الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اَلْتَحَدِّي اَلْتَّاْرِيْخِي لِلْنُّخْبَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة ..!

فيصل عوض حسن

2018 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية



أوضحتُ في مقالي السابق (اَلْسُّوْدَاْنِيُّوْنَ وَأَزْمَةُ اَلْثِقَة)، أنَّ جميع كياناتنا تفتقد الفكر (الاستراتيجي)، والقيادات القادرة على تحديد الأهداف وكيفيَّة بلوغها، وتركيز غالبيَّتهم على مصالحهم الماليَّة والسُلْطَوِيَّة، مما أفقد هذه الكيانات (ثِقة) الشعب السُّوداني، وأصابته بـ(الارتخاء) وليس الاستسلام، حِيَال الأوضاع المأزومة الماثلة. وسأطرح في مقالتي هذه، مُقترحاً اجتهدتُ لأن يكون (علمياً وعملياً)، لتجاوُز هذه الإشكاليَّة واللحاق بما تبقَّى من البلاد وأهلها.
في هذا الإطار، فإنَّنا نحتاجُ لتجديد الفلسفات الطَّاغية على مُمارساتنا السياسيَّة، بتعزيز مبدأ المنافع العامَّة والاستفادة من تنوُّع السُّودان، ومن المزايا التي يُتيحها هذا التنوُّع وإكمال بعضنا البعض، واستلهام الدروس من التجارُب المُعاصرة، بدلاً من الفُرقة والاحتراب، وهو مطلبٌ يُمكن تحقيقه باستراتيجيَّةٍ رصينة، مشفوعة بأدوات وأُسُس مُتابعة وتقييم وتقويم دقيقة. وبعبارةٍ أُخرى، نحتاجُ لتسخير العلم والتجارُب العقلانيَّة، بدلاً عن الأمزجة الشخصيَّة والمُمارسات الفرديَّة، والأفكار المنقولة (دون مُواءَمة)، وتعزيز روح الجماعة والفريق الواحد، وتغيير التفكير النَّمَطي والتركيز على ما يُمكن تحقيقه، وفق المُعطيات المُتاحة (ماليَّة، ثقافيَّة، اجتماعيَّة ونفسيَّة...إلخ). كما نحتاجُ بشدَّة لتعظيم الشأن القومي (تراب البلد) على ما دونه، كالاتجاهات الحزبيَّة والجَهَوِيَّة/القَبَلِيَّة الضَيِّقة، ليُصبح استقرار السُّودان وتطويره هو الهدف الأوَّل والأهم.
الفئة الوحيدة القادرة على بلورة المرامي أعلاه لواقعٍ ملموس، هي النُخْبَةُ السُّودانيَّة ذات المُؤهلات/الدرجات الأكاديميَّة العُليا والخبرات العمليَّة المشهودة، سواء المُستقلِّين أو الذين تزدحم بهم كياناتنا المُختلفة، وذلك بإشرافهم على إعمال الفكر والعمل (الاستراتيجي)، وتقييم الماضي وتحليل الحاضر داخلياً وخارجياً، وتحديد الأهداف المُستقبليَّة (المُمكنة) وكيفيَّة تحقيقها. وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ نُخْبَتنا مُطالَبَة أكثر من أي وقتٍ، بتعجيل تهيئة/تجهيز رُؤية استراتيجيَّة شاملة، قابلة للتطبيق، لإدارة/تسيير السُّودان عقب التغيير، لاستعادة ثِقة السُّودانيين وتحفيزهم على الثورة، وليس انتظار الأزمات الإسْلَامَوِيَّة ودعوة الشعب للخروج دون هُدى! فالسُّودانيُّون يهمَّهم بالدرجة الأولى (كيف) سيحكم البديل، ومدى امتلاكه لـ(برنامج) نَّاضج وقابل للتطبيق، بما يُعزِّز إحساسهم بالأمان على أنفسهم وبلادهم، وهو (الوَتَرُ) الحَسَّاس الذي يتلاعب به المُتأسلمين، ويُسيطرون به على تَحرُّكات وتفاعُلات الشعب، وهذه إشكاليَّة لم تستوعبها جميع كياناتنا حتَّى الآن، ولم تَسْعَ لتجاوُزها ومُعالجتها بصورةٍ (عمليَّة).
وكخطوةٍ عمليَّةٍ أُولى، اقترحُ إسراع نُخبتنا السُّودانيَّة بتقسيم أنفسهم لمجموعات، وفق تخصُّصاتهم العلميَّة المُختلفة (العامَّة والدَّقيقة)، والعمل على إعداد/تجهيز استراتيجيَّات قطاعيَّة شاملة، تحوي المحاور/الأهداف العامَّة المُتوقَّعة للقطاع المعني، وفق الإمكانيات المُتاحة فعلياً، وتحديد التفاصيل (الدقيقة) لخطط العمل التنفيذيَّة (طويلة، مُتوسِّطة وقصيرة)، وفترات وآليات وأُسُس المُتابعة والتقييم والتقويم/المُعالجات، بما في ذلك شكل الحكم أو التنظيم الإداري المُقترح للسُّودان عقب التغيير، ومُكوِّناته وعناصره والمُتطلَّبات/الشروط المطلوبة لشغل الوظائف، أخذاً في الاعتبار قُدراتنا الاقتصاديَّة/الماليَّة، وأوضاعنا السياسيَّة/الأمنيَّة والاجتماعيَّة المُعقَّدة، و(حَتميَّة) احتوائها ومُعالجتها بصورةٍ عَادِلَة ومُرْضِيَةٍ للجميع. وعقب الفراغ من تجهيز الاستراتيجيات القطاعيَّة، يتم تجميعها لتُشكِّل (الرُؤية) العامَّة لتسيير الدولة ككل عقب التغيير، وإتاحتها للشعب السُّوداني وللكيانات الرَّاغبة بجدِّيَّة في اقتلاع المُتأسلمين، خاصَّةً قطاع الشباب القادرون على إدارة السُّودان بمسئوليَّةٍ وتَجَرُّد، من واقع تضحياتهم الصادقة والمشهودة، ويحتاجون فقط لخبرات النُخبة وإرشادها ونصائحها. ويُمكن إعداد هذه الاستراتيجيَّات القطاعيَّة بسرعةٍ ودِقَّةٍ وواقعيَّة/موضوعيَّة، عبر نُخبتنا المُتخصِّصين (كلٌ أدرى بمجاله) كالصحَّة والتعليم والاقتصاد والزراعة وغيرها، فضلاً عن العسكريين اعتباراً للأوضاع الأمنيَّة الحاليَّة، واحتواء ما قد يحدث عقب التغيير، بما يُعزِّز الثقة الشعبيَّة ويُعجِّل بالثورة، بعيداً عن التَقَافُزِ والمُتاجَرَةِ وتدوير الفشل.
ومن الأهميَّة أن تُركِّز محاور استراتيجيتنا العامَّة المُقترحة، على هدفين رئيسيين هما التنمية ورفع الوعي، لامتصاص ومُعالجة أخطر أزماتنا التي صنعها المُتأسلمون، وعملوا على ترسيخها وتغذيتها ليضمنوا بقاءهم. فالتنمية تشمل الاقتصاد بتعقيداته وتحدِّياته الماثلة، وقطاعاته ومُكوِّناته المُختلفة، كالقطاع الزراعي بشقَّيه النَّباتي والحيواني، والقطاعين الصناعي والسياحي، فضلاً عن الخدمات الأساسيَّة والمُساندة. وأمَّا رفعُ الوعي، فيكون باستراتيجيَّةٍ تعليميَّةٍ شاملة للجانبين الأكاديمي والأخلاقي/التربوي، مع إفراد مساحة كبيرة لمُتخصِّصي الاجتماع وعلم النفس، لمُعالجة واحتواء أزمة الجَهَوِيَّة/القَبلِيَّة والتفكُّك الاجتماعي والتراجُع الأخلاقي بصفةٍ خاصَّة، ويتم دعمها بقوانينٍ وتشريعاتٍ دقيقةٍ جداً، لمُحاسبة ومُحاكمة كل من أجرم في حق السُّودان وأهله من جهة، ولضمان نجاح مُحتويات الاستراتيجيَّة العامَّة، خاصةً الجانب الاجتماعي والنَّفسي من جهةٍ ثانية. وفي نهاية فترة الاستراتيجيَّة، يجري تقييمها وفقاً للمعايير والأُسُس الموضوعة مُسبقاً، ومن ثُمَّ طَرْح النتائج والمُعالجات المُقترحة على الشعب ليُقرِّر بشأنها.
إنَّ الهدف من هذه الاستراتيجيَّة/الرُّؤية العامَّة، ليس فقط إقناع الشعب بالثورة، وإنَّما تأسيس مبادئ الإدارة العلميَّة، وهي ثقافةٌ نفتقدها في السُّودان منذ الاستقلال وحتَّى الآن، ودفعنا الثمن غالياً وسندفعه أكثر لو لم نُعدِّل مَسَارِنا، ولقد آنَ الأوان لنحتكم للعلم ومُواكبة التطوُّرات/المُستجدَّات الدَّاخليَّة والخارجيَّة، والابتعاد عن العواطف والأمزجة الشخصيَّة. والأهمَّ من هذا، نحن بحاجة لبرنامجٍ جاهزٍ ومعلومٍ ومدروسٍ بعناية، ومعرفة ماذا سنفعل وكيف ومتى، منذ الساعة الأولى لاقتلاع الكيزان، فالظروف الاستثنائيَّة الحاليَّة أو القادمة، لا تحتمل التسويف أو التفكير اللاحق، بخلاف تَقَاطُع ذلك مع المُؤسَّسيَّة التي تتطلَّب التخطيط الواقعي المُسبق. وهنا، قد يقول قائل بأنَّ لدى بعض القُوَى (رُؤى) لما بعد التغيير تجد القبول. وفي هذا أقول، بأنَّ الموجود الآن عبارة عن أماني/آمال، تفتقر لوسائل/أدوات (كيفيَّة) بلورتها لواقع، فجميعها يستحيل تحقيقه قياساً بإمكانياتنا المُتاحة فعلاً، بخلاف عدم تحديد (العناصر/المُكوَّنات) اللازمة لتحقيقها، ولا آجالها أو أُسُس مُتابعتها وتقييمها وتقويمها، فما زلنا نتعامل بالعواطف ونُركِّز على (دَغْدَغَة) المشاعر بالشعارات/الهُتافات النظريَّة. أمَّا (الرُؤية/الاستراتيجيَّة) الرَّصينة والموضوعيَّة/القابلة للتطبيق، فترتكز على عناصر مُحدَّدة أهمَّها (قُدْرَاتنا) الفعليَّة، يعني (مَدَّ الرِّجِل قَدْرْ اللِّحَافْ)، إذ لا يُمكن تحديد أهداف لا نملك مُقوِّماتها/مُتطلَّباتها، كشكل الحكم (التنظيم الإداري للدَّولة)، ومَنْحْ العطايا والمزايا وغيرها من الأمور ذات العلاقة.
نعم هناك مظالمٌ كثيرةٌ أحْدَثَها المُتأسلمون، تتطلَّب جَبْر الخواطر وإنصاف المظلومين، ولكن هذا لا يتحقَّق بوعودٍ وأهدافٍ خياليَّة، وإنَّما بمنطق (القُدرة) أي الواقعيَّة، خاصةً على الصعيد الاقتصادي/المالي والسياسي والأمني والاجتماعي، وهذا لا يعني إغفال العدالة والمُساواة والمُواطنة والحُرِّيَّة وغيرها من المرامي الساميَّة، وإنَّما العمل على تحقيق هذه الأهداف دون شَطَط، وتحقيق التوازُن مع جهود التنمية والتطوير، وهو أمرٌ مُمكنٌ جداً لو التزمنا بمبادئ الإدارة العلميَّة التي أشرنا لبعضها أعلاه. ويُمكن القول بأنَّ نُخَبتنا أمام تحدٍ تاريخي، يفرض عليها نشر الوعي والتوجيه والإرشاد (قبل وبعد) التغيير، ومُتابعة وتقييم وتقويم سُبُل استقرار ونهضة السُّودان وأهله. فالشعب السُّوداني لا يحتاجُ لعرض/تفسير أزمات المُتأسلمين وإجرامهم، ولا يحتاجُ لبيانات الشجب والتضامُن، أو دعوات مُقاطعة انتخابات 2020 وغيرها من الأمور غير المُجْدِيَة، فالتخريب الإسْلَامَوِي المُتسارع لا يسمح بصمود السُّودان وأهله لعامين آخرين، وحتَّى لو صَمَدنا فلا فائدة من مُقاطعة انتخابات جماعة إجراميَّة كاذبة وغَادِرَة أو مُشاركتهم فيها.
إنَّ السُّودانَ وأهله بحاجة مَاسَّة وسريعة، لعلوم وخبرات نُخبته وبلورة حلول/مُعالجات عمليَّة، تنتشل البلاد من القاع الذي بلغته، وتعزيز الإحساس بعدم تكرار وتدوير الفشل. ويُمكن لنُخَبِنَا السُّودانيَّة البدء فوراً في إعداد وتجهيز الاستراتيجيات القطاعيَّة، عبر مجموعاتٍ صغيرة في حدود (6-8) خُبراء في كل تخصُّص، والاستفادة من سهولة التواصُل الإلكتروني، وبعدها سينضم العديدون بعدما تَثْبُتَ (الجِدِّيَّة/الفعاليَّة)، وكلما سارعنا بتجهيز الرُّؤية اقتربنا من تحقيق الثورة الحقيقيَّة ونجاحها والعكس صحيح، فإمَّا ثورةٌ حقيقية نصنعها ونرعاها نحن السُّودانيُّون للخلاص والانعتاق، أو البقاءُ في استكانتنا انتظاراً لحتفنا المحتوم على أيدي المُتأسلمين.. وللحديث بقيَّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات