الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة بين ماضيها ومستقبل مفتوح على اللا حدود

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 5 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من سمات عالم الفكر الفلسفي اليوم هو غياب المفاهيم الكلية للمواضيع العامة، وتنوع ثري في مصادر التفكير الفلسفي وامتداد جوهري لقضايا جديدة لم تألفها الفلسفة القديمة، وإن كانت تعرفها لكن الواقع يشير إلى أن هذه المواضيع الملتصقة بالإنسان أكثر أهمية من دراسة المنهج القديم وأعمق في أثرها الوجودي في حياة وسيرورة الوجود, فلم تعد الفلسفة اليوم تهتم بالوجودية والعقلانية والسفسطة ومقولات أفلاطون ومثالية كذا ومادية كذا, الفلسفة اليوم الهم الأوحد لها مواجهة الانهيار العظيم في القيم الإنسانية الأساسية التي ولدت في أجواء عالم يترنح تحت ضربات الأنا الفتاكة المتشرعنة تحت عنوان الكونية المطلقة الساعية للسيطرة على عقل الإنسان قبل وجودة, صراع الإنسان مع التكنولوجيا فائقة التحسس.
السؤال هنا هل تدرك الفلسفة القديمة هذا المأزق وتنتقل من موقعها الأكاديمي المتعالي نحو واقع بدأ يحاصر الإنسان ويشعره بالاستلاب الذي تمارسه التقنية الحديثة، وتدخلها السافر جدا في أدق مراحل التفكير وإن كان في بعض هذه الجوانب امتيازات لم يكن يحلم بها الإنسان ككائن منتج للمعرفة ومستهلك لها ؟ السؤال الأخر ما هو المتوقع من دور الفلسفة في ألتعاطي مع وظيفة مهمة من وظائفها وهو قيادة الفكر في مرحلة الأزمة ؟.
الذي يدع أن الفلسفة قادرة على أن تنتج حلول متناسبة وجادة وقادرة فيكل مرة على ملء الفراغ بين الواقع وبينها, نقول له أن الانهيارات المتتالية لمفاهيمها ونظرياتها المتتالية تؤكد عجزها عن ذلك وبواقعية شديدة, ظهور العلمنة والحداثة وما بعد الحداثة وعالم النانوية المتفاقمة ليست نظريات فلسفية تشرح لنا الحلول، بقدر ما هي صور لنزعات فلسفية تظهر لتجد في الساحة الفكرية نقيضها وقد ولد ليوحي بنزعة مناقضة، وقد تكون هذه أسبق من وعي الفلسفة الراهنة بها مما يشكل تخلف لها، قد لا يشفع لها أن تكون جديرة بالتعاطي والحلول في نهجها المنظم والمنظر لجوانب النزعة وتحويلها إلى منهج فكري جاد.
أما الاتجاه الأخر الذي لا يرى في الفلسفة إلا المحل الأمثل لدراسة الظاهرة الفكرية أو ما نسميها النزعات وإيجاد الحلول النظرية كمقدمة يطرحا للحوار والجدل الفكري ليستشف منها الحلول, فيرى أن هناك أمل ووقت كاف لدراستها ومن ثم تقديم الحلول المناسبة, وقد فات على هذا الفريق أن التسارع الرهيب لم يعد معه ممكنا السير في هذا الواقع وهذه الرؤية اللا واقعية التي يشهد لها هذا الفيض من الدفق الغير منضبط تحت قانون أو شكل موحد، والمتراكم والمتتالي المفزع بأشكاله وصوره التي صارت سمه من سمات عصر الفضاء المفتوح والمتحرر من كل قواعد الشكل والإطار الكلاسيكي للمعرفة وتوالد الأفكار .
العصور الفلسفية التقليدية إلى ما قبل العصر الراهن كان للفلسفة دور محوري ورافع في الصياغات التمهيدية، وطرح الرؤى الاستباقية والتبشير بالعصر القادم وما يتمخض عنه من ولادات فكرية تجد أسسها في صيغة الفكر والفلسفة السائدة, فهي كانت لا تتعدى النقيض ونقيض النقيض وأحيانا تتلمس أفق متعال قليل عن روح الفلسفة المضطردة في المجتمع .
كثيرا من الفلاسفة والمفكرين كانوا قد تنبؤا بالقادم الفلسفي وما يتمخض عنه ومنه، من خلال قراءة الواقع وليس تنبؤ يعتمد الحدس والخيال الفكري المنقطع عن جذور المرحلة واعتمادا على قياسات فكرية نمطية جادة, أما المشكلة الفلسفية اليوم هي عدم قدرة الفلسفة أن تمارس نفس هذا الدور القيادي والمستكشف إلا من خلال العموميات، دون أن تطرح رؤية تساوق وتساو بين الواقع المتقلب المتسارع وبين قواعدها الصارمة.
المشكلة أذن في الفلسفة ككيان معرفي يتمتع بقدرة رهيبة على الخلق والتجدد والتحول وليس بالواقع المتناقض والمتسارع أيضا, هنا نشهد نوع من التخلف الفلسفي أو لنقل عجز الفلسفة أن تتحرك بنفس الإطار الذي يتحرك به الفكر الإنساني بشقه الأخر العملي، مما ولد شعورا فكريا لدى غالبية طبقة المفكرين والمهتمين بالشأن الفلسفي أن هناك أزمة وأزمة حادة تتمحور حول النقاط التالية :.
• هناك ميل حقيقي لتشبث الفلسفة كدراسة وكفن بالقواعد السلفية والمقولات التي تحاول من خلالها أن تعيد القراءة للواقع, وهذا ما يشكل نوع من التناقض بين حداثة المنتج الفكرية بمعنى كون الفكر الجديد عصراني في الوقت الذي نجد فيه المنهج يتمسك بالماضوية كحدود ينطلق منها، أو بالرؤية والقراءة الماضوية معتمدا على التمسك بالمقولات القديمة, وعجزها عن استنباط قواعد ومقولات أكثر تطورية والأكثر قدرة على فهم إشكالية الزمن الحديث، والذي لم يعد هو ذاك الوصف الذي درسه الفلاسفة التقليديون من قبل, الزمن مفردة فلسفية واحدة من مفردات تتعرى اليوم لتطالب بفهم أخر فهم يتوافق مع تقاليد ومستجدات العصر هذا.
• لم تعد الفلسفة حكرا على نمطية منهجية واحدة تتساوق مع مفردة التخصص في الدراسة والبحث, بل نرى اليوم أن فكرة أن العلوم كلما تعمقت بالتخصص أفرزت علوم أخرى، وبالتالي فالتخصص يعتمد أصلا على فكرة التجزئة, وهذا الحال منطبق على الفلسفة كتخصص, هذه النظرة لم تعد ممكنة ولا مقبولة في ظل أعادة التجميع والتركيب وإن كانت لا بد أن تحتفظ بمنهجها المميز، لكن أن نصنع حدود وفواصل ما بين الفكر عموما والفلسفة خصوصا لا بجدي نفعا ولا ينتج لنا رؤية فلسفية تكاملية .
لقد أصبح مثلا على الفيلسوف أن يمتلك قاعدة عظمى من وسائل البحث ومناهج التفكير ومفردات أسية وأساسية من علوم أخرى, على أن يعتمد في دراسة أي ظاهرة من خلال الرصيد المتراكم من مفردات تتعلق بها الظاهرة من جهة، وبالعلوم التي تنتمي لها من جهة أخرى, هذا الرصيد مقنن ومفروز ومهيأ أصلا ومتوافر بدرجة كبيرة من الحرية, مما يعني أن الفلسفة لم تعد بحاجة إلى التجميع والتراكم المعرفي الذهني والبحث العميق بين المصادر.
فقد حررها هذا الخزين المؤرشف والمنمط والممنهج من إشكالية الربط والتواصل والاختيار، وأتاح لدارس الفلسفة المزيد من الوقت والكثير من الخيارات والمساحة الواسعة والمهمة في أن يبحث بعمق ورؤية أكثر قدرة على الاكتشاف من ذي قبل, هنا صار للفلسفة يد أطول لتناول أكثر المواضيع إشكالية بأقل الجهد وبوسعه هائلة وغير مسبوقة من الوسائل.
• كما لم يعد مجديا أن تبقى الفلسفة تدرس الحال وتمارس وعيها الفكري بعيدا عن الواقع، وعليها مغادرة معراجها الأسطوري وأن تعود للواقع ليس فقط بالطريق الافتراضي بل بحقيقة أن تعي أن حركة المجتمع كثيرا ما تتسارع بالقاع قبل أن تصل حركتها للأفق المنظور, الزمن اليوم يتحرك بقوة في الجزئيات وجزئيات الجزئيات التي في تراكمها من أشياء لا مرئية ولا محسوسة، لتتحول مع التراكم إلى ظواهر ونزعات وخطوط تماس للصراع بين اللحظة واللحظة القادمة.
هذا الصراع اليوم غير محكوم بدراسة جادة ولم تتناوله الفلسفة بالدراسة، أولا كظاهرة جديدة تعلن عن نفسها بالعصر التقني فائق الجزئية والنانوية ولم يسجل له الفكر مثال سابق, كما لا تتناوله الفلسفة بالدراسة كموضوع ذاتي قابل للفحص والفرز والتقرير وإخضاعه لمنطق أو استنباط منطق مناسب ومتناسب معها, هذا المنطق هو الذي يبين لنا اتجاهات التجزئة ومسارات حركة الزمن له, هنا لدينا حاجة وضرورة فكرية وفلسفية أكيدة ومهمة لدراسة ظاهرة الجزئية والتجزؤ.
• حاجة الفلسفة اليوم إلى فضاء من الحرية في أستخدم الوسائل وفي تبسيط استخدامها لتكون أكثر التصاقا بمحل الدراسة, فلم تعد تنفع الرطانة والرصانة الكلاسيكية القديمة والتي تمظهرت بها الفلسفة وأفردت لها مكانة مميزة بين العلوم والفنون والمعارف الإنسانية, هذا القول لا يعني أن تتحول الفلسفة إلى دراسة شعبية ولا تعني أبدا أن نجعلها مادة يمكن تناولها من العامة والخاصة بحد متساو, إنما نعني أن نعطي للفهم الفلسفي مجال للوصول بصورة ما إلى القواعد الفكرية التي كانت ترى فيها ونتيجة لعدم قدرتها على فهم الموضوع الفلسفي المحاط بهالة من الغموض المتعمد والصرامة الجادة في تفخيم وتغريب المصطلحات والمفاهيم على أنها ترف فكري لا جدوى منه, على الفلسفة أن تخاطب الإنسان بلغة ذات وجهين الأول ترتقي به فهما وفكرا وثانيا تشعره أنه جزء من هموم الفلسفة وعليه أن ينتمي لها كما هي منتمية له.
الفلسفة اليوم مهتمة أكثر بدراسة وملاحقة الظواهر والنزعات التي تحكم السيرورة الوجودية في محاولة منها للفهم التام والشامل لها، إلا أنها تصبح على كم أخر من الإشكاليات التي نتجت بالأمس وولدت اليوم، كم أخر من نفس نمطية الإشكالية التي لم تنهي أصلا من دراستها، مما أعيا الكثيرون من ملاحقة ما يجري وسيجري, هنا انكشفت عورة الفلسفة وخاصة في المجتمعات التي لم تصحو بعد من تأثيرات صدمة الحداثة والعولمة وما نتج منها وعنها, وبصورة أقل حدة وإن كانت أكثر تأثيرات في مجتمعات أخرى تجاوزت وانتقلت من هذه المفاهيم إلى موضوع الما بعد.
الفلسفة عليها أنت تنتقل من حيزها القديم ومن مسمياتها وقواعدها وأسسها ومدار الفلك الذي تسير به، إلى مدار الما بعدية إلى ما يسمى مدار الاستشراف والسبق والتنبؤ وفهم حركة الزمن في اللحظة القادمة، وما بعدها والتحرر من لباسها التقليدي وأن تقترب من الإنسان أكثر، وأن تتحول من الصورة الترفية المتزمتة إلى ساحة العمل الفكري الصانع والخالق للظروف والرؤى والنزعات، وسوقها نحو غائية المصير الإنساني أولا والوجودي ثانيا, وأن تنزل في تشابك وتكامل وتضافر مع بقية المجموعة المعرفية لمواجهة الانهيار الفوضوي للقيم والتطلعات الإنسانية الأساسية، والحد من ظاهرة تقنية الشعور الإنساني وفرض العزلة عليه، وللحد الأهم والمهم من نزعة جنون الإنسان الذي يسير بسرعة فائقة نحو المجهول الكوني معتمدا على ما جناه من أساسيات التقنية التي منحته قسطا من الراحة، لكنها سلبته الكثير مما هو أساسي في وجود الإنسان.
هذا القول لا أظنه تشاؤم ولا ميل نحو التغريب الذاتي إنما هو وصف لواقع حال تشترك به الفلسفة كما يشترك به الإنسان المسحوق تحت عجلة الزمن, قد تكون حاجة مجتمعنا اليوم إلى هذه النظرية أكثر وأمس وأعمق من غيرها من المجتمعات، لكن لا ننكر أنها كعموم تبقى هما إنسانيا واحدا, وإنها كتشخيص لواقع الفلسفة لم ندع به لوحدنا بل سبقنا إليه الكثيرون, هناك من نعى الفلسفة أصلا وأعلن موتها وضرورة دفن كل المسميات التي تنتمي لها أو ترتبط بها، وهناك من قال بعدم حاجة المجتمع للفلسفة طالما أن الواقع والزمن هما من يصوغا النظرية، وأن الإنسان مجرد متلق فقط غير قادر على ممارسة تأثيره الخلاق كالسابق, الإنسان اليوم هو ضحية الزمن وضحية التقنية وضحية أخلاقيات ما بعد العولمة وعالم الحداثة وما بعد الحداثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم


.. على رأسها أمريكا.. 18 دولة تدعو للإفراج الفوري عن جميع المحت




.. مستوطنون يقتحمون موقعا أثريا ببلدة سبسطية في مدينة نابلس


.. مراسل الجزيرة: معارك ضارية بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال




.. بعد استقالة -غريط- بسبب تصدير الأسلحة لإسرائيل.. باتيل: نواص