الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 4

دلور ميقري

2018 / 3 / 11
الادب والفن


صباحاً، المحيط مرة أخرى. برزخٌ أزرق، لا يكاد يلوح لناظريه وهوَ في مكانٍ مطوّق بجدران مدخل السقالة ( القلعة البحرية ). كأنما هوَ حضورٌ غائب، يُنيب عنه هديرَ الموج المنقضّ بشراسة القرش على الصخور السوداء المُعمِّرة، المليئة بثقوب الذاكرة. نوائبُ الريح تُلقّم لأعماق اليمّ، بين فترة وأخرى، مركبَ صيدٍ ببدائيته وبؤس عماله. تصل شذراتٌ من الهبوب الصباحيّ إلى موقف البائع الشاب، لتُجَشِمه عناءَ إعادة بعض اللوحات إلى وضعها المعتاد بإزاء الجدار. النورس، المتعجّل دوماً في طيرانه إلى وليمة ما، لا يقل إزعاجاً بعويله، ولا بسماده المهدور فوق هامات الأحياء. مالت الشمس أخيراً نحوَ منحنى الغروب، أزفَ وقتُ لملمة نتاج الرسام العجوز، آخر زوار السقالة غادرت مخلفة وراءها أثراً من آثار إعجاب بائع اللوحات الشاب.
عليه كان أن ينتقل من ضاحية معزولة عن مراكش إلى ضاحية أكثر نأياً عنهما، حتى يُقدّر نعمة كونه شاعراً وغريباً. لم يعُد مُجبراً على المكوث تحت سقف كآبة الرسام العجوز، أقله خلال جلّ ساعات النهار والتي يقضيها مرفرفاً بحريّة طائر نورس فوق شواطئ المدينة. إنها لساعاتٌ من ذهب، باتَ يهبها أيضاً حقَّ ما تستحقه من قدر. شتاءُ " الصويرة " بحدّ ذاته، نعمة للغريب القادم من قارة الصقيع: رياحٌ حارّة تهبّ من جهة الصحارى، محتضنة المدينة بأجنحة الدفء، ترتدّ أمامها تياراتُ المحيط الباردة؛ رطوبة طفيفة، مشحونة بعبق ملوحة البحر وكائناته؛ سُحُبٌ تائهة، ترصّعها الشمسُ بفضّةٍ تُذكّر الأوروبيّ بندف ثلج سماء بلده.. تذكّره، فوق ذلك، بنصاعة أبدان فتياتها ـ كما لو أنها تغريه بالعودة سريعاً إلى حضنٍ أكثر دفئاً، وطيشاً، من ريح صحراوية.
هوَ ذا عائدٌ للمزرعة، وإن يكن متأخراً. تخترقُ الطريقَ الضيّق دراجته النارية، ملقية عينها الوحيدة، المضيئة، الرعبَ في قلوب كائنات العتمة. ولا كذلك العشيقة الطائشة، المطمئنة إلى موعدٍ ليليّ تجترّه يوماً بعد يوم بنفحٍ من فحولة الفتى الغريب وأعطية من عطاياه. هنالك عند السياج الفاصل بين المزرعة والوادي الكبير، غالباً ما تبادلا الحبّ وسط موسيقى الطبيعة الأكثر غموضاً. ما كان ثمة متسعٌ للكلمات في الشفاه الظمأى للقُبل، قَبل أن يُفرِجَ عنها احتكاكُ الأعضاء الأكثر سرّانية.. كلمات، مثقلة بالتنهيدات والآهات، تتلقاها كائنات العتمة في خجلٍ جديرٍ بعذريتها: كان على علم، مع ذلك، أنها تمنحه بدَورها عطايا البدن الكريم، المُختلسة من سريرٍ زوجيّ مهجور. لعلها إذاً رائحة عانة العشيق الآخر، الرطبة بعدُ ( يفكّرُ دونما حاجةٍ لغيرة لا طائل من ورائها )، مَن تفوح من الفرْج المعلن العصيان على سائسه الشرعيّ.

*
انتصبت السيّدة السورية، لتلقي آخر نظراتها على مشهد الحديقة، المحال خضرته إلى لون الغروب القاتم بظلاله الكثيفة. ألوان أخرى، مُصنّعة من مكونات الذاكرة، تمتزجُ تحت بصرها على لوحة المخطوطة مشكلةً ملامحَ مَن كانوا يوماً كائنات حيّة يمتون لحياتها وأحلامها سواءً بسواء. لطالما رأت في مرآة ذاتها صورَهم، بكل ما فيها من الأصالة والزيف، الأمانة والغش، الإخلاص والخيانة، الفضيلة والفحش؛ بكل ما فيهم من صورة مراكش نفسها، المشوشة المتناقضة تناقض تلك القيم وتضادها؛ بكل رغبتهم العارمة أن يدفّعونها ثمنَ أرواحهم المهدورة، التي انصهرت في بوتقة روحها الضائعة.
كاد بصرُها أن يُستدعى من ذلك المشهد، الواقعيّ والمتخيَّل في آنٍ، حينَ اصطدمَ هذه المرة بصورة " فرهاد ". ارتدّت إلى الخلف بحركة عفوية، كمن تفاجأ بأحدهم يتلصصُ على عري جسدها. عمق الشرفة، كان أضيق من أن يحتضنَ قامتها المترنّحة. عادت مستسلمة لموقفها الأول، كي تتلقى إيماءة مُحيية من أسفل. شدّ ما باتت على توتر دائب في الآونة الأخيرة، حتى أن حركة كتلك كانت تفقدها أعصابها: " يا لغباء هؤلاء البشر..! كيفَ بوسعهم تبادل قبلات الترحيب والوداع عشرات المرات في اليوم الواحد؟ "، خاطبته من خلال داخلها وكما لو أنه صُهِرَ فعلاً بمادة المدينة. بيْدَ أنها، ولا ريب، لم تكن تجهل حقيقة أنّ ما ألمّ بها من مشاعر حنق آنية إنما كان صدىً لأصوات ليلة من ليالي زنا تلك المخلوقة عديمة الأخلاق. ربما كان كذلك صدى لأصوات مماثلة، أطلقتها الابنة في محترف الرسم مع عشيق الليالي الخوالي .. مع هذا الشاب المكتئب، الواجم أمام الزهور المتناعسة، متصنّعاً هيئةَ أيّ غيور غبيّ: أليست هيئتها كذلك ( هيَ السيّدة رفيعة المقام )، ما فتأت تستعيدُ مرةً بعدَ مرة، بإصرار وعناد، صورةَ " الشريفة "، في أوان الانتهاء من طيّ مجلّد المذكرات.
" سوسن خانم "، آبت إلى نفسها منحّيةً جانباً كلّ ذكرى. أرسلت قدميها في بطء باتجاه الصالة، غير عابئة أيضاً بانتظار الشاب الآخر. كان من شيمة " آلان " في غالب الأحيان، ألا يغادر مكان عمله بدون حضورها. فكيف، وقد شددت عليه اليومَ بضرورة انتظارها لكي تفضي له بأمرٍ ذي بال: " فإذا كان على يقين من عودتي إلى المكتب، فلأدعه ينتظر قليلاً أو كثيراً! "، أسرّت لنفسها في خفّة وهيَ متألقة الثغر ببسمة غامضة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع