الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب المعنى: بروفايل ثائر مهمل!

أحمد ضحية
(Ahmed M.d. Ahmed)

2018 / 4 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حرب المعنى:

بروفايل ثائر مُهْمَلٌ!

أحمد ضحية
_________
"ما ترك رسول الله شيئًا مما صبّه جبريل وميكائيل (عليهما السلام) في صدره إلا قد صبه في صدري"
أبو ذر الغفاري
_________

ثمة شخصيات عظيمة، نذرت حياتها للفقراء، مرت في التاريخ الإنساني، كنسمة صيف عابرة، لم تمكث الا قليلا، فمثلها لا يمكث في حر هذا العالم المشحون بالأنانية والظلم والعسف والاستبداد..
مثلها لا يستطيع الاستمرار في الحياة، محاطا بكل هذا التلوث الذي صنعه الجشعون!
مثل هذه الشخصيات نجدها في كل زمان ومكان، تسعى لخير الإنسان وكرامته. تجسدوا في شخصيات رسل البشرية وانبيائها الدينيين، منذ آدم عليه السلام.. الذين نعرفهم في حكايا الأديان الاربعة، والذين لا نعرفهم..
الذين نسبت رسالاتهم ، الى السماء والذين لم تنسب رسالاتهم إلا لهم، فحملت من الأسماء بالتقادم، ما عرفناه في كريم المعتقدات والديانات المحلية والأعراف والعادات والتقاليد الايجابية!
جميع هؤلاء واولئك، حاولوا إضاءة شمعة في ليل مجتمعاتهم وشعوب هذا العالم حالك الظلمة!..
أنبياء البشرية ورسلها الخيرين كثر، لم تنحصر اهتماماتهم في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، كالحياة والموت والدار الآخرة فقط، إذ أولى غير الدينيين منهم.. أولئك الذين أرادوا لهذه الشمعة أن لا تذوب وتنطفئ وتموت، عناية كبيرة بالمعذبين في الأرض، الفقراء والمهمشون، المستعبدين والمظلومين، فكرسوا جهودهم في معالجة هذه القضايا. كمارتن لوثر، ماركس، غاندي جيفارا، ماو، مانديلا، توماس سانكارا وقرنق، وكثر غيرهم لا يحصون ولا يعدون!.. مروا عابرين لكنهم خلفوا في عبورهم بصمات لا تنمحي، و شكلت أفكارهم ونموذج الحياة التي عاشوها، مصدر إلهام انساني لثورات التحرر، والتحولات الكبرى في الايدلوجيات والأوطان والشعوب عبر جغرافيا العالم الكبير!
من هؤلاء في تاريخنا الإسلامي الصحابي الجليل أبوذر الغفاري (رض) الذي رغم تهميشه، والاهمال المتعمد لأفكاره، الا ان قوة أفكاره وجرأتها ظلت مصدر إلهام لكل الطامحين، في الانعتاق من الجور والاستبداد والفقر!
لطالما فكرت في الكتابة عن أمثال هؤلاء بطريقة مختلفة، ولعل هذا (البروفايل) عن أبوذر الغفاري يكون بمثابة نقطة بداية، لبروفايلات أخرى، تتناول نماذج أسهمت في تشكيل وعينا الانحيازي للفقراء، وحقوقهم وقضاياهم في تاريخنا الإسلامي والسوداني، إنطلاقا من منصة أبوذر الغفاري، كمنصة تأسيسية يليها ما يليها.

١. أبو ذر الغفاري

بانتقال الخليفة العادل الزاهد؛ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رض) إلى الرفيق الاعلى، تكشفت الامبراطورية الوليدة مترامية الأطراف، عن فراغً هائل محتقن بالأزمات الموقوتة!
رغم استمرار الغزو وتدفق الثروات المهولة من فارس والروم ومصر! وكل أنحاء بلدان الغزو!
هيمنت بين العرب فئة قليلة؛ عمادها الأمويون، شكلت قوام الطبقات الغنية؛ التي كرست مقدرات الأمة لنفسها، فكنزت الأموال، وبنت القصور، وعاشت حياة الملوك والأمراء، دون أن تأبه لجموع شعوب الامبراطورية؛ الفقراء والكادحين والمساكين؛ الذين لم يكونوا يجدون ما يقتاتون به!
فخرج هذا الثائر الغفاري، الذي لطالما أحتمى بالصحراء، وعوالمها التي لا تحدها حدود، ومخاطرها التي لا يمكن توقعها! من قلب هذا الفضاء العريض، المشحون بالهواجس والمخاوف والظنون! خرج أبو ذر الغفاري (فارس الصحراء) الذي يعرف سباسبها ووهادها، وصوي سواريها، وعلامات طريقها معرفته بجسده!
خرج هذا الفارس إلى معاقل السلطة والثروة، يغزوها بلسانه خطيبا ومفتيا وراوية للحديث، وهو الذي وضع السلاح منذ زمان بعيد، تنفيذا لوصية حبيبه المصطفى (ص) معتصما بسلاح الكلمة وحدها، يعارض بها السلطان وعلمائه، يغزوهم بها، داكا معاقلهم معقلاً فمعقلاً، ليصبح في أيام معدودات (الراية) نفسها التي التفَّتْ حولها جماهير الفقراء و الكادحون الغفيرة منذ الأزل، في رحلة بحثها المضني عن الحق والعدل والخير!
وكان أينما حل يردد قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
التوبة: ٣٤؛٣٥

ولقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سطوة ورهبة.. معقل الشام حيث معاوية بن أبي سفيان أقوى أمراء الامبراطورية! ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، فيكتب من فوره للخليفة عثمان:
"سيفسد أباذر عليك أهل الشام"
ويجيء رد عثمان:
أخرجه إلينا"
فيصل أبا ذر (المدينة) ويلتقي عثمان، ويجري بينهما حوار طويل، لا يخلو من الترغيب والترهيب، ينتهي بأن يقول أبو ذر لعثمان:
"لا حاجة لي في دنياكم".
فيعزيه علي إبن أبي طالب كرم الله وجهه:

"أن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما احوجهم الى ما منعتهم، وما اغناك عما منعوك… لو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لامنوك"

ويخرج منفيا إلى صحراء "الرَّبَذَة".. تلك الصحراء التي لطالما كرهها، إذ تذكره بحياته أيام صباه حين كان قاطعا لطريق القوافل، ينهبها ليفرقها على الفقراء والمعدمين والمساكين، دون أن يمسي أو يصبح على شيء!
ينفى إلى أكثر الأماكن التي لطالما كرهها، وتمنى نسيانها!.. كأنهم يمعنون في إيذائه وتعذيبه!!
ولد الرجل وهو يحمل بين جوانحه محبة، وتعاطفا كبيرا مع الفقراء (ملح الارض) كأنه كان يتبع خطى المسيح عليه السلام، الذي شبهه حبيبه (ص) به..
"مع أنه كان يعيش في السماء، أخلى نفسه وصار إنسانا وافتقر من أجلنا - ٢ كورنثوس ٩:٨"
منذ طفولته وصباه أدرك أبوذر جوهر فكرة الديانات، في محاربة الظلم والعبودية والفقر، وإقامة العدل وإطلاق الحريات..
هذه القيم التي حاول إقامتها بيده قاطعا لطريق القوافل. وحاول إقامتها بلسانه خطيبا ومفتيا، وهو يرى رقعة الفقر تتسع، واموال الدولة تذهب الى جيوب بطانة السلطان!.. فيغضب وهو الغضوب في الحق والعدل..
العدل الذي لطالما بشرت به الشرائع السابقة للإسلام:
"حماية الفقراء والتخفيف من آلامهم - عاموس؛ ٦:٢" و "أساءوا معاملة البائس والفقير وغَبَنوا الغريب بغير عدل.‏ حزقيال؛ ٢٢:‏٢٩‏"
منذ غابر الأزمان، والقادة الدينيون لم يظهروا اي اعتبار للفقراء والمعوزين.‏ فوصفتهم الديانات بأنهم (محبون للمال)و‏ (يلتهمون بيوت الارامل)،‏ و(لا يهتمون بالمسنين والمعوزين).. لوقا ١٦:‏١٤؛‏ ٢٠:‏٤٧؛‏ متى ١٥:‏​٥،‏ ٦‏)‏
حتى أن السيد المسيح في مثله عن السامري الصالح، اتى على ذكر كاهن ولاوي، رأيا رجلا مجروحا،‏ لكنهما اجتازا في الجانب المقابل من الطريق، بدل أن يتوقفا لمساعدته،‏ لوقا ١٠:‏​٣٠‏٣٧‏"
و تدلّ رواية الارملة الفقيرة ان السيد المسيح لم يتأثر بالهدايا الثمينة التي قدمها الاغنياء،‏ الذين اعطوا (من فضلتهم)،‏ بل بالتبرع الزهيد الذي قدمته الارملة.‏ فما فعلته مسّ قلبه لأنها "من عوزها ألقت كل المعيشة التي لها،‏ لوقا ٢١:‏٤"
وكأن ذلك يقابل تجهيز عثمان (رض) "لجيش العسرة" بنصف ماله، مقابل من تبرع بحفنة تمر من فقراء قريش هي كل ما يملك!
لم يكتفِ السيد المسيح بالشفقة على الفقراء،‏ بل اهتم اهتماما شخصيا بحاجاتهم.‏ فقد كان لديه هو ورسله (صندوق مشترك) يتبرعون منه بالمال لمساعدة المحتاجين في اسرائيل:‏ (‏متى ٢٦:‏​٦‏٩؛‏ يوحنا ١٢:‏​٥‏٨؛‏ ١٣:‏٢٩‏)‏ كما ان المسيح عليه السلام شجَّع الاشخاص، الذين ارادوا اتّباعه على إدراك التزامهم بمساعدة المعوزين.‏ فقال ذات مرة لرئيس شاب:‏ "بِع كل ما عندك ووزِّع على الفقراء،‏ فيكون لك كنز في السموات،‏ وتعال اتبعني"،‏ لوقا ١٨:‏​٢٢،‏ ٢٣‏"
وكما قال يعقوب عليه السلام: "إن كان اخ او اخت عريانَين ويعوزهما قوت يومهما،‏ فقال لهما أحدكم:‏ اذهبا بسلام،‏ استدفئا واشبعا،‏ ولم تعطوهما ضرورات الجسد،‏ فما المنفعة؟‏ يعقوب؛ ٢:‏​١٥،‏ ١٦‏" و "ليقضِ لبائسي الشعب،‏ ويخلص أبناء الفقير،‏ ويسحق الغابِن مزمور ٧٢:‏٤‏"..
كأن أباذر في صحرائه، وهو يترقب قافلة تقترب في الأيام الخوالي، ليسطو عليها.. كان يدرك تعاليم ديانات ربما لم يطلع عليها، تمحورت أفكارها في تحقيق العدل للجميع.‏ ومحاربة الاحتكار والفساد!..
لذا تعاطف مع الفقراء مخاطرا بحياته! لتجد أفكاره سبيلها بعد عشرات السنوات الى (سعيد بن جبير) هذا الثائر الحبشي المنسي، الذي علم العرب والعجم! و الذي يلقى حتفه على يد الحجاج، ككل ثوار زمانه من شيعة لآل البيت وخوارج عليهم!!
وتتسرب أفكاره إلى القرامطة بعد عشرات سنوات أخرى.. تلهمهم بأفكار العدالة الاجتماعية، و يتمكنون من القضاء على الفقر، وتتسع رقعة مؤيديهم الحالمين بمهدي منتظر، يملأ الإمبراطورية التي أنهكها فساد السلاطين وعلمائهم وبطانتهم، عدلا بعد أن ملئت جورا! في حنين يأئس للعهود الزاهرة للخلافة الراشدة!
ظل أبو ذر ملهما حيا وميتا! ككل أنبياء التاريخ الانساني، الذين كتبوا التراث الإنساني البشري بدمائهم الطاهرة!
منذ وعى هذا الرجل الحياة، إلى أن مات، ظلت سيرته تزهر خالدة، في كل وجدان. مكنونة بالمحبة! خلافا لسير آخرين من (أقرانه) لا تذكر اسمائهم ألا وتطاردهم اللعنات! فهو كما وصفه النبي الكريم (ص) شبيها بعيسى بن مريم:‏
‏"يشفق على المسكين والفقير،‏ ويخلّص نفوس الفقراء.‏ من الجور والعنف يفدي نفسهم،‏ ويكرم دمهم في عينيه ‏مزمور ٧٢:‏​١٢‏١٤"
يصير المساكين والفقراء والمظلومين جزءا من عائلة أبو ذر حتى مماته. يعيشون في وجدانه. يراهم أمامه وخلفه ومن حوله، في وحدة وبرد وحر ووحشة الصحراء، التي نفي إليها ظلما! يأتون إليه يسألونه أن يقودهم ثائرا، فيرفض حمل السلاح، بعد أن قرر منذ زمن طويل أن سلاحه الكلمة!
كأن كل تعاليم الديانات السابقة منذ (حنيفية إبراهيم) عليه السلام، تعيش متجاورة بمعارفها، ومتفاعلة بقيمها، في وجدانه الغني..
قال محتجا على صاحبه وحبيبه (ص):
"ذهب أصحاب الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها"
فأطرق صاحبه عليه السلام ثم رفع ينصحه:
"كبر وأحمد وسبح وتشهد تدرك من سبقك ولا يلحقك من خلفك إلا من أخذ بمثل علمك"
ويقول (باب مدينة العلم) علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أن أبا ذر على قدر كبير من العلم، إلا أنه لم يخرجه الى طلابه "ابوذر وعاء مليء علما، أوكى عليه، فلم يخرج منه شيئا حتى قبض"
بعد وفاته وحيدا في صحرائهم القاحلة، اختلفوا في كل شيء أحاط حياته منذ الميلاد، حتى الوفاة؛ حتى اسمه الحقيقي لم يكونوا يعرفونه، من بين الأسماء العديدة التي أطلقوها عليه!
كانت حياته غريبة في بداياتها ونهايتها. فقد ولد ونشأ وترعرع بين قطاع الطرق من قبيلته ومع ذلك كان (متألها) لم يسجد لصنم، في زمن سادته أصنام الحجر والبشر، التي ظل يرفضها الى أن مات!
وظل يفرق ما يحصل عليه من (سطوه) على القوافل على الفقراء والمساكين، وما أن سمع بدعوة النور الذي بدأ يتسرب رويدا رويدا، يبدد حلكة الصحراء دامسة الظلمة، حتى شد رحاله الى مصدر الضوء، ليصبح رابع أربعة أو خامس خمسة، من أركان الإسلام!
أخذ أحد أصفيائه بيده وسأله:
"أصحيح أنك لم تسجد لصنم وكنت تأله قبل انبعاث النور؟"
فرد:
"نعم، لقد رأيتني أقوم عند الشمس؛ فلا أزال مصليًا حتى يؤذيني حرّها، فأخرّ كأني خفاء"
فسأله:
"فأين كنت توجَّه؟"
فرد:
"لا أدري إلا حيث وجهني الحق"
وهكذا ما أن نمى إلى علمه، سيرة النور التي بدأت تتسرب مضارب الصحراء، حتى جد في أثرها يتبع المصدر، ولم يتكتم أمره (كما أمر) بل أعلنها داوية في تجمعات القوم، فضربوه حتى كاد يهلك.
وما أن وصل مضارب قبيلته، حتى تبعه نصفها في الحال، وتبعه بعد حين نصفها الآخر، وقبيلة أخرى تجاورهم بكاملها!
فقد كان الرجل لوحده أمة بكاملها!.. وحده كان أغلبية! عندما كان قاطعا للطريق؛ يغير على القوافل وحده، بمثابة جيش جرار دون خوف أو وجل. وظل دائما وحده حتى التحق بحبيبه المصطفى عليه السلام بعد سنوات طويلة!
يبدو لناظره ممشوقا نحيفا معروقا أسمرا، أبيض الرأس واللحية.عليه جلباب كتان لا يغيره حتى حال لونه.. تعاشره فترى الزهد في ثيابه ومعاشه.. وتستشعر صدق اللهجة وقوتها في كلامه، فهوكما قال عنه حبيبه المصطفى (ص):
"ما أقلت الغبراء ولا اظلت الخضراء من ذي لهجة اصدق وأوفى منك يا شبيه عيسى بن مريم"
في الأيام الخوالي استدعاه الحاكم وخاطبه:
"سنوليك حكم تلك المدينة؛ فماذا تقول؟"
رفع رأسه إلى السماء طويلا ثم أطرق. ونظر بعدها في وجه الحاكم بثبات؛ وقال بصوت قوي:
"لا والله لن تميل علي بدنياك أبدا"
وأراد أن يخرج قبل أن يؤذن له بالانصراف فاصطدم بصديق قديم على الباب أراد معانقته:
"مرحبا يا صديقي.. مرحبا يا اخي"
"ابتعد. عني لم تعد صديقي او اخي"
"هل هم العوازل والوشاة"
"لا بل توليك الإمارة وتطاولك في البنيان، واكتنازك الذهب والفضة! وإني لأعجب من هؤلاء الناس، الذين يأتمرون بأمرك! كيف لايجدون القوت في بيوتهم، ولا يخرجون شاهرين سيوفهم بوجهك"
يرمي ببصره على صحراء (الربذة) مترامية الأطراف، وصوت خليله المصطفى، الذي غيبه الموت منذ سنوات طويلة حيا، لم يمت.. يتسلل كل الاتجاهات، كأنه في حضرته الآن، محاطا بهالة النور الذي ينبثق من وجهه الصبوح، ليملأ فضاء المكان.. يقول له:
لا تغضب وعليك بالتقوى فإنها رأس الأمر كله"
فيطرق رأسه ويقول:
"زدني ياحبيبي وسيدي"
"عليك بالصمت؛ الصمت، الصمت والتأمل والتفكر.. فهو مدخلك لترى فيما حولك أشياء لا ترى"
قال:
"زد صفيك و نديمك يا صاحبي"
"لا تكثر الضحك فإن كثرته تميت القلب؛ وتوخى الحق ولا تخشى لومة لائم"
"والقلب.. القلب يا حبيبي ماذا أنا به فاعل"
"ألجمه ولا تتبع شهواتك.. عليك بنفسك رغم أنفها، و كن للناس مثالا، حتى تلقاني على ما فارقتك عليه؛ فهل تقدر؟"
"أقدر. أقدر يا حبيبي وسيدي"..
كانت زوجته أم زر امرأة سوداء شعثة، ليس عليها أثر المجاسد والخلوق. وهي صحابية وشاعرة وأديبة تزوجها أبو ذر بعد أن أسلم، وفي رواية أنها أسلمت مع أبي ذر في أول الإسلام!
لم يعرف عن أم ذر جمال أو مال أو حسب أو نسب، لكنه رأى جمال وجدانها وحسبه وجمال وروحها ونسبه وغنى عشرتها التي لا تضاهى بثروات الدنيا!.. فقد كان مسكونا بجوهر الأشياء، وما الدنيا بالنسبة له سوى رحلة سفر بين محطتين!..
وبعد سنوات طويلة، وهو على. حاله لم يتغير.. كما هو منذ رأه من رآه أول مرة.. قالوا له:
"ألا تتخذ أرضًا كما اتخذ أقرانك وهم دونك فأنت ركن من الأركان الاربعة، ولو أردت لا يحول دونك شيء؟"
فرد:
"وما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح".
ثم قال:
"كان قوتي على عهد حبيبي صاعًا من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقاه".
قيل:
"يا رسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره"
وكان ابوذرّ (رضي) قد تلوم على بعيره و أخذ متاعه فجعله على ظهره وخرج يتبع رسول الله ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال:
"يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق"
فرد عليه الرسول:
"كن أبا ذَرّ".
فلما تأمله القوم، قالوا:
يا رسول الله، هو (والله) أبو ذَر"
فرد عليهم الرسول:
"رحم الله أبا ذَرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
قال ابوذر:
"سألت رسول الله: هل رأيت ربك؟"
قال:
"نور أنَّى أراه" - أي حجابه نور فكيف أراه؟!
ومر عليه أحد أصحابه القدامى في الصحراء التي اتخذها مقاما له؛ وسأله:
"ما أنزلك منزلك هذا؟"
فقال:
"كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في (معنى):

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه}
التوبة: ٣٤

فقال معاوية:
نزلت في أهل الكتاب"
فقلت:
"نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أنِ اقْدِم المدينة. فقدمتها فكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان... فذاك الذي أنزلني هذا المنزل"
أنه المعنى فكل الحروب حروب معنى!

كولشيستر ٢٥ أبريل ٢٠١٨








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأهب أمني لقوات الاحتلال في مدينة القدس بسبب إحياء اليهود لع


.. بعد دعوة الناطق العسكري باسم -حماس- للتصعيد في الأردن.. جماع




.. تأبين قتلى -وورلد سنترال كيتشن- في كاتدرائية واشنطن


.. تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!




.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي