الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات السرد في رواية (النوتي) لحسن النجار

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2018 / 4 / 17
الادب والفن


تندرج رواية ( النوتي ) للقاص العراقي حسن البحار ضمن أدب الرحلات ، ويمكن تصنيفها أيضاً ضمن روايات السيرة الذاتية فهي من هذا المنظار تروي قصة كاتبها دون مواربة فهي بالتالي رواية مهنة ، إذ أن مؤلفها بحّار مختص , والرواية أيضا عبارة عن جدل بين البحر والأنا من جهة والسيرة الذاتية والسيرة الواقعية من جهة أخرى ، يسير السرد فيها بالتناوب بين الذات بوصفها محورا وبين شطرها الآخر مرة والآخر الواقعي مرة أخرى ، فالذات هنا تنشطر مرتين ؛ مرة إزاء نفسها ومرة أخرى تكون فيها بمواجهة العالم والآخرين وعلى هذا الأساس انبنت الرواية هيكلياً على تسعة فصول كل فصل يتكون من مباحث مرقمة يعقب كل فصل منها مادة بدون ترقيم تحت عنوان : الحياة وغيرها.
والمتأمل في هذه الفصول والمباحث والموضوعات يجد أنها تتناوب على الحديث الواقعي وتوصيف البحر والمراسي والحياة على السفينة مع الزملاء وسلطات البحر وبين الحديث مع نصفه الآخر تارة أو الروي التأملي الذي يتبناه راوٍ عليم تارة ثالثة .
فالرواية - كما مرَّ - تتكون من مستويين أساسيين ؛ الأول ذاتي خالص والآخر واقعي حياتي ، وبالمستوى الأول تبدأ الرواية حيث يشعر القارئ أن الذات أو الأنا تنشطر على نفسها حتى يكون القارئ أمام ذاتين واضحتي المعالم .
لكن المحصلة التي يخرج بها القارئ بالتأكيد تتمثل في أن الكاتب في رواية النوتي يروي سيرته بكل ما فيها ؛ سيرته بوصف ذاتاً واعية ومثقفة أولاً، وسيرته بوصفه بحاراً محترفاً ثانية ، وكل ذلك يرويه بلغة فيها من الفلسفة والشعر الشيء الكثير ، فالقلق ظل يلازمه طيلة الرواية ، والقلق هنا وجودي فمنذ أن جاء إلى الدنيا استقبلها ببكاء ، وفي السادسة من عمره سمع وشوشةً رافقته في المنام أصوات تعلو ولا تهدأ ، يستحيل تجاهلها ، لا يتيح له التواصل مع الآخرين ، فقد سقط مريضاً .
شعر بأن ذاته غير محببة تسأله كل مرة ؛ تظهر له من الباب والجدران والمرآة كان يعطي لصوته الذي يتكرر في رأسه حجما أكبر مما يستحق لكنه خلسة يأسره بعبارات من كتب الفلسفة أو يقرأ له نصا كان قد كتبه في لحظات هدوء .
لقد سمعه ذات مرة يحدثه بنبرة صوته نفسها عن مكاسب العيش شريطة أن يكون الإنسان وحيداً (( تصورتني غريباً بعض الشي منعزلاً عن التواصل مع الآخرين ، ولكن خطوة بعد خطوة كان يقربني عن كل ما هو طبيعي ومتاح )) ص١٥.
يبدو له أنه يشبهه (( يا للغرابة ، يشبهني في جسارته ، إلا أنه يشل تفكيري في نبرة الصوت هاته التي أعياني بها ، يدهشني في قدراته الغريبة على الظهور والاختباء فجأة أرغب بقتله ، فكرت كثيراً ؛ إنه يسيطر عليه تماماً ،سيقتلني هو ذا الاحساس نفسه ينتابني كلما يظهر ، ها هو الآن يظهر أمامي يستحضرني مثل الحلم الخالص البكر الذي ما ت دون ابتسامة تذكر كان صوته الغريب يلازمني فيشعرني بالتعب ، مازال ضجيجه في رأسي يتحرك )) ص١٧.
هنا نجد الراوي يحاول أن يفلسف الأمور ينظر لها بعين الحكيم العاقل فلكل (( حياة مؤثراتها الخاصة في الاهتمام والتعامل مع الموجودات ولا أحد يدرك أسباب هذه المؤثرات بقدر ما تكتشفه تطلعاتنا إلى المستقبل واسئلتنا التي تحتاج إلى أكثر من جواب ؛ الحياة تشبه الإنسان)) ص٢١.
وفي خضم هذه التأملات يظهر (لبيب ) الذي مازال لا يحب ظهور الشيب أنه نظيف الهيئة ، حليق الشارب واللحية واكثر من ذلك شعره المصبوغ بداكن يفصح تمسكه بالحياة , ص٢٧ .
ويعود الراوي للتفلسف من جديد (( نحن الأحياء نبحث عن الأجوبة لسؤالنا الأزلي : لماذا تغدر بنا الحياة ؟ وداع الأب صعب ووداع الأم أصعب ولكن في ضياع الأمن والأمان توقف عندي تسلسل الحياة لهاثي هو الشاهد الوحيد على مرارة أيامي المتتالية بوقع واحد )) ص٢١ .
ثم يقول (( ينتابني شعور العودة إلى الذات ومثل طفل خائف أرفع راسي إلى السماء وأطلق الصوت لأستعيد انتباه الذاكرة أعياها التعب ؛ لم أجد وسيلة أخرى لأواجه عزلتي ؛ الخوف ينتصر )) ص٣٧ .
وبعد ذلك يخبرنا بشيء من حياته ؛ الدخول إلى المدرسة البحرية والتخرج منها ليرافقني لقب البحار .... التحقت بمتن الباخرة صباح أحد أيام الصيف أواخر الثمانينات وأعتقد أني كنت خائفا ... ما الذي سأجده في الباخرة ، كيف يتبخر ما لذي سأراه ، كيف ؟ ومتى ؟ وأين الراحة والطعام ؟ .ص٤١.
فالباخرة سببي الوحيد في الوداع واللقاء ، رأيت موانئ أوربية وافريقية ،عربية وآسيوية .... وبعد أربعة أشهر طلب مني رئيس المهندسين الالتحاق معه بدرجة رقيب ماكينة على باخرة تشبه عروس مزوقة ص٤٥.
يعيش حياة اللهو ويعامل النساء ويعانق الحياة ؛ الفتاة الأوكرانية (سيسينا) نالت منه وأخذت بما وهبته من جمال يتسلل إلى التنفس دون استئذان ... قالت وهي تدفع شعرها إلى الخلف : أنت وسيم , ثم قرصتني من خدي بخفة وانتهت ضاحكة ، جاريْتها في رغبتها فمن غير الممكن رفضها ، فعلت ما فعلت ، رقصت معها وسط الشارع فتشابكت خطواتنا ، قوامها الرشيق يتموج بين يدي , كان جسمها يزداد جمالاً ص٤٩ .
لقد أصبح رحّالاً ، حط في الإسكندرية حيث اللهو والمتعة ، وحيث صدى العناق الطويل الذي أباح لنفسه اقتفاء أثر الأفق الواسع الممتد أكثر من المعتاد .ص٥٣
كان معتداً بنفسه ، مزهوا بوسامته (( أتصورني البطل الوحيد في الخرافة والمؤهل الأول للاستماع بالحب )) ص٤٩ , هناك حيث نجلاء عاملة المطعم حيث فندق (سيسل)...ص٦٧, وفي يوم ما (( فعلت ما لم أفعله في اثنين وعشرين عاماً )) ص٦٧ .
وفي الأهرامات يعاوده الوجد الصوفي ففجأة وبحضور نجلاء والدليل السياحي (( أقف وسط صحراء حارقة يرتفع الغبار من حولي , يحجب عني الرؤية ويثقل الأنفاس ، كنت شبة عار ، ثمة شيء يركض أمامي ، ركزت طويلاً ، لم أستطع رؤيته جيدا حتى قال : انا الآخر , ص٧٤ .
كانت الأصوات تخرج من كل جهات الجدران ، كنت أسمع فحيح أفاعي وعويل ناس تتألم ، شعرت بدخان يتصاعد من رأسي عرفت معنى الخوف )) ص٧٧.
هنا يلاحظ القارئ أن السرد في رواية النوتي يأخذ منحى شعريا لذلك رجحت كفة التأمل على حساب عناصر الروي الأخرى ، وهذا لا يعني تغييب تلك العناصر ، بل زحزحتها عن وظائفها قليلا ، فالحوار صار هنا حواراً مع الذات والأشخاص كانوا محدودي العدد فقد تكفلت الذات الكاتبة باختزال العالم بتأملاتها وتوصيفاتها ، أما العقدة فقد تنازلت عن هرميتها لتصبح عقدة ذات ، وعلى رأي ياسبرز أصبحت نقطة إحراج مفصلية حيث تتأرجح الذات بين طرفي رضاها وسخطها ،عشقها وجنونها ، حب الآخر وحب الذات .
وهكذا يستمر الحديث مع الذات .. وفي الأهرامات أيضا يتحدث مع تمثال الثور هناك ، ومن ثم تخيل أنه يطارده .
وبعد مسيرة في التأملات يضعنا في التاريخ المعاصر حيث المعركة - حرب الخليج - وقتها لم يكن مقتنعا بأسبابها ولا بنتائجها ... يسافر إلى العاصمة للبحث عن عمل ، ثم يجد فرصه للخروج إلى خارج العراق إلى سوريا بمساعدة أشخاص ، وهناك يتعرف إلى سالو .
ويستمر الروي بالتناوب على هذه الوتيرة ، فتارة يسرد التاريخ وأخرى يعاود التأمل أو الحديث مع نصفه الآخر .
يظهر نفسه ملاحاً مثقفاً مسكوناً بحب الفلسفة والكتب وحب الحياة واللهو والنساء والسفر ، يستذكر أبيه وأحلامه الأولى في أن يكون طياراً ، وما أن يفارق ذاته حتى يعود لها مسرعاً ، ليعود إلى سفينته حيث الأصدقاء والجوع والرز واللحم المشوي على متن السفينة تراتشي التي تتعرض لعاصفة هوجاء في إحدى السفرات ثم يتحدث عن الشركة الإماراتية الراعية للسفينة ، فيصل إلى الإمارات ثم يعود إلى الانغماس مع عالم النساء والمتع .
وهكذا يظل يتأرجح بين البحر (سفينته ) وبين ذاته في موانئ الامارات (ميناء الحمرية ) , و(ميناء الشارقة ) (ميناء دبي ) (ميناء خالد ) حيث الأحاديث مع أبي النون وسعد والمهندسين على متن السفينة وحيث نصفه الآخر وحيث كتبه التي يكشف عنها أخيرا , وحيث النساء وهموم العمل .
وأخيراً تقلع الباخرة بعد رسوِّها في موانئ الإمارات وكأن الحياة قد أقلعت من جديد في دوامه لا تنتهي وسط تمنيات تومض لحظة في طريق مستقبل جديد ؛ لحظة يكون البحارة فيها واقفين صفوفا منظمة أمام باب النوتي ينتظرون كتابهم المفضل .
وهكذا هي رحلة الذات حين تتوزع بين البحر وعالمها الداخلي فكلا العالمين من السعة بحيث لا يستوعبه إلا السرد والتأمل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم