الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تداعيات في وقت الفراغ

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2018 / 3 / 8
كتابات ساخرة


مِنَ الناسِ من يذهب إلى القول بأنه ما من أديب كبير يستطيع الزعم بتوفر وقت الفراغ الكافي لديه لصياغة كل ما يود التعبير عنه ؛ و لو تهيأ مثل هذا الوقت لكل صاحب يراعٍ مكينٍ طوال التاريخ لفاز البشر اليوم بكنوز جديدة تتكفل بمزيد الإثراء للعقل و الوجدان بأعمال ألف من طراز كاتب قصيدة "الثور المسمًّن العظيم " (1) و ملحمة گلگامش و روائع هوميروس و إمرئ القيس و المعري و دانتي و تولستويٍ و نيرودا و ماركيز و الجواهريٍ . فكم من أبناء عبقر خنقت صوته لُجج الحياة حالاً على حال ، فتوسَّد قبرَه قبل أن يَسمع جِرْسَ كلماته سميع . و لسوء الحظ - أو ، ربما ، لسعده - فإن عمر الإنسان قصير : مجرد طرفة عينٍ تمرُّ لحظة متساميةً عبر وقت "فراغ" الأزل الطويل ؛ في حين أن مشاغل الحياة كثيرة و معقدة عند البشر ، أقلها كيفية تزجية وقت الفراغ .
و من الناس من يذهب إلى عكس هذا ، فيقول : " لو أن كبار الكتاب قد كرّسوا نصف الأوقات التي بددوها في مساجلة نقادهم و زوجاتهم ، لتركوا لنا ضعف أعمالهم العظيمة الآن" . آخرون يقولون : "وقت الفراغ طويل ، و هو كالسيف البتّار : إن لم تقطعه ، قطعك . و المرؤ لا يصبح عظيماً بالاستناد إلى ما سيفعله في "وقت فراغه" بالمستقبل الذي قد لا يحل أبداً ، و من يمتلك الموهبة و الدربة لا يعدم اقتناص الوقت المطلوب "لبلورة" اللحظات الفنية للحياة الغنية القاسية في درر سنية بهية . وحده العاجز هو من يعد بالجزيل ، و لا ينجز سوى القليل ، متعللاً بعدم وجود "وقت الفراغ" لديه و هو يرتشف متلذذاً أكواب الشاي في المقهى تلو المقهى . مثل أولئك معتلون بوجود فراغ ذهني ، و ليس عدم وجود وقت للفراغ ."
أما بعض الفلاسفة "المتفرغين" فيقول : "إن الخواء فرع للفراغ ، فليس كل ما هو فارغٌ خاوٍ ، في حين أن كل خاوٍ فارغ ، و العمل هو آفة الخواء ، و هو زاد الحياة و ملحها . وقت الفراغ يبدده العمل النافع ؛ أما فراغ العقل فتبدده تجاريب الحياة . و إذا كان فراغ المعدة يبدده الطعام ، فشتان بين الكافيار بالبراندي و الخبز بالماء . و فراغ الجيوب يسده الدينار ، و إن كانت أغلب الجيوب تحلق طرباُ بأقل الفلاسين ، و جيوب القلة القليلة من الآخرين تتدافع داخل محشرها صناديق الدولارات الحرام التي ما يفتأ متغنِّموها عن التباكي طالبين هبر المزيد لكيلا "يديحون" مع الدائحين المساكين الأشراف ؛ و ما يسلبه البرابير اليوم ، يبدده الطراطير بكرة . أما القلوب الحرة ، فتملأها الدماء الحارة الدافقة بالحب و الإيمان ؛ و لكن يبقى خواء الروح هو أرعب داء ."
فلاسفةُ آخرون يؤكدون اختلاف الناس في تزجية أوقات فراغهم . صحيح أن بعض أطبائنا يمضون أوقات دوامهم و فراغهم بالتحرش بالصغيرات يميناً و شمالاً ، و بلعب القمار و "بالكبسلة" و هم يتندرون على زملائهم الأجدر من نفس الاختصاص – على قاعدة أن المتسول لا يحب غيره من المتسولين الأشطر في نفس الشارع – إلا أن الصحيح أيضاً هو أن كل زعماء الأحزاب الدينچية و القومچية الحاكمة ممن جلبهم المحتل الأمريكي ، سيدهم الأكبر ، من مزابل التاريخ الأغبر إلى عرش العراق يحرِّمون على أنفسهم بكل تقوى صميمية أي وقت للفراغ لكيلا تفوت على أحدهم فرصة سانحة جديدة لسرقة أموال الأحياء و الأموات من أبناء الشعب العراقي المدجن بالطائفية و بالعنصرية ، فيغتنمها غيره قبله ، فيسبق السيف العذل ، و لات ساعة مندم ؛ خصوصاً و أن الدواجن العراقية ما فتأت منذ سبعة آلاف عام تبيض ذهباً لأوليائها ، لكي يسمحوا لها بالاكتفاء بلَقْطِ جيف مزابلهم في النهار و السكوت عن سرقة ذهبهن في الليل . و في الليل الذي يتغنى به مغنّونا – الإناث منهن أطرب من الرجال - يمضي صيارفة القطاع الخاص العراقي أوقات فراغهم في عدِّ تلال رزم النقود للمال الحرام المبيض بكل شرعية قانونية من دولارات الشعب العراقي المهربة للخليج و عَمّان و القاهرة و لندن و نيويورك . أما القضاة و المحامون ، فيمضون وقت فراغهم في الحكم و الطعن و الترافع عن جرائم سريالية وهمية ، مبارزين طواحين الهواء ، و راقصين على الحبال وهم يتفرجون على المجرمين الحقيقيين الطلقاء بين ظهرانيهم ممن يتفاخرون بأفعالهم و يفرِّخون في كل مجال . و على العكس من كل هؤلاء و أولئك ، فإن النباتات لا يتسنى لها التمتع بأي وقت للفراغ لانشغالها بتجهيز الانسان و الحيوان بالأوكسجين و الطعام بالمجان بنكران ذات نبيل و بعدالة و رزانة ملائكية تحسدها عليه ربات الحجال .
و قد يزعم بعض الحكماء أن الفراغ فراغان : فراغُ في المكان ، و آخر في الزمان الذي تتكشف شمس تاريخه على كشف الطالح و الصالح في كل مكان . و يجادلهم آخرون بمقولة نسبيّة الفراغ ، و رحم الله "تورشيللي" و "فراغه المطلق" على هذا و ذاك . و لكن أغلبهم متفقون بأن زمر النحل و النمل تمضي كل أوقات فراغها بالتشييد و التزوّد من زاد الله بعرق الجبين رغم الداء و الأعداء من ملوثي البيئة و العقول في كل مكان . أما "القليل" من النقّاد في شرقنا الحزين الحافل بالمهرجين ، فيتهمهم البعض بتزجية وقت فراغهم في تسميم اللباب السائغ الذي "ركّبته" عقول فذة ، محولين إياه إلى زقّوم ؛ و هذا ما يفسر تواتر إصابتهم هم و الطبّالين لهم بقرح المعدة و الأمعاء ، و صرفهم جل "مكافآتهم" في دكاكين الصيادلة من مروجي الأدوية منتهية الصلاحية التي لا تُنتج إلا للمغفلين و التائهين بلا ولاة غيورين على مصالح شعوبهم . مصائب قوم عند قوم فوائد ، و الكل دائر في دوامة حلقة قذرة "مفرغة" .
و أخيراً ، و ليس آخراً ، فإن إدارة الرئيس الأمريكي الفاسق الفاسد ترَمْب – لم يجد دهاقنة السياسة لامبريالية النار الأمريكية وغداً أسوأ منه يسلمونه دفة الدفاع عن مصالحهم العدوانية – "متفرغة" الآن لملء "الفراغ" الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي بالتبشير بدين شعبوي قديم-جديد يقوم على شعار "أمريكا فوق الجميع" ، مع وجوب "تفرغ كل شعوب العالم لعبادة الدولار" ، و ما شاكل ذلك من "اللغو الفارغ" . و هي تنادي بنظام عالمي جديد – لا يؤازره إلا صغار خدمه من حكام الخليج و الكيان الصهيوني و حلفائهم في مصر و السودان ووو – قائم على تشريع سياسة شن الحروب و التلويح بها في كل مكان ، أو القبول بالانبطاح للنهب الامبريالي الأمريكي لكل شيء . ترَمْب يَهبُر و لا يُهبَر ، هازئاً بثوار العالم الأحرار الثابتين على مقولة "لا" ضد الظلم بشكل أشكاله . و قد يفوتك من الدعاية الفجة لإمبريالية النار الأمريكية "تفريغ" كثير .

(1)
شاعر عراقي سومري مجهول الاسم هو المؤلف – قبل 4000 سنة - لأول قصيدة نقد سياسي مبطن في التاريخ عنوانها " الثور المُسمَّن العظيم" ، ستكون هي موضوعي الآتي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وقت الفراغ
ماجد الشمري ( 2018 / 3 / 9 - 16:54 )
استاذي العزيز ابا نورس تحية حارة/ اننا لانملك الكثير من وقت الفراغ،لان من يملكه حقا هم المتخمون الذين يعيشون على جهد الاخرين.اما نحن الكادحون وكل الفقراء فلانعرف هذا الترف فليس لدينا وقت فراغ للفراغ!فمن يمضي يومه الحقير بعرق الجبين النازف طوال العمر من اجل لقمة عيشه وعائلته هو امتلاء يومه بالعمل دون توقف وفراغه الوحيد هو عندما يلقي بجسده المكدود على فراشه الرث دون احلام هذا هو وقت فراغه..وعلى الجانب الاخر وفيما يتعلق بمن يملك الموهبة والقدرة على الكتابة والابداع فمسألة الفراغ ليست هي المعضلة بل هو التكاسل او تأجيل مشاريع الكتابة او فقدان الحافز او الدافع لانتاج النصوص او الموقف الفكري-الفلسفي من جدوى الكتابة او غياب المعنى او خنق الرغبة في التعبيراو الانحطاط النفسي والنفور من سطر النشاط العقلي بكلمات على الورق او اليأس المحبط والذي يشل اليد عن امساك القلم وتسويد الصفحات او التداعيات الطاردة للرغبة في المساهمة في التغيير وموت الهمة واندحار المغزى ورمادية السريرة واستقالة العقل والوعي كأختيار نهلستي والاستسلام للرتابة وتفاهة اليومي هذاهو مايشكل عائقا وسلبا للابداع الفكري وليس الفراغ


2 - أحسنتم ، كلامكم هو الصحيح ، رفيقي الغالي
حسين علوان حسين ( 2018 / 3 / 9 - 20:33 )
الرفيق العزيز الأستاذ ماجد الشمري الورد
تحية حارة
شرفتموني و آنستموني بمروركم الزكي الغني
كلامكم هو الصحيح .
أما خربشاتي هنا ـ فهي تداعيات ساخرة ، أو لعبة لغوية الوَكَد
(word play)
. و ليست بحثاً علمياً صارما
أتابع بتوق كل ما تكتبون ، و اتطلع لقراءة مزيدكم الجديد .
و على الإخاء و الرفقة نلتقي


3 - لا وقت للفراغ
قاسم علي فنجان ( 2018 / 3 / 9 - 22:30 )
تحية خالصة استاذنا ابا نورس المحترم
اطلالتك تسعدنا في كل وقت وتسعدنا في نفس الوقت
لقد وضعت وقتنا-الفراغي- في مساجلة فلسفية ليس لنا بها قبل ونحن لا نملك الا مزيدا من الاسى والحزن على ما فات وعلى الاتي
وافر تحياتي ودوام الصحة والعافية


4 - حلو تحكي بلسانك و نسماك
حسين علوان حسين ( 2018 / 3 / 10 - 10:17 )
رفيقي العزيز الأستاذ الفاضل قاسم علي فنجان المحترم
ت 3
تحية صميمية
جزيل الشكر على مروركم الكريم الأثير .
عنوان هذا التعليق مستهل (أبو ذية من نوع جديد) يليق بجنابكم الكريم ، تكملته تأتيكم -في الحلقة القادمة- من لقائنا المتجدد و أنتم و الأهل و الأصدقاء بكل خير و عافية .
مع كل المودة و الاعتزاز و التقدير .

اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا