الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-كلام عيال-.. شهادة على -مجتمع البساطة- الذي كان

محمود عبد الرحيم

2018 / 2 / 28
الادب والفن



"كلام عيال..عن أيامنا الأكثر براءة" كتاب ممتع،بكل تأكيد، ومهم. وبصرف النظر عن تصنيفه إن كان في قالب القصة، المقال، السيرة الذاتية أم بين بين، لكنه في كل الأحوال نصوص جيدة ومتميزة تجمع بين البساطة والعمق في التناول، وبلغة حية مفعمة بالتفاصيل ومحملة بطاقة شعورية قوية، وبسرد يتسم بالتكثيف الشديد ورشاقة العبارة، ولا يخلو من سخرية غير مضجة، تستدعي فينا الحنين للماضي، خاصة زمن الطفولة والمراهقة وتجاربنا الأولى في إدراك العالم المحيط وكنه الأشياء بما في ذلك المشاعر والأحاسيس المختلفة من الخوف إلى الحب، مرورا بالرهبة، علاوة على السذاجة التي نتعامل بها مع كل ما حولنا التي بلا شك هي معلم من معالم الطفولة وبراءتها قبل أن تلوثنا الحوادث والوعي والزمن ونقتحم عالم الكبار بكل ما فيه من صراع وتناحر وقسوة.
وبقدر ما تبدو هذه النصوص عفوية وبسيطة وأقرب ل" الحواديت" الطفولية أو حكايات ذاتية للمؤلف من وقائع تجارب معاشة، إلا أنها في جانب منها، وهذا هو الأهم توثق لمرحلة تاريخية ليست بالبعيدة اجتماعيا أو انثروبولوجيا، فالكاتب كما لو كان يرصد الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لمصر أواخر السبعينات والثمانينات، خاصة نمط الحياة وتقاليدها والعلاقة بين الطبقات المختلفة والظروف المعيشية، وبشكل خاص في الريف المصري الجنوبي ومدنه الصغيرة.
وثمة إشارات على التحول الكبير الذي حل بمصر، وجعلها مجتمعا تترسخ فيه الطبقية والنمط الاستهلاكي الخليجي غير المبرر، عكس ما كان عليه الحال، فالطبقات الميسرة والدنيا كانت قديما تتشارك في نفس الطعام وأنماطه مع فروق ضئيلة، وتسكن متجاورة وتتفاعل مع بعضها البعض بلا توجس ولا استعلاء, وهو ما رصده في حكايته، مثلا، عن طقوس صناعة "الكشك"، وهو نوع من الطعام كان شائعا في صعيد مصر يصنع من القمح واللبن، علاوة على ثقافة الاكتفاء الذاتي في الريف المصري التي كانت جزءا لا يتجزأ من تقاليدها، والاستفادة بكل الموارد المتاحة في توفير الغذاء وتأمينه ليس يوما بيوم ولكن على مدار العام.
ولم ينس الكاتب أن يشير لملامح الثقافة الشعبية الصعيدية منها الثأر وما يرتبط بها من حكايات عن الجن والعفاريت والحواة أو "الرفاعية" أي الرجل الذي وظيفته الأساسية اصطياد الثعابين بتعويذة خاصة وتنظيف البلد منها، الأمر الذي يخضع في جانب منه للخرافة، فضلا عن المسحراتي الذي في مخيلة الطفل شخص من نوع خاص له هيبة خاصة، وليالي رمضان العامرة بكبار قراء القرآن التي يتنافس علية القوم في استئجارهم لأحياء هذه الليالي كنوع من التفاخر وإظهار الورع.
وأيضا، في ثنايا الحكايات يتحدث الكاتب عن "العديدة"، أو "التعديد" وهي جزء من التراث الجنوبي، أي نساء يتم استئجارهن للصريخ والعويل وتعديد مآثر الميت، أو سيدات مشهورات بهذا أو سيدات العائلة، فضلا عن ضرورة المجاملة للأسر بعضها البعض بالصريخ والبكاء الحار وارتداء السواد، مثلما تتم المجاملات تماما في الأفراح بالزغاريد والرقص.
ومن خصوصية ثقافة الصعيد كذلك يشير الكاتب إلى ثقافة امتلاك وحمل السلاح في صعيد مصر، للدرجة التي قام فيها والده مع عدد من أقاربه بالذهاب مسلحين للمدرسة للاقتصاص من المدرس الذي أهان أبنه وعائلته.
وثمة تسليط الضوء على الانحدار الذي لحق بكل مؤسسات الدولة، خاصة التعليمية والثقافية، وما يخص الرعاية الاجتماعية، حيث كان مستوى التعليم أفضل بكثير للدرجة التي يمكن أن يكتفي الطالب بما يحصله في المدرسة، ولا يحتاج للدروس الخصوصية التي كان يتوجه إليها فقط الفاشلون، بالإضافة إلى وجود مسرح مدرسي ومسرح بالوحدات الاجتماعية للقرية جنبا إلى جنب مع حضانة لرعاية الطفل، وهي جزء من بقايا المرحلة الناصرية وانجازاتها الملموسة المتوجهة للمواطن البسيط في القرى والنجوع، التي حل محلها على يد السادات نشر الأفكار الوهابية المتطرفة وتشجيع التيار الديني على التغلغل في المجتمع، وهو ما لفت إليه الكاتب في حديثه عن افتراش الشوارع بحجة الصلاة والكذب والمبالغة في أحاديث قيادات الأخوان لاستقطاب عناصر جديدة مؤيدة والسيطرة عليهم بالعاطفة الدينية، مع خطب الشيخ كشك المتطرفة التي كانت تنتشر وتغزو عقول البسطاء.
وأهم ما حرص الكاتب على التأكيد عليه هو بساطة الحياة والعلاقات والمعاملات بين الناس التي صارت معدومة حاليا، فالعلاقات بين الجيران كانت تحمل كثير من الود والقبول للآخر، لا فرق بين طبقة وأخرى أو بين مسلم ومسيحي، بين مسئول كبير ومواطن عادي، فصاحب البيت الذي يؤجر للطلبة يتساهل معهم بل ويقرضهم إن احتاجوا ويتعامل معهم كأبناء بكرم واحتواء، ومفتش أمن الدولة القاطن في مواجهة سكن الطلبة لم يزعجهم أو ينغص عليهم حياتهم، رغم أنهم كانوا يتصرفون برعونة المراهقين ويخرجون للبلكونة بملابسهم الداخلية أو يعاكسون البنات أسفل العمارة.
فتحية للكاتب الذي أمتعنا كثيرا بحكاياته الصادقة المعبرة عن جيل أو جيلين، ولإقدامه على تدوين كل هذه التفاصيل الحياتية التي تؤرخ لملامح الحياة في القرية المصرية الجنوبية التي للأسف ضاع الكثير منها تحت وطأة التكنولوجيا والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الضخمة التي كانت بمثابة الزلزال الذي هدم الكثير، وغير معالم الإنسان والمكان، وقضى على بساطة المجتمع الذي كان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى