الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بالقراءة تُقاس حضارة الشعوب

فوزى سدره

2018 / 5 / 10
الادب والفن


مضى النهار ومعه ضوضائه وهمومه ، وجاء الليل وسكونه وهدوئه ، وفى الليل تهبط الأفكار والأحلام ، وفى الأحلام ينبسط عالم من الخيال ، خيال عجيب احتار فيه المفسرون ، فلم يعرف أحد بعد من أين يجئ وإلى أين يمضى ، وأحيانا بعض الناس قبل أن يداعب جفونها النوم تجلس مع النفس ، تارة ترضى عنها وتارة توبخها ، ولكن ما أحلى أن تصالحها ، لربما يكون نوما أبديا ليس له استيقاظ ...
وقد اعتدت أن أجلس مع كتبى تُحدثنى وأُحدثها عن الإنسان ومعاناته فى الوجود منذ عصر الحمير وحتى عصر الطائرة والصاروخ ، وسفن تعبر المحيطات والقارات ، ولكن لازالت قضية الإنسان لم تُحلْ ، لأنه لم يطور فكره الحميري القديم مع ما طرأ من إنجازات عبقرية فاقتصر إبداعه على العالم الخارجى ، ولكن داخل نفسه ظل راكدا يعوم فى الأساطير والخرافات وخزعبلات من العصر الحجرى ، قَيدت فكره فلا يستطيع الحراك ، وأصبح عبدا لمعتقدات ليس لها أساس ، فرَكبه الخوف حتى خاف من نفسه كلما نظر إلى مرآته رأى وجهاً آخر غير وجهه .
وبينما هذا الفكر يصول ويجول فى ذهنى وإذا بميكو يقطع حبل أفكارى هامسا فى أذنى باستغراب وتعجب ... أرأيت يا أستاذ أن حوارنا السابق جاء ثقيلا على بعض صدور الناس ؟ وجاء غريبا للبعض الآخر .
قلت : ومن قال لك يا ميكو أن لى أصدقاء بمعناها الحقيقى ، إن طبيعة النفس البشرية هذه الأيام لا يعرف قاموسها هذه المسميات .
قال ميكو : اجعلنى أبدى أسفى على ما آلت اليه أطماعكم التى لغتْ كل مبادئ الإنسانية حتى أنكم تحكون عن المبادئ ولا تعرفون كيف تعيشونها .
قلت : وماذا عنكم يا ميكو ؟
قال : وماذا تقولون عنا ؟
قلت : أسمع حكايات ونوادر عن وفائكم واخلاصكم
وقد قرأت عن واحد منكم اعتاد أن ينتظر صاحبه عند عودته من عمله فكان يذهب لاستقباله يوميا فى محطة القطار ، وجاء يوما لم يرجع فيه صاحبه إلى الأبد فظل الكلب ينتظر أياما ولم يبرح رصيف المحطة حتى مات ، فصُنعَ له تمثالا تخليدا له ولإخلاصه ...
وآخر كان يقطع أكثر من عشرة أميال بينهما نهر يجتازه سباحة للوصول إلى حبيبته ليقضى معها النهار ثم يعود ليلا قاطعا نفس الأميال إلى صاحبه حتى اكتشفه الناس وظلواينتظروه يوميا على الشاطئ الآخر ليروا مدى الإخلاص فى الحب .
هل وجدت يا ميكو حبا كهذا بيننا ؟! ... نحن البشر عندما نرجع لبيوتنا تستقبلنا زوجاتنا وأولادنا ( وبوزهم ممتد أشباراً )
ما علينا يا ميكو ، ولكن ما الذى تستخلصه من غضب البعض وعدم الرضا ؟
قال : أنا لا أريد أن أتدخل فى هذه المسألة ولا أريد أن أذكر أحدا ، ولكننا نتبادل الموضوع بصفة عامة .
قلت : كيف يا ميكو ترى الموضوع من منظور عام ؟
قال : الإنسان بطبيعته لا يحب أن ينتقده أحد لأنه يحب سماع المديح ، كما أنه بطيبعته لا يحب أن يسحب أحد البساط الذى يقف عليه ، ولا يحب لأحد أن تفوق شهرته وأعماله عند الناس أكثر منه ، فيعتبر هذا انتقاصا من قدرته ...
وهنا تؤخذ المواقف وتنشأ الخصومات والحروب .
قلت :لا يا ميكو أنت توسعت فى الموضوع ودخلت فى نواحٍ سفسطائية أخرى
قال ميكو : صحح لى .. فسعة صدرى رحبة ونحن نصمت لنتعلم والعلم بحر ليس له نهاية
قلت : يا ميكو. المشكلة عندما نتكلم أو نكتب أن البعض يظن أن الكلام والكتابة تعنيه شخصيا ، فيضع يده على رأسه وبشعر أن هناك "بطحة " فيتحسسها بيده
قال : وهل أنت كنت تعنى أحدا ؟
قلت : لا . لم أعنِ أحدا أبدا . بل أقصد قضية القراءة .
إن كنا نعذر الإنسان البسيط الذى لم يمنحه الحظ ان يتعود على القراءة منذ الصغر ، أو ربما ظروف حياته المطحونة لا تفسح له وقتا ، أو ربما لغُلوْ أسعار الكتب أو لظروف أخرى .
فهل يمكن أن نعذر من هم أصحاب أقلام أو من له لسان وعظ أو خُطب ، أو من هم قادة أو مصلحون أو أصحاب مهن إنسانية ،فى عدم البحث والقراءة للحاق بالتطور كل فى تخصصه . هذا ما قصدته وعنيته أو من لا يرى إلا نفسه ولا يقرأ إلا من تجود به نفسه ؟ ويكتفى بما ناله من علم ، والعلم يتطور من يوم لآخر فيظلون فى محطات السِبِنْسَة متخلفين عن ركب الحضارة .
قال ميكو : ربما أختلف معك فى هذا . لأنك تتشدد فى مثالياتك وقناعاتك بالأشياء. تَبسط يا أخى . يبسطها الله عليك . فالناس تحتاج إلى البساطة والأخذ بيدها ، لأنها ظُلمت كثيرا ولم تجد من يأخذ بيدها بل وجدت من يكتم أُنفساها .
قلت : دعنى أستريح من يوم كله مشاعر وأراك على خير فيما يطرق على رؤوسنا من أفكار ومشاعر .
تركت ميكو ولكن كتبى لم تتركنى فَخَرجتْ من أدراجها ومن رفوفها تنادينى الواحد تلو الآخر ...
وجدت أنيس منصور يحدثنى . قال عن القراءة ... كنت أشهر قارئ فى زمني . اعتدت أن أقوم مبكرا يوميا من السادسة صباحا وحتى العاشرة أنتقل من كتاب إلى آخر حتى يتفتق ذهنى إلى كتابة مقالى اليومى
" مواقف " الذى أكتبه فى جريدة الأهرام .
قلت : أعرف ذلك يا أستاذ.فَمَنْ فى زماننا يقرأ حتى نصف ساعة ؟
يوميا ؟.. واأسفاه ....
وسمعت صوتا هامسا نافذا قائلا :عند سكون الليل وصمتْ الحركة ، أقوم أنا أبحث وأعيش مع أعظم أدباء العالم وعلمائهم . مع نيتشه وجوتة وفولتير وموليير وجان جاك روسو ، ومعظم الأدباء الروس توليستوى ودستوفسكى ومسكيم جورجى .
*****
هؤلاء علمونى ... تَعلمتُ أن الحياة تبدأ بعد الخمسين والستين من العمر إذا نَشَطنا العقل بالقراءة وهذبنا المشاعر بالتأمل والتجمل .قلت : أنت سلامة موسى الذى عَلمت نجيب محفوظ كيف يغوص فى أعماق الواقع فى الأحياء العشوائية ، ولكن أعظم ما قرأت لك أن الحياة لا تقاس بعمر الإنسان ولا بالسنين ، فليس المهم أن تزيد حياتنا سنين بل تزيد سنينا حياة .
فكم من شباب ينطرح على المقاهى مثل الذُباب السَارح على الأوجه الغير نظيفة مدمرا أحلى سنوات عمره ، فشاخت حياتهم وهم فى عمر الشباب ، وكم من شيوخ فى عمر الشباب والحيوية لأنهم عرفوا كيف تزهوا الأرواح والعقول .
*****
جائزة نوبل للأدب ،أول مصرى يحصل عليها " نجيب محفوظ " يقول : كلما كنت كلما كتبت شيئا لم أكن راضيا عنه مزقته وأقول لنفسى لم يأتِ زمن الكتابة بعد ، فأنت تحتاج أن تقرأ الكثير، وكان يقرأ للكتاب الروس وتأثر كثيرا بأدب دستوفسكى وخصوصا " الأخوة كارامازوف " وصاركاتبا واقعيا يغوص فى أعماق النفس الإنسانية .
*****
ووجدت كتابا ضخما . فقلت من أنت ؟ قال : أنا شكسبير إقرأنى فأُعرفَك كيف تكون خيانة الأصدقاء ، والأحقاد والأطماع والكبرياء والثمن المدفوع من أجل السلطة والشهرة ، ومكايد النساء وغباوتهم .
قلت : أنت على حق . لقد مررت بتجارب كثيرة حتى عرفت هؤلاء وكتبت عنهم . أما أنا فبصماتهم تكوى مشاعرى حتى الآن فلا تُذكرنى . فهم ينتقلون من جيل لآخر ولا يتعلمون .
*****
ثم وجدت رجلا وقورا متواضعا يجلس على حافة أحد الرفوف . فقلت أنا أعرفك . ألست أنت تولستوى؟
قال : أنا من قلت
قلت : أعرفك . كنت رجلا ميسورا عظيما صاحب اقطاعيات وتمتلك من الفلاحين عددا لا بأس به . ما الذى آل بك إلى أن تجلس على كرسى فى إحدى محطات القطارات كرجل مسكين تائه فى غربة أرضية . فأين هى أعمالك العظيمة . الحرب والسلام ، أنا كارينا ، وقصصك العظيمة التى ملأتها بالحِكمْ والمواعظ .
قال : لقد وَزَعت كل أملاكى على الفلاحين الغلابة وأعرف أني سوف أخرج من الدنيا كما جئت . أأخطات عندما أسعدت هؤلاء البؤساء ؟!
قلت : ولكنك أغضبت زوجتك وأولادك حتى أنهم أقاموا دعوى حجر على أموالك بحجة أن الشيخوخة شوهت تصرفاتك كما حُرمت من رضا رجال الدين فى زمنك . حيث أعلنوا أنه كان أولى بك أن تترك ممتلكاتك لهم وهم يقومون بتوزيعها على الفقراء بطريقتهم .
قال : زوجتي لاتشبع وأولادي تركت لهم عصارة فكري وسوف يفتخرون بها هم وأجيالهم ، أما رجال الدين في زمني أعرفهم تماما فهم يهتمون بشراء الاقطاعيات ويبنونها ويزينونها كالمتاحف ويتباهون بها أكثر من اهتمامهم بالفقراء والمساكين ، والفقراء كما هم يزدادون ، والمظلومون لم يجدوا من يضعهم على الطريق ، ولو دخلت معابدنا فى زمنى تجدها خالية تماما ماعدا بضعة عجائز يستعدون للقاء ربهم .
ثم استطرد ...وأنا أرى أن لا نعطى الفقير خبزا ولا كسوة ، فنحن نجعله بهذا كسولا مستعطياً، ولكن إذا أوجدنا له عملا يرتزق منه يشعر بقيمته وإنسانيته ، أو نعطى له جزءا من المال أو قطعة من الأرض يُفلحها فيتعلم كيف يدير مشروعه ونقوم بارشاده .
وقد تقول لى يا أخى وماذا عن المعوقين والمرضى . أقول لك نوفر لهم العلاج ونرشد المعوقين ونؤهلهم للقيام بأى عمل . وقد كان أباؤنا الأولون يعملون بأيديهم ويبيعونمنتجاتهم ويحدثون الناس عن الله والايمان به .
قلت : يا تولستوى كلامك هذا قد لا يُعجب الكثيرون وقد يثقل على صدورهم وقد يتهمونك بالفتنة والتضليل .
قال : أنا لا يعنينى غضب الغاضبين ولا رضا الراضين ، بل يعنينى شئ واحد أن أُحبب نفسى فى حب الغير ، وأنا الآن راضى الضمير مرتاح المنام
قلت : آه يا تولستوى . لن أنسى كلامك الذى يفوق كل العظات فى أن الله يعرف مصلحة الإنسان أكثر مما يعرفها الإنسان ذاته ، وأن العبادة الحقة ليست بتلاوة كلام محفوظ بل بأنات حية تخرج من القلب . فاسترح يا صديقى .
*****
وجاعت روحى إلى غذاء الروح ، فتناولت الطعام الدائم من أعظم الكتب بين كتبى أنه كتاب حديث الله للإنسان ، وقَرأتُ ..إذا أردت أن تصلى فأدخل إلى مخدعك وأغلقه وصل لإلهك الذى فى السماء فهو يعرف مكنونات نيات قلبك وهو يعرف خيرك وماذا تريد .
ففهمت أن الدين هو علاقة شخصية سرية جدا بين الإنسان والله ، فالله يتعامل مع الروح والقلب ولا يهمه المعابد ولا الأعمدة ، بل نبض القلوب الحية والأرواح المسكينة .
وقَرأتُ ..إذا أردت أن تفعل خيرا بمحبة فلا تعرف يمينك من شمالك فالله الذى فى السماء يجازيك ويكافئك .
إلى هذا الحد يا ربى . من يفعل خيرا لا يُعرِفْ يده الشمال ما تفعله اليمين ، فأشفقت على من يخدمون بالتهليل والتضليل والتطبيل بفعل الخير ، وتعلمت كيف تكون العبادة الحقة وكيف يكون فعل الخير والخدمة .
وأخيرا قَرأتُ .. تُقاس حضارة الشعوب وسِعة أفقهم بمدى القراءة التى يقرأونها .
حتى أن قيمة الإنسان تتحدد بمقدار سعة أفقه وتفتح مداركه وكثرة اطلاعه ، والكتب ما هى إلا خبرات من سبقونا وخلاصة تجاربهم فى الحياة .
فما قيمة لإنسان يمتلك أموالا ويحمل عقلاً مظلماً...
فتشوا الكتب لعلكم تجدون فيها حياة . هذه وصية إلهية ....
وهنا أشرق الصباح وتوسلت عينى النوم وقالت إلى يوم جديد تشرق فيه شمس جديدة مع كتبى وأنيس وحدتى " ميكو " وقضايا أخرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع