الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذا ليس غليونا

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2018 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التساؤل الذي طرحناه في البداية، عن ماهية الشيء الذي يضفي على أي إنتاج إنساني صفة "الفن" ما يزال ينتظر الإجابة، نظرا لأن الحلول المطروحة والتي، عالجناها في السابق ليست كافية لتحديد ماهية العمل الفني. وربما يجب إتخاذ طريقة مغايرة للبحث عن هذا العامل السحري اللامرئي، أي البحث في "المادة" ذاتها التي يتجسد ويتموضع فيها العمل الفني، أي "الصورة" بمعناها الواسع image. رغم أن كلمة "صورة" في اللغة العربية ترتبط بالتصور وليس بالخيال الذي هو مجال الصورة، فإننا سنحتفظ بها مؤقتا لتسهيل القراءة وذلك حتى نجد إشتقاقا مناسبا من الخيال والمخيلة والتخيل أو أي كلمة أخرى تتفادى الخلط والبلبلة بين عدة مقولات، ليدل بصورة واضحة على الصورة بمعناها العام. لقد رأينا أن أفلاطون كان ينظر إلى الأعمال الفنية، وبالذات الشعر الملحمي والتراجيديا من منظور الصورة، والتي كانت في نظره تعني المحاكات أو الميميسيس mimèsis - μίμησις، ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلك حين اعتبر الواقع المحسوس ذاته مجرد "صورة" أو نسخة للحقيقة المجردة التي يسميها الصور أو المثل. وكل الفلسفة اليونانية، والفلسفة عموما من أفلاطون إلى شوبنهاور وكانط وهيجل ونيتشة وهوسرل وهايدغر وسارتر، وكل الذين نظروا لفلسفة الجمال من بعدهم يعتبرون العمل الفني "صورة" أولا وقبل كل شيء. وهذا لا يعني أن كل الصور هي أعمال فنية، رغم أن كل الأعمال الفنية تنتمي بالضرورة إلى الصورة المرتبطة بالخيال وليس بالتصور أو بالفكر أو بالإدراك. يقول إفلاطون في الفصل السادس من كتاب "الجمهورية" في تعريفه للصورة : " أسمي "صورة" أولاً الظلال ثم الانعكاسات التي يراها المرء على سطح الماء، أو على سطح الأجسام المعتمة، المصقولة واللامعة وجميع التمثلات من هذا النوع "، وذلك لأنه ربط الصورة بفكرة الإنعكاس، والتي هي إعادة ونسخة تطابق الأصل حسب نظريته عن المحاكاة. أما في العالم الروماني، فإن مفهوم الصورة l imago كان يشير إلى قناع من الشمع يمثل وجه الميت، وكان محصورا في الشخصيات النبيلة التي لها الحق في هذا النوع من الحفاظ الرمزي على شخصية الميت. فالصورة منذ البداية كانت متعلقة بالموت وبمحاولة الحفاظ ولو رمزيا عما هو غائب أو ما هو لم يعد موجودا أو ما لا يوجد أو ما لم يوجد.
في عالمنا المعاصر، تتخذ "الصورة" مكان الصدارة من الناحية الكمية في الإنتاج البشري اللامادي، لا ينافسه ولا يضاهيه في ذلك سوى الإنتاج اللغوي. وإذا أخذنا في الإعتبار أن نسبة كبيرة من الإنتاج اللغوي الغير دلالي والذي لا يؤدي مباشرة مهمة الإتصال أو التواصل الإجتماعي La communication، ينتمي في حقيقة الأمر إلى مجال الصورة والتصوير، مثل الشعر الملحمي والتراجيدي والرواية والقصة والمسرحية والأغاني والأناشيد، وكل ما يمكن تسميته بالتصوير اللغوي إلخ. ورغم غزارة هذا الإنتاج وتنوعه، والتراكم الغريب للملايين والمليارات من الصور، في الجرائد والمجلات والسينما والمسرح والأدب والدعاية، وفي الصناعة والتجارة وكل المجالات الحيوية للمجتمع من تعليم وصحة وسياحة ومواصلات، إلخ، فإن ماهية الصورة ما تزال بدورها غير واضحة ويشوبها الكثير من الغموض والإلتباس. ويمكن تحديد ألصورة ووصفها خارجيا وتصنيف أنواعها المختلفة، فيمكن تقسيمها مثلا إلى الصور الثابتة كالصور الفوتوغرافية والأشرطة المرسومة والرسم التشكيلي عموما والملصقات والإعلانات وكل الصور المطبوعة في الجرائد والمجلات والكتب، ثم الصور المتحركة، وهي تظهر بوضوح في السينما والتلفزيون والفيديو ولكن أيضا في المسرح والرقص والسيرك. ويمكننا أن نلجأ إلى نوع آخر من التصنيف، كأن نقوم بتقسيم الصورة إلى صور مادية، أي صور تحتاج إلى حامل وسند مادي support تتجلى بواسطته وتظهر عليه، وهو ما يوازي الصور الثابتة والمتحركة معا في التقسيم الأول، من اللوحة الزيتية أو البورتريه أو الصورة المجسمة في تمثال أو منحوت في الحجر أو الرخام أو البرونز، إلى الصورة المطبوعة على الشريط أو الصورة الرقمية والتي تظهر على شاشة السينما أو على شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر أو الموبايل. وهذا الحامل يمكن أن يكون الجسد الإنساني ذاته، فمنذ القدم استعمل الإنسان جسده كحامل للرموز والمعاني بواسط الوشم مثلا أو إستعمال أدوات الزينة المختلفة، ولكن أيضا بواسطة خلق صور فنية بواسطة الرقص أو بواسطة المسرح حيث يتقمص الجسد شخصية أخرى مغايرة له في الزمان والمكان. وكل هذه الصور تحتاج إلى الرؤية البصرية للوصول إليها و"رؤيتها"، وهناك أيضا صورا ليست بصرية وإنما صوتية، مثل الموسيقى والشعر وكل ما يتعلق بالراديو والإذاعات المسموعة. وهناك من ناحية أخرى الصور اللامادية، أو الصور الذهنية Les images mentales، وهي صور لا تحتاج إلى سند مادي تظهر عليه خارج الوعي، وبالتالي فإن الوصول إليها لا يمر بواسطة الحواس كالسمع أو البصر، وإنما تتواجد مباشرة بواسطة المخيلة، مثل الأحلام والصور الذهنية المتعددة التي يكونها الإنسان قصدا أو بدون قصد بواسطة الخيال، وهي صور ذاتية خاصة يستحيل نقلها مباشرة ومشاركة الآخرين في تأملها، والحل الوحيد هو وصفها بالكلمات أو بواسطة خلق صور أخرى -مادية- لمحاولة التعبير عنها، وهو ما يقوم به عادة الفنان ليعبر عن أحلامه رؤاه الغامضة. من الواضح أننا نستطيع أن نخلق قائمة كاملة بمختلف أنواع الصور المعروفة في العالم منذ شوفيه ولاسكو وتاسيلي حتى اليوم دون أن نتقدم ولو نصف خطوة في إتجاه معرفة ماهية الصورة. ذلك أن الوصف العلمي التقريري لا يستطيع أن يتجاوز المادة التي يدرسها، ولا يستطيع أن يقفز فوق مكوناتها ليعرف ما بداخلها، وحتى لو فعل فإنه لن يجد سوى المزيد من المادة التي يستطيع أن يصفها إلى ما لانهاية. ذلك أن مشكلة "الصورة" أو ماهيتها لا علاقة لها بالمادة التي تتجلى عليها، وإنما بالوعي الذي أنتجها، الصورة في حقيقتها لا وجود لها في الواقع ولا توجد إلا في الخيال، وهو معنى لوحة "ceci n’est pas une pipe"، للرسام Rene Magritte - رينيه ماغريت، الفنان التشكيلي البلجيكي، والتي تمثل صورة غليون مكتوب تحته باللون الأسود "هذا ليس غليونا". ولا علاقة لهذه اللوحة بفكرة المرئي والمكتوب كما يعتقد بعض المتفلسفين، ذلك أن المكتوب هو أيضا مرئي بالضرورة، إنما القضية هي قضية فلسفية من نوع آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة