الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الترجمة ونظرية التناسخ

أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية

2018 / 3 / 31
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عندما مارست الترجمة، من الإنجليزية إلى العربية والعكس، ومع الاختلافات الكثيرة بين هذين النظامين اللغويين، تذكرت نظرية فلسفية تعرف بنظرية التناسخ Metempsychosis . قد يبدو من الغريب أن يكون هناك أي وجه للشبه بين الترجمة ونظرية التناسخ، لكن هذا التشابه هو الذي لمح في ذهني. إن الترجمة تشبه تناسخ النفس، وخاصة بالصيغة التي نجدها في الصفحات الأخيرة من كتاب ابن رشد "تهافت التهافت"؛ نعم، ابن رشد يتبنى هذه النظرية، وأنا أعرف جيداً أن هذه مفاجأة للكثيرين.
وإليكم أولاً أوجه التشابه بين نظرية التناسخ والترجمة. تنص نظرية التناسخ على أن البدن عندما يموت، تنتقل النفس إلى بدن، وبعد موت هذا البدن الثاني، فهي، في بعض المذاهب، إما أن تعود للاتحاد بنفس كلية تسري في العالم كله، أو روح العالم Anima Mundi، أو تعود للاتحاد بالإله الذي هو نفس العالم في نظريات التناسخ. الملاحظ أن نظرية التناسخ تؤمن بالبعث وبخلود النفس، لكن البعث لديها ليس بعثاً للنفس داخل نفس البدن الذي كانت فيه، بل بعثاً لها في بدن آخر. وهذا هو ما عبر عنه ابن رشد بمنتهى الدقة. كان الغزالي قد اتهم الفلاسفة بأنهم ينكرون البعث الجسدي ولا يعترفون بأن النفوس سوف تُرد إلى الأبدان. وفي دفاع ابن رشد، يقول بإمكان عودة النفوس إلى أجسام أخرى شبيهة بالأجسام التي ماتت، لا إلى الأجسام التي ماتت، لأن الجسم الذي يموت يتلاشى وينتهي إلى العدم ولا يمكن عودته مرة أخرى، وبالتالي فالأجسام التي ستعود النفوس إليها هي مثل أجسامنا هذه، لا أجسامنا ذاتها. وهذه هي نظرية التناسخ بعينها: سوف تعود النفوس إلى أجسام أخرى. يقول ابن رشد: "ولا بد في معاندتهم [معاندة منكري بعث الأجسام] ... أن يوضع أن [الأجسام] التي تعود هي أمثال هذه الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا هي بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عُدِم، لا لعين ما عُدِم... ولذلك لا يصح القول... بأن الأجسام التي تعاد هي التي تُعدَم...". (ابن رشد، تهافت التهافت، نشرة الجابري، ص 557 – 558). النفوس إذن ستعود إلى أجسام مثل أجسامنا، لا إلى أجسامنا ذاتها، وهذه هي نظرية التناسخ يتبناها ابن رشد.
هذه النظرية تتشابه مع فعل الترجمة ومع نتاج الترجمة. النص عبارة عن لفظ ومعنى: اللفظ اللغوي هو مثل الجسد، والمعنى الذي يحويه اللفظ هو مثل النفس. والترجمة هي نقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى، وهي مثل انتقال النفس من جسد لآخر في نظرية التناسخ، فالمعنى ينتقل من جسد لغوي إلى جسد آخر. هذا الانتقال ليس مجرد ترجمة حرفية، بل هو تجسد جديد للمعنى داخل نسق لغوي، أي جسد لغوي، مختلف. والذي يمارس الترجمة يعرف أنها تنطوي على إعادة صياغة للمعنى بمنطق اللغة التي تتم الترجمة إليها، وهي أشبه بإعادة تأليف، فالمعنى يجب أن يكون مفهوماً داخل اللغة المترجم إليها، ولذلك يجب تغيير تركيب الجملة وتغيير ترتيبها كي تجعل النص المترجم مفهوماً بلغته هو. الترجمة إذن تتضمن إماتة للنص الأصلي في لغته الأصلية، أي قتله حرفياً، لإعادة إحيائه مرة أخرى داخل جسد لغوي آخر. الترجمة هي تناسخ روح النص الأصلي، أي معناه، وتحوله إلى نص آخر بلغة أخرى: Metamorphosis. يقول ابن رشد في النص السابق باستحالة عودة النفس للجسد نفسه الذي مات، والترجمة أيضاً يستحيل أن تحافظ على التركيب اللغوي للجملة في اللغة الأصلية للنص، لأن اللغة المترجم إليها لديها تركيباتها اللغوية الخاصة بها. يقال إن الترجمة خيانة، وهذا صحيح، فهي خيانة للنص الأصلي لأنها تميته، تفككه لتعيد تركيب وبناء نص جديد يتناسب مع اللغة المترجم إليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمةُ قتلٍ تهز مصر والضحيةُ فيها والقاتل من القُصر.. والنيا


.. طلاب جامعة أكسفورد البريطانية يقاطعون كلمة نانسي بيلوسي برفع




.. استمرار الاعتصامات في الجامعات الأميركية رفضا لحرب غزة


.. مؤتمر صحفي للمستشار الألماني والأمين العام لحلف الناتو




.. حكايتي على العربية | تعلموا صناعة الأحذية يدوياً على يد آخر