار الزيتون، تتسلسل الواحدة بأثر الأخرى في منتصف الدرب الظليل، الذي يقطع عرضياً المسافة الجسيمة بين أهم شارعين في المدينة الحمراء؛ فرنسا ومحمد الخامس. " درب الزيتون "؛ كذلك عرفته دوماً السيّدة السورية، دون حاجة منها لمعرفة اسمه الحق. في كلّ مرة تجتاز الدربَ، ركوباً أو مشياً، كانت تخالُ أنّ جنانها أضحى ثمرة زيتون نضرة، معقودة بالأوراق الفضية. هذا الإحساسُ، مَهَرَته على الورق الأبيض قصيدةً، منذورةً لمدينةٍ كانت إلى الأمس القريب نجمَ سعدها. ولكم ازدهت بمديح أستاذها الشاعر، ذاتَ يومٍ بعيد، حينَ نوّه بما دعاه " صورة نادرة " في قصيدتها، تُحيل الدربَ سيفاً بيد المليك المجاهد ( محمد الخامس ) في وجه القوة الاستعمارية ( فرنسا ). على أنّ ذلك كله غدا الآنَ وهماً مُحبِطاً، بنظرها على الأقل. مثلما عبّرَ عنه في حينه، السكرتيرُ السابق، آنَ توقّعت منه تقريظاً مماثلاً: " كلّ صورة شعرية تغدو مزيفة، حال تكرارها، إن كانَ ذلكَ انتحالاً أو تواردَ أفكار ". آه، لشدّ ما كرهته يومئذٍ باعتباره شخصاً مغروراً! أما اليومَ، الشاهد على مسيرها بالكوتشي إلى شقة سكرتيرها الجديد، فإنّ شعور الكراهية ذاك أضحى مؤرّثاً بنار الرغبة في الانتقام.
هوَ ذا سكرتيرها الجديد، الممتلك كسلفه موهبةَ البلاغة اللغوية، يجلسُ بجانبها في عربة الكوتشي الخاصّة بها. في المقابل، لم يكن الشاب كسلفه، منطوياً على نفسه وأفكاره، بل منفتحٌ على الحياة كزهرة من أزهارها. وإنها كذلك ( الخانم )، لم تزل في أوان ربيع العُمر، حال الفروع الوارفة لأشجار الزيتون، التي راحت ترسمُ، لوحةً لوحة، الظلالَ على رأسها. قبلاً، امتلكت الخانم عربة مُغلقة، على غير المألوف هنا؛ بحجرة بيضوية الشكل، مكسوّة بقماش زاهٍ. وكانت الكوتشي آنذاك تبدو للناظر كأنها إحدى عربات الكاوبوي، المركونة عند طرف " ساحة جامع الفنا " مع ما تكنزه من عصيرٍ ونقول. لقد أِلفَ فرسا الكوتشي نظراتِ الدهشة، المرسلة من لدُن المارة إلى الحجرة العجيبة تلك، بنفس الدرجة التي كان عليهما أن يعتادا طبعَ حوذيها سَيّء الخلق. على أنّ حادثاً وقعَ للعربة المغلقة مؤخراً، جعل " سوسن خانم " تستغني عنها وعن الحوذيّ الحشاش سواءً بسواء.

*
طفقت " سوسن خانم " تتأمّلُ دربَ جنانها، وهيَ بمكانها في عربة الكوتشي منعزلةُ الفكر عن الآخرين. لم تجد صعوبةً في حَمل مرافقتها على الانضمام للموكب، غير مصغية لاحتجاج المرأة بضرورة وجودها في منزل الأسرة على مائدة الغداء. أثناء الطريق، كانت ركبتا المخدومة وسكرتيرها تتلامسان برفق مع سير العربة، فيما المرافقة العابسة متململة في مجلسها بمقابلهما. بددت الخانمُ سحابةَ وجوم " للّا عيّوش "، بأن طلبت منها أن تنزل لكي تشتري شيئاً من الحلوى، مثلما هيَ عادة المغاربة في هكذا مناسبة. الحوذيّ، الأسمر المجهول العُمر، كان قد أنضمّ لطاقم الخدمة الجديد لدى السيّدة السورية. فما لبثَ، بدَوره، أن تلقى الأمرَ بالتوقف قدّام محل للحلوى. لا أحد من أفراد الطاقم، كان يدري بالطبع لمن يعود المحلّ.. ولا أيضاً ماهيّة قاطني الفيللا، المفتوح من جدارها الخارجيّ هيكلُ المحلّ ـ كما لو أنه حَمَلٌ مولود للتوّ، ما فتئ معلّقاً بوظبة أمّه.
" الأسرة المُحسنة، التي آوت فرهاد وشقيقته في بداية حلولهما بمراكش، إنما تقيم في هذه الفيللا "، قالت الخانم لمدير مكتبها وقد انعكسَ في عينيها ماضٍ لن يعود أبداً. ألقى الشابُ نظرةً عابرة على المكان، طالما أنه لم يعنِ له شيئاً. ولا كذلك مخدومته، التي راحت تختلسُ النظرَ إلى داخل المحل. بنيانها النفسي، كان أقوى ولا ريب مما تثيره الذكريات من رهافة حسّ. ولكنها اليوم، باختبائها خلفَ كتف الشاب، أظهرَت نفسها كأيّ امرأة ملولة لا تَجِدُ عزاءً. وإنه " فرهاد "، مَن جعلها في الآونة الأخيرة تحمرّ خجلاً أكثر من مرة في اليوم الواحد سواءً أمامَ السكرتير أو المرافقة. عبثاً انتظرت أن يهتف لها، على الرغم من أنها هيَ من تريد أن تُحسن إليه صنعاً بإعادته إلى العمل لديها. وهيَ، الشديدة الكبرياء، لم تستطع التسليمَ آنئذٍ بأنها كانت من ضعف المشاعر أنْ تتصرفَ بذلك النحو المُهين في حضور من يخدمونها.. فلم تستطع، والحالة تلك، أن تغفرَ لمن أساء إليها إن كان بقصد أو بغيره: لعلها أودعت كلّ ذلك في سلّة سيارتها، التي أحتوت على الجسم المنمنم للصغيرة " خَجيْ "، آنَ كان عليها العودة مرةً أخرى إلى الوقوف قدّام باب هذه الفيللا.

*
عربة الكوتشي، ما عَتمت أن تهادت أمامَ بناءٍ على شيء من القِدَم، ثمة في غيليز، شغلَ فيه " آلان " وشقيقته شقة بالدور الأول. بدا مذ الوهلة الأولى، أنّ مائدة غداء حافلة كانت تنتظر الضيفة رفيعة المقام، تدينُ أصنافها لمهارة ودِربة تلك الشقيقة. فإنّ مدخل الشقة، المُفضي إلى المطبخ عبْرَ ممر على شكل حرف اللام اللاتيني، كان مُعبّقاً بعُرف الكُسْكُسي الشهيّ. هذه الفتاة، ما لبثت أن وقفت بحُسْنها وملبسها، المُتألقين، في مواجهة الضيفة.. أي كما رأتها الأخيرة لأول مرة، قبلَ نحو شهرين، بمناسبة عيد ميلادها. كلّ منهما أحست على شفتيها بقبلة شفتي صاحبتها، الملتهبة بحُمّى الأعماق. جُرح قبلة اللقاء الأول، كان ما يني مفتوحاً مثله في ذلك مثل جرح الأنثى الأكثر سرّانية: القُبْلة، مثلما قرأت الخانم يوماً في كتابٍ ما، لهيَ من المصدر اللغويّ ذاته لاسم " القِبْل ".
حلّ المساءُ متأخراً. هذا، كان من واردات الربيع في مدينةٍ لا تغيب الشمسُ عن نهارها طيلة معظم أيام السنة. انتقلوا عند ذلك إلى الصالة الرحبة، المُتوهّجة زواياها بالشموع المشتعلة. توجه " آلان " من فوره إلى خزانة الكتب، المحتلة صدرَ المكان، ليفتحَ سحّاباً خشبياً عن فجوةٍ تذخرُ بزجاجات المشروبات الروحية. نظرةُ الخانم، الموارَبة، راحت تجوسُ في ملامح " للّا عيّوش "، تقرأ آياتِ الاستنكار المتداخلة بالدهشة. ربما لم يكن مألوفاً للمرافقة، اطلاقاً، ملاحظة هكذا استهتار بالمُحَرمات في منازل مواطنيها المسلمين. جملةُ الاستغفار، جرتْ عندئذٍ على لسانها ولو أنها كانت أشبه بنقيق الضفادع في ظهيرة تلك الضاحية، المَعلومة. فلما وطأ خيالُ الخانم هذا الاسم، " الضاحية "، فلم يكن من عقلها المُتيقظ بعدُ سوى رفدها بفكرة أكثر جدّة: لِمَ لا ترسلُ في مهمة سرية مرافقتها بالذات، بهدف الاجتماع بوالدة " الشريفة "..؟ يُقال، أنها باتت مفتقرة وبأمس الحاجة لمال يقيم أودها علاوة على ثمن أفيونها. لم يكن الأمرُ هذه المرة يتعلق بالطفلة الصغيرة مباشرةً، وإنما مُداورة: فلو كان بوسع المرافقة اقناع تلك المرأة بسرقة مخطوطة مذكرات " مسيو غوستاف "، التي تخفيها ابنتها في حرزٍ مكين، لأمكنَ مساومة هذه الأخيرة في موضوع الطفلة!

> مستهلّ الفصل الخامس من رواية " كعبةُ العَماء "




















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى