الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرَة أُخرى 70

دلور ميقري

2018 / 6 / 6
الادب والفن


1
المسحّر، يعتبر جزءاً من تقاليد شهر رمضان في الشام. مهمته هيَ إيقاظ الناس ليلاً في حارة كبيرة مأهولة بمئات الأسر، مما كان يضطره للحركة السريعة منذ وقتٍ باكر. " رشّو "، كان مسحّر الحارة في أيام طفولتنا. رجل متوسط العمر، قصير القامة نحيلاً. كان يختفي من ذاكرتنا طوال العام، وإلى أن يحلّ شهر رمضان. أحياناً، كنا نرافقه في جولته على بيوت الزقاق، مقدمين له المساعدة في الطرق على الأبواب. حتى إذا جاء العيد، فإننا كنا نتسابق باعتزاز في منحه أعطية أهالينا؛ وهيَ عادةً مبلغ صغير من المال.
ذلك المسحر الطيب، أورث مهمته لشاب من جيرانه وكان في مثل عمرنا تقريباً. كان ذلك في نهاية السبعينات. " ابن ستّي سارة "، لم يكن طبعه شبيهاً بسلفه. إذ بدلاً من طرق العصا على طبلته، فإنه كان يوقعها على الأبواب الحديدية محدثاً ازعاجاً للناس. ابن عمتي، " جمّو "، خرجَ إليه ذات ليلة غاضباً وقال له: " نحن هنا لا نصوم. أحفظ شكل هذا الباب! ". في الليلة التالية مباشرةً، نسي الأخ شكلَ الباب. كان قد ابتعد عن بيت العمة بمقدار عشرة أمتار، حينَ تطايرت الطلقات النارية من فوق رأسه وجعلته يولي الأدبار هارباً مستغيثاً.

2
في الزقاق، لم تكن العائلات تسمح لأولادها أن يسرحوا بعربات الفول والذرة، لأن ذلك يُعتبر من علامات البؤس والوضعية الاجتماعية المتدنية. إلا أن البعض، في المقابل، كان لا يمنع أولاده خلال عطلة الصيف من بيع غزل البنات وأشياء من هذا القبيل، لتأمين مصروفهم وإلهائهم عن الأمور السيئة. ولقد شذ " قربينة " عن هذا الاعتبار، فكان يسرح منذ فترة فتوّته بعربة الذرة صيفاً والفول شتاءً.
" قربينة "، كان يتمركز مع عربة الفول بالقرب من باب مدرستنا الإعدادية. فيجتمع التلامذة حول العربة، قبل الدوام أو بعده. غير أن بعضهم صار يقفز خلال الفرصة من فوق السور، لكي يملأ بطنه بالفول اللذيذ الساخن. فما كان من الموجّه الصارم، " خشّة "، إلا أن هدد بائع الفول بالشرطة إذا لم يبتعد عن المدرسة. فلجأ " قربينة " إلى شقيقي الكبير، الزكَرت، وكانا صديقين عدا عن القرابة بينهما. سار شقيقي في اليوم التالي خلف الموجه، ثم أعترض طريقه لكي يطلب منه كف بلائه عن قريبنا. لما عاد هذا للتهديد بالشرطة، أخرج الزكَرت سكينه الكبّاس وراح يحك به أظافره. هكذا عاد " قربينة " إلى موقعه الاستراتيجي، هناك أمام باب مدرستنا، دونما أي إزعاج أو تهديد.

3
منذ الصغر، كان طبعي يميل إلى الانطواء والكتمان. لما كبرت، ومن خلال قراءاتي النقدية، عرفتُ أن هذا الطبع يميّز الكاتب الأديب. ولكن الأديب ليس كذلك على الورق، بطبيعة الحال. لأن مهمته هي تقديم مادة فنية مستمدة من الواقع، مهما أغرقَ في الخيال والفنتاسيا. من جهتي، نشرتُ حتى الآن أربع سير ذاتية علاوة على ثلاث سيَر للسلالة والحارَة والذاكرة.
في أيام المراهقة، كنتُ كثيراً ما أتجول في المدينة وخصوصاً الحدائق العامة. ذات يوم، رأيتني أهم بدخول حديقة المزرعة وكان الجو مشمساً جميلاً. هناك من مستديرة السور الخارجيّ، ظهرت فتاة برفقة شاب. فما أن وقعت عينها عليّ حتى بادرت إلى الابتعاد عنه، وقد شحبَ لون وجهها. كانت ابنة جيراننا، وشقيقها الكبير صديقي. في ذات اليوم، ما أن عدت للمنزل إلا ووالدتي تستقبلني قائلة أن أم صديقي تريدني لأمر هام. ذهبت إليها، فاستقبلتني بالترحاب وسألتني أن أنصح ابنها بالاهتمام بدراسته وإلى ما هنالك. الطريف، أنني بعد سنة أو أقل، كنت مع نفس الصديق بالقرب من حديقة المزرعة حينَ باغتنا مرأى أبيه عن بعد وهو يتمشى مع امرأة جميلة وأنيقة. قال لي صديقي محرجاً: " إنها موظفة معه في الدائرة، ولا شك أنهما ذاهبان في مهمة! "

4
كنت يوماً مع ابني الصغير في الطريق إلى مدرسته، والطقس كان رائعاً. قبل وصولنا لممر المشاة، مرت فتاة من الجهة الأخرى وحيّتنا بيدها. ألتفت خلفي، فلم يكن هنالك أحد. سألت ابني عنها: " ربما هي أم أحد زملائك؟ ". ولكنه هز رأسه نفياً. عند ممر المشاة، توقفت الفتاة وكانت سمراء جميلة وتبدو أصغر مما توقعت. قمت بتحيتها، فخاطبت هيَ أبني بالسويدية متبسمة: " أنا كنت آنسة متدربة في مدرستكم العام الماضي، ألا تذكرني؟ ". أطرق ابني برأسه، ولم يجبها. سألتها: " أأنت من العراق؟ "
" لا، أنا من تركيا ". وكنا قد قطعنا الطريق، فمضت هي إلى موقف الباص وتابعنا نحن سيرنا في الدرب إلى المدرسة القريبة. قلت لابني: " فتاة جميلة، ما رأيك؟ ". أجابني بالسويدية عابساً: " لا أدري! ". عدت للمناكدة بالقول: " يجب أن تصادق فتاة مثلها، عندما تكبر.. ", فقاطعني منزعجاً: " بابا، قلت لك من قبل مائة مرة، أنني ليست لديّ فتاة ولن يكون ذلك أبداً! "

5
المقهى، كان أثيراً لديّ خلال زياراتي لمراكش وبالأخص بعد الإفطار. كنا ننطلق بالدراجة النارية من منزل حميّ، مجتازين الدروبَ المليئة بالبشر، المتوجهين إلى صلاة التراويح في باحة مسجد " الكتبية " الكبير بوسط المدينة القديمة. نمر من قدام ذلك المسجد، حيث سد الشارع العام بالحواجز، لننعطف باتجاه شارع آخر يفضي بنا إلى حي " غيليز " الراقي. هناك نجتمع في المقهى مع أصدقاء آخرين، في غمرة أصوات الموسيقى ودخان الأركيلة ( الشيشة ). لا نعود من المقهى إلا بعد منتصف الليل بساعة، بعدما يتصلوا بنا من المنزل كي نشاركهم بالعشاء.
في الشام، كنتُ في مراهقتي من عشاق المقهى. إلى أن حصل معي آنذاك موقف مشين، وذلك في مقهى " الكمال " المعروف. دخلتُ متأخراً إلى المقهى لأنضم إلى صديقين من عُمري، كانا قد استهلا بلعب طاولة الزهر. لم يكن ثمة كرسي فارغ، سوى واحد استند إليه أحدهم. كان مهندماً، يضع نظارة شمسية مع أن الوقتَ مساء. طلبتُ منه بلطف الكرسي، وإذا به يجيبني بغلظة: " ألا تراني مستنداً إليه، يا ولد؟! ". بقيتُ أحدق فيه لحظات، ثم ما كان مني إلا أن تركتُ له الكرسي والمقهى معاً.

6
توجهت ذات مساء إلى المحل الشرقيّ لشراء بعض الأشياء، كالنعنع الطازج من أجل الشاي على الطريقة المغربية. كان الوقتُ حارّاً عند ساعة الغسق، وقد ارتسمَ خطٌ ورديّ في الأفق البعيد. فيما كنتُ أسير باتجاه المحل، إذا بعبق الليلك والزيزفون يملأ أنفي ويسلّمني طوال الطريق إلى ذكريات مراكش. ففي رمضان المنصرم، كنتُ هناك في طقس حار جداً في فترات الظهيرة، وكنتُ ألجأ لهذه الحديقة أو تلك. فكم كان منعشاً، حين أرى نفسي كل مرة تحت تينة أو رمانة، تفوح أوراقها وثمارها بالرائحة الحريفة.
وإذاً وصلتُ للمحل الشرقيّ، لأفاجأ بأنه مغلقٌ بسبب اقتراب ساعة الإفطار. إلا أنني انتبهت إلى سيارة بدأت في التحرك من الكراج المخصص للمحل، وفيها وجه مألوف. كان شاباً من كرد العراق، سبقَ أن تحادثت معه أكثر من مرة حول أوضاع بلادنا. أوقف السيارة بكل طيبة، وقال لي: " أتمنى أنك تحمل نقوداً، لأنّ الصندوق مقفل؟ ". ثم نزل ليفتح الدكان، وما لبث أن لبى كل طلباتي. عندما أعطيته المبلغ المطلوب، قال لي مازحاً أنه لا يملك فكّة وسيعطيني الباقي غداً مع الفائدة. فأجبته ضاحكاً: " هما كرونان لا غير، وأنت مسامح بهما لأنني لا أرغب دخولَ النار بتهمة الربا! ".

7
مدخلُ الزقاق، مكانٌ حميم وأليف يحنّ إليه كل من عاشَ في حارة شعبية. حينَ غادرتُ البلد، كانت العمارات الحديثة في زقاقنا تعدّ على أصابع اليد الواحدة. اليوم، وأنا أرى صورة مدخل الزقاق، لا أكاد أتعرّف عليه بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من أعوام الغربة. بل إنّ المنزل الوحيد، الباقيَ على حاله هناك، هوَ منزلنا بالذات؛ المؤسس منذ بداية القرن 19 من قبل جدّ أجدادنا، الذي أعطى اسمه أيضاً للزقاق. فيما أنّ جدّي لأبي، كان زعيم الحارة ( المختار ) في أواخر العهد العثماني وورد اسمه في سجلات الإدارة الفرنسية، المنشورة على النت.
مدخل أيام زمان، كان أحد أماكن طفولتنا الأثيرة. على يمينه ويساره، قبع محلان كأنهما حارسان له. الأول، دكان سمانة لآل علكي آله رشي ثم انتقل لملكية أبو خالد متيني. الثاني، محل الحلاقة للأخوة من آل " نيّو " أقاربنا. في صدر المدخل، كان دكان اللحام ابن عرب مللي؛ وهوَ من زكَرتية الحارة استشهد في الحرب الأهلية اللبنانية ونعته " فتح " كأحد أبطالها في أيلول الأسود. أبو حمو، صاحب الدكان الملتصق بمحل الحلاق، كانت له مواقف طريفة مع جاره، أبو صلاح ايدين، الرجل المعاق والمعتاش على بسطة بسيطة. في أحد الأيام، وكانت أزمة الصواريخ الكوبية المعروفة، هتفَ الجارُ الأول للآخر وهوَ ممسكٌ جهاز راديو ترانزستور: " روس وأمريكا رابو، دُنيا خرابو! " *.

* الروس والأمريكان قاموا على بعضهم، والدنيا ستخرب

8
في الزمن الماضي، كان من النادر مصادفة متسول في الحارة. في المقابل، كان الناس يعطفون على الأشخاص المعاقين عقلياً فيمنحونهم أعطيات من ملابس وطعام. أتذكر امرأة كسيحة، كانت لها غرفة معتمة بإزاء مسجد سعيد باشا. وقد اعتدنا على رؤيتها جالسة هناك عند مدخل غرفتها، خصوصاً في فترة صلاة الجمعة. امرأة أخرى، تدعى " جابرة "، كانت تتنقل بين بعض بيوت الحارة وهيَ تحمل بقجة تضع فيها ما تحصل عليه من صدقات. على عكس الأولى، المتوحدة، كانت هذه المرأة المسنة تتعامل مع نساء الحارة خلال زياراتها لهن كأنها قريبة أو جارة.
على ضفة النهر، المشرفة على موقف حافلات النقل العام، كان من المألوف آنذاك وجود فتاة معاقة عقلياً من الصعب تحديد عمرها. " حياة الدنيا "، هكذا كانوا يسمونها مع أنها غريبة ولا يعرف لها أهل أو أصل. يدها اليسرى كانت مشلولة أيضاً، فيما اليد الأخرى مفتوحة لاستعطاء الناس. كانت فتاة مسكينة، بقيَ اسمها المركب عالقاً في الذاكرة منذ الطفولة. ولا يمكنني نسيان ذلك المشهد المحزن، لما أجتمع فتية منحرفون حول الفتاة يتحرشون بها بأيديهم بينما هيَ تصرخ بكلماتها غير المفهومة. ثم اختفت " حياة الدنيا " يوماً في مكان ما من هذا العالم الظالم، ولم يعُد أحد يأتي على سيرتها منذ ذلك الوقت.

9
شجرة التين، هيَ إحدى ذكريات الطفولة الأكثر إثارة. تقريباً لم تكن تخلو حديقة منزل في الحارة من هذه الشجرة ذات الثمر الشهيّ والأوراق الجميلة، الشبيهة بأصابع اليد. هذه الشبهة، جعلت الرسامين في عصر النهضة يصورون " حواء " تغطي عورتها بورقة تين. أينما كنتَ تتجول في بساتين الحي، كنت تصادف أشجار التين بأنواعه المختلفة. وهيَ مثل التوت؛ كانت تعتبر فاكهة مباركة ومشاعة ( سبيل ).
في حديقة منزلي السابق، هنا في السويد، زرعتُ شجيرة تين في إناء فخاري ضخم. كنتُ أخرجها إلى الشرفة مع بداية الربيع، أستمتع برائحة أوراقها وكذلك شكلها المعيد لذاكرتي مشاهدَ من الطفولة. كانت الشجيرة تبقى هناك حتى نهاية الخريف، حيث تبدأ أوراقها بالتساقط. ذات مرة، جاء أحد الأصدقاء إليّ وكان الوقتُ صيفاً. قال لي وهوَ يلوّح كيسَ نايلون بيده: " أحضرتُ لك مع زوجتي، التي كانت في زيارة للشام، فاكهةً أنت تعشقها! ". وإذا هي كرتونة صغيرة فيها ست حبات من التين الأصفر، الذابل. في اليوم التالي، حين كنتُ في السوبرماركت، إذا بي أرى نفس الكرتونة تباع هناك مع تنزيل كبير لسعرها!

10
في مثل هذه الأيام، يتم جني ثمار المشمش في الشام. في طفولتنا، كنا نبدأ بأكل المشمش وهو أخضر بعد ( أرعون ). ثمة نوعان أساسيان لهذه الفاكهة اللذيذة، القصيرة العمر: المشمش الكلابي، وهو صغير طري. أما النوع الآخر، البلدي، فإنه كبير الحجم قاسي القشرة وبذرته حلوة. لكثرة أشجار المشمش الكلابي، كان المزارعون في الحارة يتسامحون مع الأطفال حينَ يقطفونه. إلا أنهم كانوا يحذروننا من كسر الأغصان، لأنها هشة على عكس الجذوع الضخمة ذات القامات الباسقة.
من بستان العم، كان يأتينا المشمش في سحّارات كبيرة. النوع الكلابي، الوفير، كان يُعدّ كمربى سائل، وأيضاً يصنع منه قمر الدين. النوع البلدي، ولأنه نادر وقشرته صلبة، كان يحضّر كمربى بحجمه الطبيعي دون أن يُهرس. وأتذكّر أيام امتحانات الشهادة الإعدادية، حيث كنا نراقب المزارعين وهم يضعون حصائر تحت أشجار المشمش ثم يهزون جذوعها لتتساقط الثمرات الشهية. العادة آنذاك، جرت أن يتم منح أول قطفة للأولاد الغرباء والمتنزهين وكذلك للمحتاجين. عندما أكون في البيت، أعتدت على تسلق السطح لجلب شيء من عصير المشمش، المعروض ضمن صوانٍ لأشعة الشمس. فيما أنا هناك، يصدى صوت الوالدة في سمعي: " يا ابني، ستصيبك ضربة شمس! ".. أو أحياناً أخرى تحذرني، قائلةً: " المربى ما زال مريئاً، ويمكن أن يسبب لك المغص! "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع