الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلطة التلقي ومصداق الزمان

محمد رحيم مسلم

2018 / 6 / 19
الادب والفن


محاورةٌ أخرى
لم يكن في التقييمات المعرفية أن تكون المقاييس التي يُعتمد عليها في العلوم العامة والفنون ، خاضعةً لمفاهيم ومصاديق انطباعية بالكامل ، أو ذاتية ، نفسية بشكل خاص ، بقدر ما تنظر للمناهج والموازين الاستقرائية ، في معرفة فيما إذا كان النوع ( المُنتَج ) ــــ فكراً كان ، أم اجتماعاً ، أم أدباً وشعراً ـــــ هو يتناغم مع القارئ والمتقبل له ، أو لا .
بالمقابل فإن هذا المتلقي وبشكل تلقائي ، قد ينسجم مع مقاييس أخرى ، لها علاقة بالمنجز ، فمنها ما يتعلق بالزمان والمكان ، وآخرٌ يتعلق بنوعية هذا المنجَز ، ومدى احتوائه على المميزات والصفات ، التي يطلقها كلٌّ من : القارئ ، والمنهج العلمي ، والذي يهمنا هو عامل الزمان ، باعتباره تشكلاً أوسع وأشمل من دائرة التأريخ وغيره ، ومحتوي له .
إنّ كثيراً من الاشتغالات النقدية والتحليلية ، تعمد لمقاربات بين المنجَز ( الأدبي ، والفني ) على وجه التخصيص ، في إطار مراعاة عاملي الزمان المكان ، باعتبارهما صنوان لا يفترقان ، مبتغية في ذلك الوصول إلى نتائج ومفاهيم تُخرِج المنجَز من دائرته النشئية ، إلى مجالٍ وفضاء أوسع في التلقي ونقده ، مراعية البنيات التي منها ما يتعلق بالمُنجَز ، وآخر ما يتعلق بالمُنجِزِ له ( المتلقي ) ، وقد تُغفَل بعض العلائقيات ، كالعنوان بمفهومه العام ، والنصوص الموازية وغير ذلك . إلّا أنّ فهمَ المنجزِ في ضوء تغيّر عاملي الزمان والمكان ، قد يغفل عنه الكثيرون نقداً وتحليلاً ، فلو عرضنا قصيدة ما من قصائد المعلقات على متلقٍ لها ، فالملاحَظ أنّه قد لا يستذوق قراءتها بمثل العربي الذي كان يقرأها قبل ألف سنة أو أقل من ذلك ، فعملية التذوق قد لا تتطابق مع سابقتها ، فضلاً عن متعةٍ جديدةٍ تتولد لدى القارئ الجديد ، فمن الطبيعي أنّ ذلك وُجِدَ على أساس التغيّر لكلا الطرفين ، فالزمنُ لم يبق كما هو ، وذهنية الفرد لا تستقر بنمطيةٍ واحدة ، سلباً أم إيجاباً .
إنّ هذه السطوة قد تسحب القول إلى كثيرٍ من مناطق الاشتغال ، فليس بعيداً أن يكون مجتمعٌ كان ينظر إلى ( نص منزّل من السماء ) بدهشةٍ ، واستقرائية فلسفية ، ليصبح مجتمعاً يقرأ النص باعتيادية ذاتية ، رغم كل التنقيبات والحفريات التي أظهرت منه إعجازاً وعلماً ، فتغاير المتعة واختلافها عن ذي قبل كفترة نزل بها وحتّمت على الموجودين بضمنها أن يعيشوا دهشة لا مثيل لها .
ولا غرو أن تجد ـــ كما أسلفنا ــــ كثيراً من النصوص والنتاجات تأليفاً كانت أم تجسيداً ــــ كالتمثيل والفن التشكيلي وغير ذلك ـــــ ينتج عن متابعتها سابقاً وفي لحظات وجودها ، أو بعد مضيء عقد من الزمن ـــــ نوعاً استقرائياً مغايراً عن سابقه ، فمشاهدة فيلم مثلاً ( حافات المياه ) كان له من الأثر في النفوس ما يُتوقف عنده ، في وقت أصبح الآن لا يُعطي تلك الإمتاعية والتأملية كما هو سابقاً .
طبعاً أن هذه الاستقراءات قد لا تسر على بعض النصوص ، فلوحة الجيوكاندا أو الموناليزا ، للرائع ليوناردو ديفنشي ، لا زالت تعطي أبعاداً فنية وتصورات جديدة كلما دققوا النظر إليها ، كما أن شعر الصعاليك لا زال يُقرأ وفق معايير موضوعية جديدة ، ولو كانت قد طُبّقت مثلاً في وقت كتابتها ، لخرجوا بنتائج غير متوقعة ، أو تجد مثلاً كتاب ( نقد الشعر ) لقدامة بن جعفر ، قُرأ ولا زال يُقرأ بنفس الذوقية والوقوف أمامه باحترام شديد ، وبتأمل واستقصاء لمكنونات التأليف فيه ، أو تجد كتاب ( فن الشعر ) لأرسطو رغم تعدد الأزمنة عنه ، إلا أنّه لم تتغير متعة قراءته ومتَقَبَلاً عند تلقيه ، أو قد تجد شعر السياب مثلاً كان يُقرأ في وقته من الطالب ، والمسن ، ويسمعه حتى الكاسب وأصناف أخرى ، بحسب ما كان من ثقافة آنذاك ، إلا أنّه اليوم بات لا يُقرأ إلا من قبل فئةٍ قليلة من الذين يتذوقونه ، ويعون مسألة الشعر ، بل تجد أنّ كثيراً من المثقفين يميلون لأدب الهزل أو ( الطرفة الشعبية ) فالعامل في ذلك هو متغير الزمان الذي تعلقت به ـــ مع ظروف وأسباب أخرى ــــ ذائقية القارئ والمتلقي في فهم النص ، ويكاد ينسحب هذا الاستقراء إلى الأفلام السينمائية التي هي وإن كانت تعرض بإمكانات بسيطة ، إلا أن متعة القارئ أختلفت عنها وتختلف بعد عقد من الزمن ، فمثلا فيلم صراع الوحوش ، أو فانتازيا ، أو حتى النتاجات الدرامية العربية القديمة ، فهذه وعند مشاهدتها اليوم ، لا يحكم الزمن لصالح العمل بقدر ما يكون بجانب المتلقي ، حين لا يستشعر تلك المتعة والشوق الذي كان يشعرهما قديماً .
إن مبدأية الثابت والمتغير هنا تشتغل بمسافة أوسع من مفهومها ، فمصداق الثابت يوازي مفهوم ( النص المنتج ) ــــ عملاً فنياً كان ، أم درامياً ، أدباً ، أم فكراً ـــــ إذ هو يبقى نصاً قد أُنتج في وقت ما ، ولمتلق ما ، في حين نجد أن المتغير هنا يأخذ مساحة أوسع من قبل ، فالزمن ليس الزمن الذي أُنتج به النص ، ولهذا فذوقية المتلقي ، لا تتعدى فترة محدودة ، وتغيرها لا يمكن الجزم به كلياً ، بقدر مايكون نسبياً ، فأمام هذا التقابل ، نجد هناك سطوة للذة ، وهي تقيدة بتغير الزمان ، ومصداقها متقيد بتلقي الآخر للنص المنتج ، مهما كان شأنه ونوعه ، وبظل كل ذلك تبقى الذائقية ذاتاً لا يلتزم بإحكام التأريخ بقدر ما تتمرد عليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي