الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاث مشكلات في مفهوم الدولة

ياسين الحاج صالح

2018 / 5 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


للدولة في العالم المعاصر ثلاثة أوجه، وجه اجتماعي ثقافي يحيل إلى أمة أو عرق أو دين، ووجه مؤسسي يتصل بتنظيم المجتمع وتقنين العنف وإدارة الحياة السياسية، ووجه دولي يطل على مجتمع مكون اليوم من نحو مئتي دولة "سيدة"، يفترض أن تنضبط العلاقة بينها بما تقتضيه السيادة من عدم التدخل في الشؤون الداخلية. ويعرض عالم اليوم مشكلات جوهرية على المستويات الثلاثة، تسوغ القول إن الدولة والعالم المكون من دول في أزمة أساسية.

الدولة كهوية
للدولة هوية يغلب أن تتكثف في اسمها، المستمد من اسم شعب أو ثقافة أو عرق، والتزام الدولة المُعرِّف يتمثل في رعاية التطابق بين الاسم والهوية بحيث تبقى ألمانيا ألمانيا وفرنسا فرنسا وإسرائيل إسرائيل والسعودية السعودية وتركية تركية وجمهورية إيران الإسلامية جمهورية إيران الإسلامية، ومصر مصر، وسورية الأسد سورية الأسد، ولبنان لبنان.
مهمة الدول في ألمانيا هي حماية هذه المطابقة رغم تغير التركيبة السكانية. مفهوم الاندماج integration يقضي بأن تعمل على أن تصير ألمانياً كي تكون في ألمانيا، فتتكلم لغة البلد وتطيع قوانينه وتراعي أعرافه، فيما ليس لألمانيا أن تتغير بتغير سكانها. هذا مع أن فرص أن يصير المهاجر ألمانياً تبقى محدودة حتى بعد جيل أو جيلين أو أكثر، وهو واقع وثيق الصلة بعدم استعداد ألمانيا لأن تتغير. مفهوم الاندماج يعلي من شأن الهوية الألمانية، ويقرب من التألمن بالمعنى الثقافي والتألمن بمعنى الانضباط بالقوانين الألمانية (علما أن بعضها متصل بتاريخ البلد الديين والثقافي، ضريبة للكنائس مثلاً)، ويخفض من شأن الوجود الفعلي القائم اليوم.
وتبقى تركيا تركيا بعد أن يصير فيها ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ سورية، وهي تخوض حرباً ضد قطاع من سكانها (الكرد)، وضد حقبة من ماضيها (الإبادة الأرمنية)، كي تبقى تركيا. وترفض إسرائيل أن تكون شيئاً آخر غير دولة الشعب اليهودي، وهو ما يقتضيها سياسة تمييز عنصري نشطة ضد الشعب الفلسطيني، وحرباً مستمرة في مناطق سيطرتها الفلسطينية وفي الجوار. وتعتمد السعودية بقدر كبير على عمالة أجنبية، ولا تستطيع "سَعْودة الوظائف" رغم أن هذا الشعار مرفوع فيها منذ سنوات، لكن غريزة مطابقة الدولة والهوية موجهة نحو إبقاء كل العمالة الأجنبية، وبخاصة من غير بلدان الغرب، مباحة بغير حقوق وبرسم الطرد في أي وقت، مع بقاء الدولة ذاتها ملكاً عائلياً. وهم ما ينطبق أكثر على دول مثل الإمارات التي تعيش فيها العمالة الأجنبية في شروط عبودية، وتقترب منها قطر والكويت والبحرين. ولا تريد جمهورية إيران الإسلامية أن تبقى كذلك دوماً فقط، ولكنها تتطلع إلى أيرنة محيطها بهمة لافتة، وهي حققت تقدمات مهمة على المدى القصير في ذلك.
وليست الإيديولوجية القومية وحدها من تحرس تطابق هوية الدولية، بل الدولة ذاتها بمؤسساتها التعليمية والقانونية، وبحدودها، وباسمها.
وفي جميع هذه الأمثلة وغيرها توفر الدول تماهيات أقوى لبعض سكانها بالذات بالدولة، فيما يشعر غيرهم بدرجات متفاوتة من الغربة. المواطنة القانونية لا تكفل تكافؤ التماهي بالدولة. في المانيا يتماهى الألمان إثنياً أكثر من غيرهم، قياساً إلى قدامى المهاجرين من الحائزين على الجنسية الألمانية. وفي تركيا يتماهى بالدولة الترك إثنياً، والمسلمون ديناً والسنيون مذهبياً. هذا يستبعد الكرد والعلويين وغيرهم. أتكلم على تمييز ينبع من وعي الدولة الذاتي إن جاز التعبير، أو من تعريفها لنفسها. وسورية الأسد هي الدولة التي تقوم جوهرياً على تماه تفاضلي للسكان بدولة سورية الأسد، وليس بحال بسورية (ليس هناك سورية غير سورية الأسد إلا أن تكون بلد اللاأحد)، وهي تخوض حرباً قتل فيها سلفاً أكثر من نصف مليون، وتهجر سلفاً أكثر من نصف السكان، ونصف النصف إلى خارج البلد، من أجل أن تصون المطابقة بين الدولة والسلالة. ربما يقال إن هذا لا ينبع من مفهوم الدولة بالذات، صحيح، لكن ليس مفهوم الدولة ما يحول دونه، وبخاصة عبر ما يتيحه من تماه تفضلي.
وتصف أميركا نفسها كدولة مهاجرين، لكن سياسات الهجرة الأميركية تضييقية منذ زمن طويل وانتقائية دوماً، وهي من الأقل ترحاباً بالمهاجرين اليوم في العالم. شعار الرئيس الأميركي الحالي هو جعل أميركا عظيمة من جديد، وهو شعار تتماهى بها قطاعات من الواسب (البيض الأنكلوسكسون البروتستانت)، وربما من اليهود، وليس عموم "الملونين" من سود وهسبان ومسلمين.
ويبدو أن ما يجمع الدول في هذا الشأن ويقربها من بعضها أقوى مما يفرق بينها: الدولة كدولة تعمل على المطابقة، على أن تطابق الأشياء ذاتها، على "قيود نفوس" للأفراد وعلى سجلات للعناوين والأملاك، وعلى ثبات العالم واستقرار الأشياء في هوياتها. وأقرب من ذلك، هي جهاز مزود بوظيفة حفاظ على "الأمة"، وهذه قلما تطابق المواطنين، ويغلب أن يكون لها بعد لغوي وثقافي، وربما ديني وجهوي، بارز.
تتعارض هذه الغريزة مع وقائع عالم اليوم من اختلاط ومن تغيرات اجتماعية وثقافية، بحيث تصير الدولة الأمة قوة محافظة واستبعادية أكثر وأكثر. وفي الوقت نفسه لا أحد يعرف ما الذي ينبغي عمله. ثمة تعايش مع الأزمة وإقرار بأنها أزمة. لكن ليس هناك مشروع، للخروج، نحو دولة السكان مثلاً.

الدولة كاحتكار للعنف
المشكلة الثانية تتصل بالدولة كمؤسسة حكم تحتكر للعنف الشرعي، فلا يجوز لغيرها ممارسته في الداخل (العقاب والقمع) أو مع الخارج (الحرب)، لا الدول الأخرى ولا أي فاعلين محليين لم تفوضهم الدولة. هذا يدرج أي عنف تمارسه الدولة ضمن نطاق المتوقع، وبالكاد قد يؤخذ عليه أنه مفرط. وهذا لأنه عنف مفهومي (ينبع من مفهومه الدولة)، مفهوم، عادي، يكفل حقها فيع القانون الدولي. بالمقابل أي عنف مضاد لعنف الدولة هو إما تدخل خارجي منتهك للقانون الدولي، أو هو عنف غير شرعي إجرامي أو إرهابي. على هذا النحو يصير الطريق ممهداً للجينوسايد. معظم الإبادات ارتكبتها دول، واحتمالها كامن دوماً في مفهوم السيادة واحتكار العنف الشرعي. وإقصاء أية مقاومات عنيفة إلى مجال الإرهاب لا ينزع الصفة السياسية لهذه المقاومات فقط، وإنما هو يسهل الإبادة أيضاً. سورية مثال بالغ الوضوح في هذا الشأن.
وهذا واقع متفاقم منذ انتهت الشيوعية ودخل عالم ما بعد حركات التحرر الوطني في الطغيان أو التبعية، وصعدت موجة مكافحة الإرهاب التي لا نعرف مثالاً واحداً لها لم تكن فيه في الوقت نفسه حرباً على الضعفاء. بفعل هذا الواقع يزداد الأقوياء قوة، الدولة حيال المجتمعات، والدول القوية حيال الدول الأضعف. هذا بينما الضعفاء يزدادون ضعفاً، أمام الدول كلها، والضعيفة بين الدول أمام الأقوى منها. وهو ما يشجع على الزبونية اجتماعياً ودولياً، على نحو تعرض سورية مثاله الأقصى أيضاً.
ويشجع هذا الواقع السياسي الذي يقوي الدولة النزعة المحافظة القومية أو الحضارية الساعية وراء التطابق ومطالبة الغريب بالاندماج. الغريب هو الضعيف الذي يزداد ضعفاً أمام كل دولة.
واليوم حيث تمسي الإبادة شرطاً عالمياٌ، على ما يظهر ثيو هورش في كتاب له وشيك الصدور، فإننا نقوض اعتراضنا المحتمل على الإبادة إن لم نؤسسه على الاعتراض على احتكار الدولة المشروع للعنف، والمكفول دولياً.
الدولة كسيادة
وفي المقام الثالث لدينا مجتمع دولي تتوزع القوة والثروة والموارد فيها توزعاً بالغ البعد عن العدالة، لكنه عالم متداخل بقدر كبير، وبعض مشكلاته تفيض من كل جانب على الدولة كمؤسسة حكم كما كهوية تاريخية. أعني مشكلات البيئة وتسخُّن الكوكب، والأمراض، فضلاً عن الإرهاب ذاته والعنصرية، بما في ذلك أبرز أشكالها في عالم اليوم، الإسلاموفوبيا. الواقع أنه لا تكاد تكون ثمة مشكلات في أي من دول عالم اليوم ليست عالمية، من حيث الإطار والاستمرار إن لم يكن من حيث المنشأ كذلك، بما في ذلك مشكلات فشل الدولة. لكن الحلول والمعالجات وطنية غالباً أو حصراً حتى اليوم. وهو ما يؤدي إلى تعارضها وقلة نجوعها.
تفاقم من ذلك "الوطنية المنهجية" التي تأسر أنظارالدارسين في إطار الدولة التي ينتمون ورؤية دينامياتها الداخلية أساساً أو حصراً، فتعطي صورة مضللة أكثر وأكثر عن المشكلات، ولاتفلح في اقتراح معالجات مثمرة.
ويقضي مفهوم السيادة عدم تدخل الدول في شؤون بعضها الداخلية، رغم المجال العالمي المتداخل. ولأن هذا مستحيل عملياً على ما يظهر المثال السوري بجلاء لا مزيد عليه، فإن مبدأ عدم التدخل يستخدم على نحو انتقائي لرفض تدخلات وتقبل تدخلات، وللحيلولة دون تطوير مؤسسات سياسية دولية جديدة تعبر عن واقع التداخل من جهة، وتتدخل شرعياً ضد الشكل الوحشي من السيادة من جهة أخرى.
ولعل من المناسب هنا الكلام على تصور مطلق للدولة هو اليوم عائق كؤود أمام الدمقرطة في الدول كلها وعلى المستوى العالمي. أعني بالدولة المطلقة الدولة الأمة التي تُعلي تصوراً موروثاً للهوية على وجودها الفعلي اليوم؛ الدولة التي تحتكر العنف احتكاراً مفهومياً يجعل العنف الإبادي غير مرئي وكل عنف مضاد إرهاباً، مرئياً جداً بالتالي؛ والدولة السيدة التي لا يجوز التدخل في شؤونها الداخلية في عالم متداخل لم يعد لها فبه داخل غير ما تتسامح به الدول الأقوى. الديمقراطية في أزمة في البلدان التي كانت دولها كمؤسسات حكم أكثر ديمقراطية، وفي العالم الذي تتعطل مؤسساته الدولية بفعل تحكم أوليغارشية محدوة بأهم القرارات فيه، هذا بينما تعرض دول لم تكن ديمقراطية يوماُ استعدادات أبدية وإبادية وحشية.

أزمة الدولة ونظام الدول
ليس هناك ما يشجع على التمسك بهذا البنى المؤسسية والسياسية والقانونية المحابية جوهرياً للأقوياء. ما يمكن أن يكون تحررياً اليوم هو مناهضة غريزة الدولة الأمة نحو مطابقة صورة عن حقيقتها مستمدة من ماض تقل مطابقته لواقع الحال، وفي الوقت نفسه تقييد سيادة الدولة واحتكارها للعنف في اتجاهين: توازنات داخلية سياسية و/أو مسلحة، تحول دون عدوان الدولة على المحكومين ومركز الدولة على أطرافها، وإعادة بناء النظام الدولي حول واقع التداخل العالمي، وعلى مبدأ المسؤولية العالمية، بما يطوى صفحة السيادة والدولة المطلقة، ويشرع لمعاقبة الدول المعتدية على غيرها وعلى محكوميها. يتجاوز هذا الأفق النظام الدولي الحالي الذي يترنح اليوم أمام الأزمة السورية، ولا يبعد أن ينهار في حال تفجر أزمة في بلد أكبر حجماً. وبينما يمكن لمثل ذلك أن يحدث بين عشية وضحاها فإن النظر إلى الماضي الحديث لا يشجع كثيرا على التفاؤل. فلم يتغير النظام الدولي مرتين في القرن العشرين إلا بعد حروب طاحنة تسببت بانهيار نظام سابق، تفوقت إنتاجيته من المشكلات على فاعليته في إنتاج معالجات ناجعة.
لكننا لا نبدو اليوم سائرين حتى نحو حرب كبرى طاحنة، يعقبها نظام دولي أوسع استيعاباُ، بل نحو فوضى عالمية قد تدوم طويلاً. ما يحتمل أنه ينبسط أمامنا اليوم هو أفق من حروب كثيرة مديدة، تعمل على "احتوائها" دول أقوى تنقلب إلى قلاع محصنة. ضرب من إقطاعية محدثة في قرون وسطى جديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لم افهم
سعيد ( 2018 / 5 / 11 - 22:37 )
لم افهم المغزى من المقال كلام عمومي بلا حجج واضحة

اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة