الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معضلة الأديان في تعاطيها مع العقل

جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)

2018 / 6 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


معضلة الأديان في تعاطيها مع العقل
د. جواد بشارة
[email protected]


هل بإمكان العقل البشري ، وتركيبة الدماغ فيه، أن يتوصل وحده، بالتأمل والتساؤل، الوصول إلى الحقيقة وإثبات وجود أو عدم وجود " الله" ؟ الاتجاه الوحيد في الإسلام الذي أضفى السمو على العقل ووضعه في مرتبة أعلى من النص هو " المعتزلة أيام المأمون العباسي. عدا ذلك كان العقل في موضع الشك والاتهام بالقصور في كل الديانات. المسيحية الأورثوذوكسية ، والكاثوليكية، قالت أن التعرف على الله يتم من خلال العقل والذكاء البشري من خلال التأمل في تجليات وإبداعات الخالق والنظر في خلقه ، أي بالتأمل في الطبيعة وأسرارها وعظمتها واكتشاف حقائق العالم الفيزيائي وقوانينه. بعبارة أخرى التأمل في الكون وعملية خلقه، ولكن كيف؟ هل من خلال أسطورة الخلق الرباني على طريقة كن فيكون، كما وردت في سفر التكوين في العهد القديم وكررتها بقية الأديان التوحيدية؟أي قصة خلق الكون في سبعة ايام ومن ثم خلق آدم ومن ضلعه حواء وطرهما من الجنة بعد ارتكابهما فعل الخطيئة الأولى وأكلهما من ثمار الشجرة المحرمة؟ في الفكر المسيحي الطبيعة مخلوقة لكن خالقها غير مخلوق، وهو التراث العبري والمسيحي والإسلامي الذي توافق على هذه المسلمة ويمكن للعقل البشري التوصل إلى هذه المسلمة وتقبلها كحقيقة ثابتة لا تقبل الجدل والنقاش والدحض. هنلك طائفة مسيحية عارضت هذه المسلمة في القرن الرابع عشر على يد الفقيه الثيولوجي الفرانسيسكاني غيوم دأوكام Gillaume d’Occam، الذي قال بأن وجود الله يعزى فقط للإيمان بذلك الوجود إيماناً أعمى ولا دخل للعقل في معرفة العاقل لأن العقل يمكن أن يقود إلى مايخالف ذلك تماماً. أو يفضي إلى نتيجة عكسية كلياً. فليس بوسع العقل البشري بلوغ هذه الدرجة اليقينية المتعلقة بوجود الله فقط من خلال التمعن بالعالم الفيزيائي وتأمل الطبيعة . وهو الموقف الذي تبناه أيضاً مارتن لوثر كينغ عبر معلمه الفيلسوف غابرييل بيل وفيما بعد الفيلسوف إيمانويل كانت. وذريعة هذا التيار هو أن الخطيئة الأولى مست العقل البشري وشوهته وجعلته غير قادر على التفكير السليم في هذه المسألة العويصة والتوصل إلى الحقيقة المطلقة. ولقد لخص مارتن لوثر كينغ هذه الحالة " أن العقل هو بمثابة غانية الشيطان" لأن العقل يعتبر العقيدة والإيمان حالة عبثية غير عقلانية على نحو كلي. وهو موقف مضاد ومناهض لموقف الكنيسة الكاثوليكية التي تمتلك نظريتها الخاصة بخصوص العقل البشري وتثقف أتباعها بأن العقل يوصل حتماً لإثبات وجود الله. وهذا يعني أن الميتافيزيقيا في نظر الكنيسة هي نوع من العلوم كما تحدث بذلك بعض مفكري القرون الوسطى، من أمثال الثيولوجي الدومنيكاني توماس الأكويني والفرانسيسكاني جون دون سكوت وغيرهم. وهم يعتقدون أن العقل البشري صنع بطريقة تجعله يتعرف على الحقيقة وهو قادر على بلوغ هذه الغاية التي هي سبب طبيعي لتكوينه. بعبارة أخرى أن الكنيسة الكاثوليكية بشرت وثقفت بنوع خاص من " العقلانية" المسيحية، إذ مالذي يتبقى من المسيحية بدون الثيولوجيا، أي بدون التفكير بتجليات الخالق ؟. فوجود الله ليس مسألة " إيمان محض" فقط بالمعنى المعاصر لمفهوم الإيمان، وليس فقط مجرد اعتقاد ، بل ترتبط بمفهوم المعرفة التي يحيكها ويتوصل إليها العقل والذكاء البشري. فوجود الله يفترض به أن يكون مسألة بديهية بمجرد النظر بآثاره الطبيعية فهي وحدها كافية لإثبات وجوده، فالإيمان لا يتعلق بوجود الله ، الذي هو أمر بديهي، بل بمدى مصداقية وحقيقة " كلام الله" الذي يبثه الأنبياء والحكماء. وإن المسيحية تريد أن تعلمنا بأصل الكون وغاية خلقه القصوى وليس الغرق بما يسمى " اللغز الدائم le mystère لأن هذه الكلمة لها معنى في الإنجيل يختلف عن معناها المعاصر الذي يعني الشيء الغامض الذي يتعذر على العقل البشري فهمه واستيعابه أو إدراكه ومغلق على الذكاء البشري في حين تعني في الإنجيل " السر" والسر ليس مغلقاً على العقل والذكاء البشري أو يتعذر خرقه، بل بالعكس يعمل الخالق على إرشاد عقول مخلوقاته على كشف أسراره كما تقول المسيحية الكاثوليكية. ما يعني أن المسيحية تقدم نفسها على أنها نظرية عامة عن الواقع كما صنعه مبدعه أي الله. مقابل ذلك هناك الطرح المادي العقلاني التجريبي العلمي الذي يمكنه أن يدلي بدلوه في مسألة وجود " الله" ومن جراء ذلك ظهرت الحركة الإلحادية في التاريخي البشري والتي قالت بعدم ضرورية فرضية الله، وهذا يعني من الناحية الفلسفية أنه لو كانت الأطروحة الإلحادية صحيحة فهذا يعني أن الكون هو الكائن المطلق الكلي الذي لا توجد لديه علاقات تبعية أو اعتمادية ، أي يكون معتمداً على كينونات جانبية أخرى مجاورة له وبالتالي يجب أن يكون وحده ، وحيداً لم يخلقه أحد ولم ينبثق من " العدم " السابق لوجوده. ولقد اتفق الميتافيزيقيون حول هذه النقطة، سواء الماديون منهم أو الميثاليون أو التوحيديون . فالكينونة الكلية العليا المطلقة لا يمكن أن تنشأ من العدم المطلق وبالتالي لابداية لها ولا نهاية . إلا أن الفروقات بين مختلف الرؤى تمحورت حول التعريف. فالميتافيزيقيون الماديون ـــ الماركسيون على وجه التحديد ــ يقولون أن هذه اليكنونة الضرورية للوجود ، بما أنه موجود ، هي المادة البدية الأزلية التي لم تخلق ولا تستهلك ولا تفنى ــ وفق قانون حفظ المادة والطاقة ــ أما الميتافيزيقيون المثاليون أن الكينونة الألى يجب أن تكون ذات طبيعة " روحانية " والتوحيديون يقولون أن هذه الكينون المطلقة هي " الله" الواحد الأحد" قل هو اله أحد الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد" كما ورد في القرآن. وفي كل الأحوال أن هذه " الكينونة المطلقة" ليس لها امتداد زمني أو مكاني ، لا في الماضي ولا في المستقبل.
هذا ما علم به الفيلسوف الإغريقي بارمنيد حوالي 500 قبل الميلاد كما قلنا أعلاه، ما ينتج عن ذلك أن العدم غير موجود وحتى في علم الكونيات لايوجد شيء إسمه العدم لأنه يعني نفي الوجود كما حلل الفيلسوف بيرغسون عام 1907. وبما أن الكون موجود فلا بد من كينون ضرورية توجد ، إما سابقة له أو خالقة له أو خارجه وعلى علاقة ما به، لأن الكون المرئي مخلوق إذ بطريقة ما، في نقطة زمنية معينة تحددت بالفرادة الكونية التي أوجدت الانفجار العظيم، أي أن للكون المرئي تاريخ وامتداد زماني ومكاني، وهو لم ينبث من العدم بل من " معلومة حاسوبية رقمية " سابقة له. وهذا ما أحرج الميتافيزيقية المادية التي تقول بابدية وأزلية المادة وفق ماركس وأنجلز ولينين وقبلهم فلاسفة ومفكرون ماديون قالوا بذلك منذ خمسة وعشرون قرناً مضت، منذ الفلاسفة الذريون في العهد الإغريقي، وأطروحة العظيم بارمنيد. فعلم الفلك والفيزياء الفلكية وعلم الكونيات أثبتت أن للكون المرئي بداية تعود إلى 13.8 مليار سنة. وهو الأمر الذي تشبث به الميتافيزيقيون المثاليون والتوحيديون لإثبات أطروحتهم بخصوص " ضرورة وجود كينونة مطلقة خالقة لهذا الكون المرئي. وللخروج من هذا المأزق الفلسفي وجد العلماء مخرجاً علمياً لكنه يحتاج إلى الإثبات والبرهان والدليل التجريبي ، ألا وهو فرضية تعدد الأكوان ، وإن " الكون المطلق" الذي يضم عدد لانهائي من الأكوان"، ومن بينها كوننا المرئي الذي نعيش فيه ونعرفه وندرسه ، هي بمثابة جسيمات أولية على غرار الجسيمات الأولية التكوينية المكونة للكون المرئي، هو " الكينونة المطلقة" الأبدية الأزلية السرمدية الحية المتطورة دوماً وكل شيء حي وغير حي هو جزء منها ومن مكوناتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت