الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مركز البحوث العلمية -9- المقطع الأخير

علي دريوسي

2018 / 4 / 7
الادب والفن


في اليوم الرابع من الأسبوع السادس شعرت بالضجر واِنعدام الفرح والفرج يحفران لي قبراً في حلب. حسمت أمري وذهبت إلى مبنى الرئاسة حيث مكتب إدارة شؤون الطلبة، قابلت المدير القانوني المحامي خالد، شاب أجلح الرأس عريض البطن والمؤخرة، في منتصف عقده الرابع، تكلّمت معه بشفافيةٍ، عَبَّرت له عمَّا يجول في خاطري، شرحت له ظروفي وحاجتي لأكون مع أهلي ورغبتي بالرحيل من المركز في أسرع وقتٍ، أخبرته بعدم طمانينتي للمستقبل الذي ينتظرني في المركز وقلت له بأنَّني أريد تقديم أوراقي للتعيين في الجامعة حيث مكاني الطبيعي، وبأنَّي قد سئمت الحياة في المركز، وبأنَّ خريجي جامعة حلب وأبنائها هم الأولى بالدراسة في المركز.
وأنهيت الكلام والشكوى بالقول: "أستاذ خالد، باختصارٍ كي لا أطيل عليك، لقد اِتخذت قراري بمغادرة المركز ولست نادماً بتاتاً، ولن تقنعني أية محاولات للعدول عن قراري، ماذا يتوجَّب عليّ فعله؟"
بكل هدوءٍ ووقارٍ نهض السيد خالد من كرسيه وتوجَّه إلى الصندوق في إحدى زوايا مكتبه، أحضر دفتر شيكات، جلس خلف طاولته وسجَّل على صفحةٍ منه مبلغاً كبيراً، كتب بالعربية إثنان وعشرون ألف ليرة سورية فقط لا غير.
قال لي: "هذا راتبك يا أستاذ أحمد لمدة شهر ونصف عندنا في المركز، تفضل هذا حقك".
وأردف: "أين ستحصل على مثل هذا الراتب في مؤسسات ومعامل وجامعات البلد؟ من خلال نجاحك في المركز ستحصد كل شيء، المال والسيارة والجاه والسفر ومتابعة الدراسة في أرقى جامعات العالم الغربي. مستقبلك لدينا مضمون مئة بالمئة، مستقبلك آمن هنا كما حضن النبي إبراهيم، عليك فقط المثابرة والتَّحَلِّي بالصبر. إنظر أو استفسر إن لم تكن تعرف، إلى أين يسافر المعيدون في الجامعات هذه الأيام؟ أنا أقول لك، كلهم يسافرون إلى مصر أو الهند، وفي أحسن الأحوال إلى رومانيا أو روسيا أو أوكرانيا، بالله عليك، هل تستطيع جامعات هذه البلدان المُنهكة أن تقدِّم لنا العلم والمعرفة؟ أنا أُجيبك، لا أظنها قادرة، هذه البلدان وجامعاتها ليست أفضل من بلدنا وجامعاته على الإطلاق. سنعمل كل ما بوسعنا دون كللٍ أو مللٍ على تجاوز جامعاتهم ومعاهدهم في أقرب وقتٍ، إِنَّا مؤمنون
بالطاقات الإبداعية لطلابنا وأعضاء الهيئات التدريسية وبأنَّ مسيرة بناء الوطن مستمرة وبأنَّ تعميق الوَعْي بضرورة التنافس المعرفي معهم هو مشروع وطني لا يجوز تناسيه أو إهماله. أليس كذلك أستاذ أحمد؟".
أجبته: "بالتأكيد، بالعلم وحده ترقى الأمم، وسنصل حتماً إلى غاياتنا وأهدافنا المرسومة في ظل القيادة الحكيمة".
قدّم لي إيصالاً مالياً لقبض المبلغ المذكور، لحظتئذٍ تذكّرت نصيحة الزميل طوني، فقلت له: "لست نادماً على التجربة التي عشتها في هذا المركز، لقد تعلّمت الكثير لديكم، لا طمع لي بالمال، لا أريد صرف الشيك، لن أستلمه، لأنَّني في الحقيقة لا أستحقه، لن أبقى لديكم وأرجو أن تحترموا رغبتي، أريد هويتي الخاصة بي، حريتي بالعودة إلى جامعتي".
عندئذٍ تكلّم المدير معي بكل صراحةٍ وتهديد مُبطّن عن الأخطار والأعباء المالية التي قد تنتظرني إذا ما غادرت المركز بهذه السرعة، وذكَرني بأنَّني قد وقّعت عقداً قانونياً معهم ويجب عليّ أن أحترمه.
قلت له: "لكنني لم أستفد من هذأ العقد بعد ولا أريد شيئاً".
نهض المحامي خالد بالهدوء الذي يتقنه، ودّعني طالباً مني التفكير برويةٍ والعودة إليه في الأسبوع القادم.
*****
في نهاية الأسبوع، في يوم الجمعة فعلت ما فعله قبلي زميلي اِلياس.
لملمت أغراضي البسيطة ووضعتها في حقيبتي الوحيدة، خرجت من الشقة بعد أن أقفلت باب الغرفة، أقفلت الباب الخارجي للمبنى، طلبت تكسي وتوجّهت إلى إدارة المبنى التي كانت تعمل ذلك اليوم حتى منتصف النهار بشكلٍ طوعيٍ، إذ كان موسم العمل الطوعي قد تَفَشَّى في الوطن كالسرطان، سلّمت مفاتيح السكن بشكلٍ رسميّ.
قلت للموظف: "هذه هو مفتاح باب السكن الخارجي وهذا مفتاح غرفتي".
اِستلمها مني أحد الموظفين المحترمين بابتسامةٍ تشجيعيةٍ، أمضى لي إيصالاً باستلامها وأعطاني النسخة الأصلية منه، شكرته مُودّعاً، ثم خرجت أمشي حراً باِتجاه كافيتيريا كلية الهندسة المعمارية، طلبت فنجان قهوة، اِشتريت علبة دخان، أشعلت سيجارة بعد أن كنت قد توقّفت عن التدخين لمدة شهر. دخَّنت بشهيةٍ وأنا أسترجع كل ما حدث معي في الأيام الأخيرة.
بعد حوالي ساعة أوقفت سيارة أجرة ورجوت السائق إيصالي إلى محطة القطار. عندما صعدت عربة القطار المسافر إلى اللاذقية كانت الساعة الواحدة ظهراً.
اِسترخت عضلات جسدي آن اِنطلق القطار وابتسمتُ بحبٍ وأنا أرسم في مخيلتي خطة أتمكّن بها من إقناع أبي حين ألتقيه بأنَّني صرت من المغتربين بعد غيابي عن الضيعة لمدة شهر ونصف في مدينة حلب.
ما زلت أذكر حكاية صديقنا غيث الذي سافر للدراسة في مدينة كييف في أوكراينا. اِتصلت به أمه بعد فترة زمنية قصيرة جداً وأخبرته أنَّ جارهم مختار الضيعة قد أودت به المنيّة، ساعتئذٍ سألها غيث: "من تقصدين يا أمي؟ لا تؤاخذيني، والله نسيت اسمه، ملعونة الغربة".
وحين عاد المغترب غيث بعد حوالي تسعة أشهر إلى ضيعتنا لقضاء إجازة الصيف في المدينة التي وُلِدَ وترعرع فيها حدث أن سألَ أحدَ العَابِرِين: "من فضلك يا أخي، هلاّ دللتني على الطريق باتجاه محطة القطار!؟"
*****
نهاية الفصل الثالث
لمشروع رواية "المذراة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع