الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة الطبعة الأسبانية لكتاب -الثورة المستحيلة-

ياسين الحاج صالح

2018 / 4 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يتجنب هذا الكتاب بقدر كبير التحليلات الجيوسياسية، الرائجة في مقاربة بلدان "الشرق الأوسط" في الأوساط الغربية، الحكومات واليمين القومي واليسار الأنتي امبريالي. هذا لأنه يغيب عن بلداننا، وسورية بخاصة، تناول شؤونها من داخل ومن تحت، والنظر إليها كمجتمعات مركبة حية، كنساء ورجال، كمدن وبلدات وأرياف، كبرجوازية مركزية ذات نفاذ امتيازي إلى الموارد الوطنية، وكمراتب واسعة من جمهور مستباح سياسياً ومفتقر مادياً ومزدرى ثقافياً، كشباب بلا مستقبل يحلم بالهجرة، كنشطاء سياسيين يناضلون في شروط شاقة من أجل حياة سياسية في البلد، كأفقار سياسي عام دفع قطاعات واسعة من السكان إلى التماس السياسة في الدين، كحكم سلالي أبدي مفروض بالعنف ومحارب بنشاط للتغيير والمستقبل، لا يترك للسوريين غير الماضي يقيمون فيه، كنساء محتقرات يغتصبن في المقرات الأمنية وينبذن اجتماعياً وعائلياً، كإغلاق اللداخل الوطني وجعل البلد سجناً كبيراً تديره نخبة مافيوية بالغة الثراء وكلية الحصانة، تعيش مثلما يعيش المليارديرات في الغرب.
وفق التحليلات الرائجة في الغرب ولدى قوى الأمر الواقع لدينا، تبدو مجتمعاتنا، بالأحرى، صناديق مغلقة، وهناك شخص اسمه (فيما يخص سورية) بشار الأسد يمسك بمفتاح صندوقه الخاص، "سورية الأسد"، الذي تقيمه فيه كائنات متماثلة، لا عيون لها ولا وجوه ولا أسماء، يطعمها بشار ويرعاها ويحميها، وهي من جانبها تحب أن يدوم هذا الوضع "إلى الأبد".
يريد الكتاب القول إن في سورية مجتمعاً، إن البلد ليس صندوقاً لا بنية داخلية له، إن للسوريين وجوه وعيون وملامح وأسماء وسير وتورايخ، إن هناك سكان وفقر ومطالبات سياسية، إن لنا تاريخاً في النضال من أجل امتلاك السياسة في بلدنا، وامتلاك بلدنا ذاته. التفكير الجيوسياسي الذي يتكلم على عواصم ورؤساء ومواقع جغرافيا وحروب ودول سيدة... لا يقول أشياء مهمة عن حياتنا وعن حريتنا، لكنه بالفعل يقول أشياء مهمة عن سحقنا وإذلالنا. ليس الجيوسياسي ما يفسر واقع سورية، بالعكس إن بنية سورية، دولة ومجتمعاً، وفي إطار تاريخي يمتد نصف قرن من حكم الأسرة الأسدية، هو ما يسهم في إضاءة وقائع المجال الشرق أوسطي، القائم على تجريد الدول المحلية للسكان من السياسة وتقرير مصيرهم، وعلى تجريد الدول ذاتها من السيادة في المجال الدولي (تعرض وجها سيادياً في الداخل، وجه الاستثناء الأبدي، المميت، ووجها سياسياً حيال الخارج القوي فقط). إغلاق الملعب الداخلي في سورية، ومعاملة السوريين بنهج الحملات التأديبية الاستعمارية، هو من بين أشياء أخرى جعلت بلدان الشرق الأوسط محرومة من دواخل اجتماعية وسياسية حية، ومستعصية تالياً على الديمقراطية.
ليس مرد ذلك هو الدين والثقافة، كما يقول الخطاب الذي يتقاسم مع الخطاب الجيوسياسي شرح المنطقة، أعني الخطاب الثقافوي الذي لا يكف عن الكلام عن إسلام وأصولية وطوائف وشيعة وسنة و"عقلية عربية" و"حضارة إسلامية"، وبقية النفايات الجوهرانية والعنصرية. ليست هويتنا الثقافية المفترضة هي ما تحدد واقعنا التاريخي، إن هذا الواقع هو ما يحدد الهوية الثقافية، هذا كي نتكلم بلغة ماركسية، مشدودة النظر إلى التحت الاجتماعي والاقتصادي للسكان، وليس إلى فوق أثيري كأننا بالونات منفوخة بالهواء. وليس لأننا مسلمون، بلداننا استثناء من الديمقراطية، بل لأن الشرط الاستعماري، المضاد جوهرياً للديمقراطية بطبيعة الحال، مستمر هنا: بفضل الدعم الغربي الأعمى لدولة استعمارية عنصرية مثل إسرائيل، تعامل المنطقة حولها كحقل صيد مباح، ولا تكف عن إبادة الفلسطينيين سياسياً، ثم بفضل وقوع حوض النفط العالمي في دول عائلية قليلة السكان، أدرجت في نظام الأمن القومي الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقت قريب. الاستثناء من الديمقراطية هو ما جعل بلداننا إسلامية، وليس العكس، أعني هو ما جعل من الإسلام إيديولوجية سياسية وحداً للفقر السياسي. دولة الأسديين التي تقوم جوهرياً على فلسطنة السوريين هي استمرار بنيوي لإسرائيل في الشرق الأوسط، وليس عدواً لها إلا من باب بلاغة إيديولوجية بلا رصيد واقعي.
هذا الكتاب الذي كتب نصفه في سورية قبل خروجي منها في خريف 2013 هو وثيقة نضالية، كاتبه منخرط في الصراع ومنحاز جداً، وإن أكن حاولت بقدر المستطاع أن أوفر معطيات وتحليلات تخاطب قارئاً حسن النية ومنفتح الذهن، يريد أن يعرف. لا أطلب من قارئ الأسبانية ولا أتوقع منه أن يسلّم بما أقول، أرجو فقط أن يجد في هذا الكتاب ما يحفز إلى معرفة المزيد عن سورية والسوريين، عن تاريخنا المعاصر وعن صراعنا المخذول من أجل التحرر. لا نختلف في شيء أساسي عن غيرنا. لدينا مشكلات كثيرة، كان يمكن ألا يكون النظام الأسدي أسوأها لولا أنه، طوال جيلين من تاريخه (أطول من حكم فرانكو بأكثر من عشر سنوات سلفاً)، حال بيننا وبين معالجة مشكلاتنا الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والحقوقية. لا نستطيع المبادرة إلى تكنيس شارع أو تنظيف نهر ملوث، أو الاجتماع في بيت خاص للنقاش في شؤون عامة، أو تشكيل جمعية لقراءة الكتب، أو جمعية أخرى لمحاربة الطائفية. وبطبيعة الحال لا نستطيع تشكيل حزب سياسي أو نقابة عاملين في حقل ما أو منظمة حقوقية. لقد كنا عبيداً سياسياً. "سورية الأسد" والنظام الشرق أوسطي، والشرق الأوسط نظام دولي فرعي وليس مجرد إقليم جغرافي، يقومان على العبودية السياسية. وأول التحرر من الاستعمار والنضال ضد الامبريالية هو كسر قيود هذه العبودية. كانت الثورة السورية ثورة عبيد من أجل الحرية وتقرير المصير. وقد حطمت على يد النظام المحلي والنظام الشرق أوسطي، وبمشاركة القوى القائدة في النظام الدولي. التحرر السوري لذلك قضية دولية، وقضية المستقبل.
البداهة تقضي بأن لا حلول محلية لمشكلات عالمية، ولا حلول في الماضي لمشكلات المستقبل. العالم والمستقبل، أو العالم- المستقبل هو المشروع الذي يُقرِبنا من بعض، يوحدنا. سورية المتحررة هناك، في هذا المشروع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ